ميلان كونديرا "كائن لاتحتمل خفته"
بقلم: شريف الوكيل
خفة الكائن التي لا تحتمل تدور حول غموض ومفارقات الوجود البشري ، حيث يتأرجح كل شخص بين الخفة والوزن وبين الحلم والواقع، بين الإيمان بأن كل شيء هو عودة أبدية ومفهوم نيتشه أن الحياة ظاهرة دائمة الاختفاء...في بداية الكتاب طرح الكاتب سؤالا هل ممكن للمتضادات أن تجتمع في الشيء أو الشخص نفسه؟ فقط البارع ميلان كونديرا استطاع أن يجمع هذه المتضادات .
ولنقترب أكثر من فكر التشيكي ميلان كونديرا، يجب ذكر تاريخ تشيكوسلوفاكيا
حيث كانت في الواقع منطقتان منفصلتان داخل الإمبراطورية النمساوية المجرية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، بينما كانت مختلفة تماما في مصالحها واهتماماتها وتصنيعها ، وبعد الحرب العالمية الأولى أعلنت المنطقتان استقلالهما باسم جمهورية تشيكوسلوفاكيا. لقد كانوا ديمقراطيين لفترة وجيزة في السنوات ما بين الحربين العالميتين، وبعد هزيمة الألمان ، أعيد تأسيس تشيكوسلوفاكيا ليمارس الاتحاد السوفيتي نفوذه عليها وفي عام ١٩٤٨ استولى الشيوعيون على السلطة ، وأسسوا حكومة تشبه إلى حد كبير حكم جوزيف ستالين في الاتحاد السوفيتي، خلال الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الماضي ، حكم الحزب الشيوعي جميع مجالات الحياة ، بما في ذلك الحكومة والفن والتعليم والثقافة.
ليتقدم الكتاب والفنانون مطالبون بإجراء المزيد من الإصلاحات بسرعة... لم تتوافق الفكرة جيدا مع دول حلف وارسو ، ولا سيما الاتحاد السوفيتي ، الذي لم يكن يريد أيا من الدول التابعة له أن تغير مداراتها بشكل كبير، وخاطب ميلان كونديرا نفسه مؤتمر الكتاب التشيكوسلاف الرابع ودعا إلى مناقشة مفتوحة ووضع حد للقمع والرقابة. عوقب العديد من الذين تحدثوا في هذا الاجتماع... ولكن هذه العقوبة لم تضع حدا للضغط من أجل الإصلاح، ونتيجة لذلك غزت قوات الاتحاد السوفيتي ودول الكتلة الشرقية الأخرى تشيكوسلوفاكيا... أدى الاحتلال إلى إنهاء حركة الإصلاح، وأسس السوفيت نظاما جديدا كان قاسياً وقمعيا، فالكتاب مثل كونديرا فقدوا وظائفهم ومنعوا من التحدث علانية أو نشر أعمالهم. لمدة سبع سنوات ، لم يسمح لكونديرا بالسفر إلى الغرب... ظلت الظروف في تشيكوسلوفاكيا على حالها إلى حد كبير حتى أصبحت تشيكوسلوفاكيا دولتين مستقلتين ، تعرف الآن باسم جمهورية التشيك وسلوفاكيا .
الرواية تقع أحداثها في براغ في عام ١٩٦٨ ، وتفصل ظروف وحياة الفنانين والمثقفين في تشيكوسلوفاكيا الشيوعية في أعقاب ربيع براغ، والغزو اللاحق من قبل الاتحاد السوفيتي. .. الأبطال الرئيسيون في الرواية هم: توماس وهو جراح مشهور وناجح، تيريزا النادلة والمصورة، ثم سابينا حبيبة توماس، وعشيق سابينا فرانز.
تحكي كل من الرواية والفيلم ، قصة جراح شاب يحاول أن يطفو فوق العالم الدنيوي من المسؤولية الشخصية والالتزام بممارسة حياة جنسية خالية من المرور بالقلب ، للهروب من عالم المتعة الحسية مع الاحتفاظ بخصوصياته وحياته دون الشعور بالوحدة، بحلول نهاية القصة ، أصبحت هذه الحرية عبئا أكبر من أن يتحمله.
يعيش الجراح توماس في براغ ، لديه تفاهم مع امرأة تدعى سابينا ، رسامة هدفها هو نفسه - أن تكون لها علاقة جسدية بدون علاقة عاطفية... يعتقد العاشقان أن لديهما الكثير من القواسم المشتركة ، لأنهما يشتركان في نفس الموقف تجاه أزواجهما ، ولكن في الواقع تشترك علاقتهما الحميمية أكثر ، في أحد الأيام وأثناء انتظار الطبيب في محطة قطار إقليمية ، وقعت عيناه على نادلة شابة ، تيريزا... يطلب منها شراب، تلتقي عيونهم. يذهبون في نزهة قصيرة بعد خروجها من العمل ، ومن الواضح أن هناك شيئا مميزا بينهما. ثم يعود إلى براغ.
ذات يوم تصل تيريزا إلى المدينة... لقد جاءت لتكون معه، وخلافا لكل مبادئه ، يسمح لها بقضاء الليل عنده ، ثم الانتقال، في النهاية يتزوجان. لقد خان قانونه الخاص للخفة أو الحرية... تنشأ قصة حب توماس وتيريزا في سياق أحداث عام ١٩٦٨، ووسط أعمال الشغب ضد الغزو الروسي،، تهتم تيريزا بتصويرها وتحاول تهريب صور الانتفاضة إلى خارج البلاد... أخيرا يغادر العاشقان براغ إلى جنيف ، حيث ذهبت سابينا بالفعل ، ثم يستأنف توماس علاقته الجنسية مع سابينا ، لأن فلسفته ، بالطبع ، هي أن الجنس لا علاقة له بالحب.
وحاولت تيريزا تجربتها الخاصة مع الحب (الحر) ، لكنها لم تنجح ، لأن قلبها لم يُبنى بهذه الطريقة. في غضون ذلك ، تقابل سابينا أستاذًا يُدعى فرانز يقع في حبها بشكل عاجل لدرجة أنه قرر ترك زوجته. هل تستطيع أن تقبل هذا الحب؟ أم أنها أكثر التزاما بـ "خفة الوجود" من توماس ، الذي علمها هذه الفلسفة؟ في خضم تردد سابينا ، ظهرت تيريزا على بابها وهي تحمل كاميرا. طُلب منها أن تأخذ بعض اللقطات لمجلة أزياء ، وتحتاج إلى شخص لتظهر عارية. توافق سابينا ، وتصور المرأتان بعضهما البعض في مشهد تم تصميمه بعناية بحيث يصبح باليه للإثارة الجنسية.
في هذه المرحلة من الفيلم يحمل "خفة الكائن التي لا تحتمل" شعورا بالحنين العميق ، إلى وقت لم يعد موجودا ، عندما فعل هؤلاء الأشخاص هذه الأشياء وكانوا يأملون في السعادة ، وكانوا عالقين في أحداث خارجة عن سيطرتهم.
يحقق المخرج فيليب كوفمان هذا التأثير تقريبا دون أن يحاول. في البداية يبدو أن فيلمه يدور حول الجنس بشكل حصري تقريبا ، ولكن بعد ذلك نلاحظ في عدد لا يحصى من اللقطات الفردية وقرارات الكاميرا أنه لا يسمح للكاميرا الخاصة به بأن تصبح متلصصة، هناك الكثير من العري في الفيلم ولكن لا توجد جودة وثائقية إباحية ؛ الكاميرا لا تطول أو تتحرك للحصول على أفضل رؤية أو تستمتع بمشهد العري. والنتيجة هي بعض من أكثر المشاهد الجنسية المؤثرة والحزينة التي رأيتها حسية ، نعم ، لكنها حلوة بمرارة...أيضٱ كان الفيلم أخف من ثقل الرواية، ولكنه «شريط بصري» جيد في ذاته...
حاول كوفمان التخلص من سيطرة كونديرا الروائية... معروف أن الرواية تتناول الكثير من الخواطر والأفكار الفلسفية، حول الوجود الإنساني، اكتر من تتبعها لحكاية بالشكل التقليدي، وما حدث أن فيليب كوفمان، مخرج الفيلم، وكاتب السيناريو جون كلود كاريير، قررا أن يصنعا الفيلم دون أن يحاصرهما كونديرا بسرده ...فقد كان الماضى عند كونديرا هو العنصر الأساسي الذي يعكس من خلاله اختلاف المعنى والوجود في حاضر ابطاله، اما في الفيلم يقوم كوفمان بجعل الحكاية عن الحاضر كله، ويعيد ترتيب السرد ليصبح في تتابع منتظم، ويجعل الشخصية ٠الرابعه في الرواية "فرانز" هامشية، ليصبح الفيلم هو حكايه حب ، أو مثلث حب مختلف عن أغلب ما عرفته السينما قبلها...كان للمخرج رؤيته البصرية الخاصة في اعتماده على نقطة اساسية في الرواية، وهي انه لا يمكن للإنسان ابداً أن يدرك ماذا عليه ان يفعل، لانه لا يملك الا حياة واحدة؟، وبالتالي فهو حائر وسط خيارات محتملة لا يعرف أفضلها، وهو ما يعبر عنه توماس في أحد المقاطع: "لو كانت لي حياتان، كنت سأطرد تيريزا من واحدة واتركها لتعيش معي في أخري، ثم اري اي الفعلين أفضل وأقوم به، ولكننا نعيش مرة واحدة"...طوال الفيلم، هناك معادل بصري لهذه الحيرة والانقسام الموجود داخل توماس، بين الخفه وحيدا وبين الثقل الذي تمثله حياته مع تيريزا وهو أمر تتم ملاحقته بالمرايا العديدة الموجودة في الفيلم، أو بالنور والظّل احيانٱ .
إن اختيار الممثلين له علاقة كبيرة بهذه الجودة المؤرقة، حيث يلعب دانيال داي لويس دور توماس بنوع من الانفصال الذي من المفترض أن يأتي من نفور الشخصية من الالتزام. لديه نظرة فكرية رشيقة ، وليس شعوريا. بالنسبة له ، يبدو الجنس كشكل من أشكال التأمل الجسدي ، وليس نشاطا مع شخص آخر. تتمتع لينا أولين وشخصية سابينا ذات الجسم الخصب الحسي، والصدر الكبير ، لكنها تسكنه بشكل مريح لدرجة أن الفيلم لا يبدو أنه يسهب فيه أو يستغلها، إنها حقيقة من حقائق الطبيعة... أما جولييت بينوش في دور تيريزا ، تكاد تكون أثيرية في جمالها وبراءتها ، ومحاولتها التوفيق بين حبها، وانفصال عشيقها، هي على الأرجح قلب الفيلم.
يبدو أن معظم أعمال ميلان كونديرا ، إن لم تكن جميعها تنظر إلى الإثارة الجنسية بقدر من الأسى ، وكأنها تقول إنه بينما كانت شخصياته تمارس الحب ، فإنها في بعض الأحيان مشتتة عن الطبيعة المأساوية لوجودها...ولكن فلنكن صرحاء ميلان كونديرا نفسه، كائن لا تحتمل خفته، والكتاب لا تحتمل خفته بقدر مالا يحتمل ثقله... فما هي الخفة وما هو الثقل..؟
وماهو مبدأ الخفة والثقل؟ ايهما الجيد وايهما السيء..؟ ماهو العود الابدي..؟ كيف للإنسان أن يختار، وهو لم يحيا إلا حياة واحدة ولن تتكرر..؟ هل يحق له أن يخطئ
أسئلة عميقة يطرحها الكاتب، ويجيب عنها بمنظوره الخاص ليصل في نهاية الكتاب الأفكار التي أراد للقارئ أن يفهمها...تحدث عن الخيانة من عدة أوجه، تحدث عن الحرب والأحزاب وعن القوة أيضاً والضعف
من خلال المحاور الأساسية للشخصيات الأربعة التي تدور حولها سرد الأحداث المختلفة عن سرد الروايات العادية فاسلوب كونديرا هو ان يشارك القارئ بأفكاره وتساؤلاته الفلسفية وبقصص خارج إطار الأحداث كقصة ابن ستالين وقصة مقطوعة بيتهوفن الرابعة، وتوجهاته السياسية وحزنه على خسارة وطنه الأم (تشيكوسلوفاكيا) والاجتياح الروسي لها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وكرهه للانظمة الشمولية الحاكمة، وايديولوجية الأحزاب اليسارية... وربما لإسلوب سرد ميلان كونديرا هذا يجعل إعادة التجربة شيء ليس منه بد .
وكالعادة مع روايات كونديرا، ووصفه المستفيض للعلاقات الخاصة، قد لا تخلو صفحة من الحديث عن الجنس، والتجرؤ على الأنبياء والذات الالهية، هذا هو الحال عند كونديرا... ولكن فيليب كوفمان مخرجٱ لايميل إلى مشاهد التعرى والإثارة الصريحة فى أعماله، لكنه على مايبدو أنه أراد التجربة وكانت ناجحة ، لقد صنع فيلما يُطلب فيه من الواقع أن يتعايش مع عالم مليء بالإثارة الخالصة ، ويبدو أنه موافق للحظة تقريبا.
لكن الشيء اللافت للنظر في "خفة الكائن التي لا تحتمل" ليس المحتوى الجنسي نفسه ، ولكن الطريقة التي استطاع بها فيليب كوفمان استخدامه كوسيلة لقصة معقدة ، قصة حنين إلى الماضي ، وفقدان ، ومثالية ورومانسية، على موسيقى مارك إدلر الناعمة .
(شريف الوكيل)
إرسال تعليق