أوجينيو باربا
زورق من الورق
عرض المبادئ العامة لأنثروبولوجية المسرح
الفصل الأول
أصل نشاة أنثروبولوجية المسرح
غالبا ما تقول ان الحياة هي عبارة عن رحلة ، مسيرة فردية ليس بالضرورة أن تتصف بتغيرات المكان . فالأحداث ومرور الزمن هما اللذان يغيران الشخص .
في كل ثقافة ، هناك لحظات ثابتة تشير الى التحول الانتقالي (transizione) من مرحلة إلى أخرى في هذه الرحلة.
ففى كل ثقافة هناك مراسم تصاحب ولادة الأطفال وترسم لحظة الانتقال من الطفولة الى سن النضج، وهناك مراسم تقرر طبيعة الرابطة بين. المرأة والرجل . ولا يوجد أى نوع من المراسم المرحلة الشيخوخة . فهناك مراسم للموت ، ولكن تنقص مراسم التحول الانتقالى من سن النضج الى الشيخوخة .
ان هذه الرحلة وهذه التحولات الانتقالية تعاش بنوع من القطيعة أو الرفض أو اللامبالاة أو الحماس، ولكنها تحدث ضمن منظور معايبر وتقييمات الثقافة نفسها .
هذا ما هو معروف . ولكن ما الذي أعرفه أنا ؟ ماذا باستطاعتي. أن اقول لو أردت الحديث عن رحلتي ، عن المراحل وعن التحولات في منظر الأمور المتضاربة والفوضى الجماعية، وعن التجارب والعلاقات : منذ الطفولة ولغاية النضج، ومن سن النضج لغاية بلوغ السنين المتعاقبة حاليا ، حيث تعد السنون المتزايدة عكسيا ، ويتم في كل عيد میلاد سنوى، للخمسين ، والحادية والخمسين، والخامسة والخمسين، يتم الاحتفال بذكر ما حققته في الماضي .
وإذا كانت الذاكرة هي عبارة عن معرفة، اذن، فانني أعرف ان رحلتي قد مرت من خلال ثقافات مختلفة.
والثقافة الأولى هي ثقافة الإيمان. كان هناك طفل في مكان حار ملىء بأشخاص يغنون، وكان المكان مغطى بالعطور القوية والألوان الزاهية. وفى الأمام، على ارتفاع ، نصب تمثال ملطف بقماش بنفسجي، وفجأة، بينما كان الناقوس يدق، تزايدت رائحة البخور بشكل كثيف ومخدش، وتعالى الغناء، وأزيل القماش وظهر تحته المسيح مبعوثا.
هكذا كان يتم الاحتفال بعيد الفصح في بلدة كالى بولى،(Gallipoli)، تلك البلدة الصغيرة في جنوب إيطاليا التي عشت فيها طفولتي. كنت متدينا بشكل عميق. وكان الذهاب إلى الكنيسة بالنسبة لى عبارة عن متعة حسية ، حيث كنت أجد نفسي في ذلك الجو من الظلام والشموع المشتعلة بين ظلال وجداريات مموهة بالذهب ، وعطور وورد و اشخاص عاكفين.
وكانت تلك لحظات كنت أترقبها : الصعود للعلا والارتباط الديني وموكب الصليب . التجمع معا والاحساس بالتلاحم ، وتقاسم شيء ما مع الآخرين ، كل ذلك كان يخترقني كاحساس لازلت أجد صداه في حواسي وبواطنى
وهكذا لازلت أحس بألم الركبة ، ذلك الألم الذي شعرت به عندما شاهدت أم أحد أصدقائي وهى تتضرع في الجمعة المقدسة في كالى بولى . و شاهدت موكب المسيح والصليب محمولا على الاكتاف ، اكتاف الرجال وحدهم ، وهم يتجولون في طرقات تلك البلدة العتيقة . وعلى بعد نصف كيلو متر كان يقام موكب العذراء التي كانت تنادى ابنها . وكانت هذه المسافة تكوى القلوب ، حيث كانت تنبىء عن البعاد الأخير ، وكان يبرز ذلك من خلال تماس صوتى : « ندب ، أم المسيح بمصاحبة كل النساء . ومن كان قد حصل على مراده كان يتبع ذلك الموكب زاحفا على ركبتيه . ومن بين هؤلاء كانت أم أحد أصدقائي . ولم أكن أتوقع أنني ساراها ، وقد شعرت ، في بداية الأمر ، بنوع من عدم الارتياح : ذلك الشعور الذي ينتاب الأطفال أمام أبويهم ، أو آباء أصدقائهم . وهم يقومون بذلك الفعل الذي لم يكن واضحا ، وشعرت مباشرة بالم اخترقني ، ألم من يسير على ركبتيه لمسافة مئات ومئات من الأمتار.
لقد عشت لسنين عديدة مع امرأة عجوز. كانت تتجاوز السبعين من عمرها. وكانت تبدو في عيوني وأنا طفل وكانها عجوز جدا. كنا تنام معا في نفس الغرفة. كانت جدتي. وكانت تنهض في كل صباح في الخامسة وتحضر القهوة، القهوة القوية جدا ، وكانت توقظني وتعطيني قطرات من تلك القهوة، بينما كنت أتلذذ بطعم الفراش في تلك الغرفة الباردة في البلدة الجنوبية الصغيرة ، حيث لم يكن هناك وجود للمدفأة.
عندما كنت في دف الفراش، كنت أرى جدتي وهي ترتدي ثوب النوم الطويل النظيف المطرز ، وكأنها طفلة ، كانت تجلس أمام المرآة لتحل شعرها وتمشطه. كان شعرها طويلا. وكانت تبدو من الخلف، حيث كنت أنظر اليها ، تبدو وكأنها فتاة، ولكنى كنت اتخيل جسدها المتكور وهو ملفف بثوبها الليلى ، وكنت أرى فيها، في الوقت نفسه، شابة ترتدى ثوب العروس، بشعرها الطويل المتدلى الجميل ولكنه ابيض ميت.
هذه الصور والمناظر وأخرى غيرها اتذكرها من ثقافة الإيمان التي تحتوى كل لحظات : الحقيقة ، عندما تتلاقى فيها كل المتضادات و تحتضن بعضها البعض . والصورة الأكثر شفافية هي التي رأيتها لعجوز كانت تبدو في عيوني امرأة وطفلة في آن ، وكان شعرها الطويل المتدلى منبعا لاحساس مثير ولكنه كان قد دب فيه المشيب . انها صور غزل ، ياء، وعفة . ولكن كان يكفى أن انظر اليها في المرآة للحظات حتى أرى ذلك الوجه العجوز الذي رسمت عليه آثار السنين.
كل هذه الصور تألفت معا في ذاكرة بدنية : الألم في ركبتي ام صديقي ، والاحساس بالدفء بينما كنت أتجسس على جدتي وهي تمشط شعرها . ومن خلال انعاش ثقافة الإيمان تلك أجد أن أول ما يتذكرها هى حواسي. كانت الرحلة في تلك الثقافة جميلة وممتزجة بالألم العميق. وقد عشت تجربة قصوى لم تكن لتحدث في تلك الفترة في الأروقة المجهولة للمستشفيات، بل في حضن حرارة العائلة. فقد ظللت واقفا على رجلى بقرب سرير ابي وهو في حالة احتضاره الطويل. وعلى امتداد تلك الليلة الطويلة عرفت ما معنى التيه الذي أصبح يقينا وذعراً، ولم يكن أحد يفصح عنه بوضوح، ولكني كنت أعى ذلك من وجوه الحاضرين وسلوكهم ، من صمتهم ونظراتهم، كنت أعى أن هناك شيئا ما كان يحدث دون ان يمكن صده اطلاقا . ومع مرور الساعات، أصبح ذلك الذعر نوعا من عدم التحمل ، وشيئا متعبا وغير مربح . وعندها بدأت أصلى من أجل أن ينتهى ألم احتضار أبي، وبأسرع ما يمكن لكي لا أبقى هكذا واقفا على رجلى.
وهاهي لحظة أخرى من "الحقيقة" التي تألفت فيها المتضادات واحتضن بعضها البعض ، كنت المس انفلات الحياة من يدى وفقدان أعز انسان عندى وبدون رجعة ، أحب إنسان، وفي اللحظة نفسها كنت اكتشف الاندفاعات وردود الأفعال والأفكار التي كانت تدعو - وبفارغ الصبر - التي انتهاء ذلك.
وقد ذهبت في سن الرابعة عشرة للعيش في مدرسة عسكرية ، وكانت الطاعة هناك شيئا جبريا، وكان عليك أن تنحني جسديا وأن تخضع للأوامر والمراسم التي كان ينبغي القيام بها آليا، ومن خلال توظيف الجسم وحده. وقد قطعت هنا جانبا من حياتي. لم يكن التعبير عن العواطف مسموحا ، ولا يمكن الشك أو التلكؤ ، ولا يمكن الاحساس بالحنان والرأفة. وقد وضع حضورى تحت وطأة هذا الشكل من السلوك الثابت. وكانت القيم العليا هنا في الشكليات الظاهرية : الأوامر التي كانت تتطلب أقصى درجات الاحترام للأمر، الذى كان يعتقد أنه محترم، بينما كان الطالب يخفى وراء وجه الاستعداد العسكرى اللعنة عليه، ركان مدفوعا الى وصفه بأبشع الأوصاف، وكان يضمر له الغضب والنقمة. وقد تم هنا ترويض مواقفنا من خلال وضعيات مشفرة تظهر الموافقة والطاعة.
وتنتمي صورتي التي أغنى فيها، أو التي لا أغنى فيها، بل التي أشترك فيها بكل جوارحى الفردية، بالرغم من الصوت الجماعي الواحد، مع أغاني النسوة والأنوار والعطور والألوان. وهناك صورتي التي أراها في الثقافة الجديدة ، بلا حراك ولا مشاعر، ومدرب بشكل جبرى ، مع عشرات ممن معى، وتحت رقابة لا تقبل باى رد فعل وهنا، ابتلعتنى الجماعة، وكانت عبارة عن ليفيتان (Leviatan) الذي تفتتت افكاري في أحشائه، واهتزت وحدة وجودي . وكنت هنا في ثقافة التآكل، وكان الاحساس والتفكير في البداية متلازمين في نفس البنية، أما الآن فقد نما انفصال ما بين الفكر والفعل، وأخذ يستفحل ذلك ويدب من خلال المكر والشطط وعدم المبالاة الفجة التي كانت تعتبر شقاوة .
هناك لا حركية المؤمن الذي يصلي وهناك لا حركية العسكري الذي يقف مستعدا، فالصلاة اندفاع بكل الكينونة ، نوع من الانجذاب نحو شيء ما هو في داخلك وفي الوقت نفسه هو في خارجك، انه انغماس في الطاقة الداخلية وانطلاق للنية / الفعل. بينما الاستعداد العسكري هو تعبير عن السينوغرافية التي تظهر عن ماديتها الآلية، بينما الجوهر ، الروح والذهن، كانت في مكان آخر، فهناك لا حركية تحملك الى عالم آخر وتدفع للطيران، وهناك لا حركية تسجنك وتطمس قدميك في الأرض.
وهكذا ، فان حواسي تتذكر المرور بين الثقافتين، حيث كانت اللاحركية فيهما تستمد شحنة من الطاقة ومن المعاني المختلفة ما بينهما كليا.
وكانت ثقافة التآكل كانها أحماض هاجمت الإيمان والبراءة، وجعلتني أفقد بكارتي بكل معانيها الجسدية والذهنية، ودفعت إلى نشوء الشعور بالحاجة إلى أن أكون حرًا ، مثلما يحدث عندما تكون في سن السابعة عشرة وتبدأ باللا طاعة والرفض لكل ما يربطك بجغرافية وثقافة ومجتمع، وهكذا دخلت في ثقافة الإنتفاضة.
وكان ذلك هو رفض للقيم والالهامات والحنين والطموحات الخاصة بثقافة التآكل . كنت حريصا على ألا تمسنى تلك الثقافة، بالا اتجذر فيها ولا أقف في مرفئها ، بل أن اتسلل وأن اكتشف ما يوجد في الخارج، وأن أبقى غريبا . وأصبحت الرغبة في البقاء غريبا هي قدري عندما تركت ايطاليا، وذهبت مهاجرا إلى النرويج وأنا لم أبلغ سن السابعة عشرة من عمري.
عندما نفقد إحدى حواسنا، فان حواسنا الأخرى تصبح أكثر ارهافا : فالسمع لدى غير البصير يكون في غاية الرهافة، وتأخذ الأجزاء الصغيرة المرئية حيوية خاصة لدى الأصم لا يمكن التغاضي عنها.
لقد فقدت لغتي الأم في الخارج، وكنت اتصارع مع غموض المعاني، وكنت أحاول أن أتعلم حرفة اللحام من الرفاق النرويجيين الذين كانوا يتعاملون معى أحيانا ، بسبب مجيئي من بعيد (ايزوتك )، من المنطقة المتوسطية، وكأني دب جاء من المستنقعات، وفى أحيان أخرى كانوا يتعاملون معى وكأني أخطل، وكان على أن أتفحص بجهد كبير سلوكهم الذي لم أكن أفهمه وكنت مرغما على فك شفراته بشكل مباشر.
وكان كل جهدى و انتباهي مركزا من أجل التقاط الحركات وتعابير الوجه والابتسامات ( المرحبة ؟ المزدرية ؟ المواسية ؟ اللطيفة ؟ العدائية ؟ الاستسلامية ؟ الهازئة ؟ الحكيمة ؟ وقبل كل شيء ان كانت تلك الابتسامة معى أو ضدى ؟ )
وكنت أحاول توجيه نفسي في هذه المتاهة البدنية الصوتية المألوفة التي لم أكن أعرفها ، لكى تتضح لي معانى ما كان يقصده الآخرون، ومعرفة موقفهم تجاهي ، وما النوايا التي كانت مخفية وراء تلك الأحاديث الطيبة أو المبتذلة أو الجدية.
وعشت لعشرات من السنين مهاجرا في عذاب يومي في الصعود والهبوط من أجل معرفة ما اذا كنت مقبولا أو مرفوضا ، وانا استند على (pre-espressive) ، قاعدة " ما قبل - التعبير" فعندما كنت أصعد الحافلة العمومية لم أكن "أعبر "عن أى شيء ، وبالرغم من ذلك كان البعض يبتعد عنى ليتقاسم الفضاء معى ، وآخرون كانوا يبتعدون عنى لكى أبقى بعيدا عنهم. وكان الأشخاص يقومون بذلك بكل بساطة المجرد حضورى الذى لم يكن يؤكد لا على عنفى ولا على لطفى ولا على الرغبة بالأخوة ولا على التحدى.
وكانت ضرورة معرفة موقف الآخرين منى شيئا يوميا جعلني في حالة انذار دائم وبكل حواسي . وقد دفعنى ذلك الى أن أدرك أبسط الاندفاعات وردود الأفعال ( اللاواعية » و « حياة » الانشدادات الداخلية جدا والتي كانت تأخذ شحنة ومعاني ومقاصد كبيرة محددة، وبالنسبة لى ، كراصد منتبه.
وهكذا ، فقد تكونت أدواتي لصنعتی کمخرج من خلال رحلتي كمهاجر : ذلك الذي في حالة حذر دائم ويتفحص فعل الممثل، ومن خلال هذه الأدوات تعلمت كيف أرى، وكيف أشخص موقع نشوء الاندفاع في الجسد، وكيف يتحرك، وبناء على أية ديناميكية، وأى طريق ياخذ. وقد عملت لسنين طويلة مع ممثلى الأودن تياتر (maitre du regard)
كمعلم ينظر ويبصر - الحياة ، التي كانت تظهر، أحيانا بدون وعي، أو عن طريق الصدفة، أو بسبب خطأ، ويقوم بابراز المعاني المتعددة الكامنة التي كان من الممكن أن تضطلع بها :
وهكذا مرة أخرى أثر جرح آخر في ذاكرتي البدنية (1) : الفترة التي قضيتها في بولندا ما بين عام ١٩٦١ و ١٩٦٤ ، وأنا أتابع عمل یرزی جروتوفسكي و عمل ممثليه . وتقاسمت معهم تجربة من النادر أن يحالف الحظ العاملين في حرفتنا أن يعيشوها : انها لحظة حقيقية من التحول الانتقالي.
ان أولئك الذين ندعوهم بالمنتفضين ، المهرطقين أو المجددين للمسرح ( ستانسلافسكي ، ما يرهولد ، كريج وكوبو ، أرثو ، برخت وجروتوفسكي ) هم الخالفون المسرح التحول . فقد هزت عروضهم الطرق المالوفة لمشاهدة وانجاز المسرح، ودفعت الى التفكير بالحاضر والماضي ربادراك ووعى آخر كليا . إن مجرد كونهم قد وجدوا يزيل مشروعية التبرير القائل : انه لا يمكن تغيير أي شيء . ولهذا ، باستطاعة من يأتي من بعدهم أن يتجاوزهم فيما اذا عاش حالة التحول الانتقالي (transizione)
ان التحول هو عبارة عن ثقافة، هناك ثلاثة متطلبات ينبغي على كل ثقافة أن تمتلكها : الإنتاج المادي من خلال التقنيات ، التكاثر البيولوجي الذي يسمح بانتقال التجارب من جيل إلى جيل وإنتاج المعاني، وإذا لم تكن قادرة على انتاج المعاني فهي ليست بثقافة .
عندما ننظر الى الصور الفوتوغرافية العروض المنتفضين يمكن أن يكون من الصعوبة أن نستوعب أين يكمن طرحهم الجديد على المستوى التقنى . ولكن لا يمكن نكران طرحهم الفكري الجديد الذي طرحوه في مسرحهم وفي فترتهم الزمنية ، وما قام به ارثو هو مثال واضح فقد قام بإخراج عروض لم يكن لها أي أثر يذكر . ولكن أرثو يبقى حيا ، لأنه قام بتقطير معان جديدة لتلك العلاقة الاجتماعية التي هي المسرح.
ان أهمية المجددين تكمن في نفخهم قيما جديدة في القشرة الفارغة للمسرح، ولهذه القيم جذور في حالة التحول الانتقالي ، والتي ترفض روح الزمن ، وترفض احتواءها من قبل أجيال المستقبل، ويمكن أن تحصل من مدارسهم امكانية أن تكون رجالا ونساء لحالات التحول الانتقالي باستطاعتهم أن يخلقوا فيما شخصية لمسرحهم.
كان جروتوفسكي، والممثلون العاملون معه، في بداية الأمر، يشكلون جزءا من النظام وتراتيب المهنة السائدة في زمنه، ولكنه أخذ بالتدريج يضطلع بإجراءات تقنية ومعان جديدة.
وقد امتصت أحاسيسي يوميا ، ولمدة ثلاث سنوات ، كل التفاصيل والجزئيات واحدة بعد الأخرى لذلك الحدث الملموس ، ولتلك المخاطرة التاريخية . اعتقدت أنني كنت ذاهبا نحو البحث عن المسرح الضائع (1) . ولكنني كنت أتعلم كيف أكون في حالة تحول انتقالى . وادرك اليوم أن ذلك لم يكن بحثا عن المعرفة ، بل عن المجهول.
وبعد تأسيسي لمجموعة الأودن في عام ١٩٦٤ ، وبسبب ضرورات العمل كنت في سفر دائم الى آسيا : بالی ، تایوان، سري لانكا واليابان . وقد شاهدت هناك الكثير من عروض المسرح والرقص
وبالنسبة المشاهد أوروبي ، لا يوجد شيء أكثر اثارة من مشاهدته عرضا ينتمى الى التقاليد الآسيوية، وأن يراه في محيطه الأصلى ، وغالبا ما يكون في الفضاء المفتوح وفی جو حار، وسط جمهور غفير يتفاعل بشكل مباشر مع الموسيقى المتواصلة التي تهيج الأعصاب ، وتلك الأزياء الفضفاضة ، التي تغرى العيون، وأولئك الذين كانوا يقومون بانجاز العرض والذين كانوا يحققون وحدة الممثل - الراقص - المغنى - والراوي.
وفي الوقت نفسه، كانت هناك مقاطع طويلة لعشرات الدقائق تتصف بالرتابة وعدم حدوث أي فعل أو نمو، والتي كان يتحدث فيها الممثلون بلغتهم الأصلية المجهولة وبلحن يتردد بدون انقطاع.
وفي مثل هذه الحالات من الرتابة ، كان انتباهي يقوم بخلق نوع من الخطة لنفسه من أجل عدم الابتعاد عن العرض . كان يبحث ، وبدون انقطاع ، مركزا على متابعة تفاصيل عمل ممثل واحد : أصابعه ، يد واحدة ، قدم واحدة ، اكتافه ، وعيونه . وهذه الخطة المرسومة ضد الرتابة جعلتني اكتشف تماثلا فريدا : كان الممثلون الآسيويون يمثلون او يرقصون بطى الركبتين قليلا ، بالضبط مثلما يفعل الممثلون العاملون معى في الأودن .
فبعد سنين من التدريبات (training) ، أصبح لدى الممثلين فعلا ميل لأخذ وضعية معينة يطوون فيها ركبتيهم قليلا ويحصلون على ما ندعوه بـ « ستاس» (Stas) ، اندفاع للفعل الذي لا نعرف مسبقا إلى أية جهة سوف ينطلق : هل سيقفز أو سيتقرفص ، سيذهب خطوة نحو الخلف أو نحو الجنب أو سيرفع الثقل . ان ستاس (Stas) هي عبارة عن وضعية لقامة الجسم نجدها في الرياضة : في لعب التنس وفي الملاكمة وفي المبارزة ، عندما ينبغى على اللاعب أن يكون في حالة استعداد للقيام برد الفعل . ان قدرة التعامل مع الـ « ستاس ، (Stas) لدى ممثل الأودن هي صفة من صفات تكنيكه الفردى . وذلك هو ما جعلني اتجاوز ثراء تلك الأزياء واغراء أولئك الممثلين - الراقصين في آسيا ، وهكذا استطعت أن أرى الركبتين وهما مطويتان قليلا . ومن هنا انكشف أمامى أول مبدأ من مبادىء أنثروبولوجية المسرح : تغير طبيعة التوازن.
إذا كان ستاس (Stas) ممثل الأودن قد جعلني أرى لدى الممثل الأسيوي الركبة مطوية ، فان عنادهم أعطاني الفرصة ، في هذه المرة، لأن أقوم بتخمينات جديدة وتمحيص بعيد عن آسيا.
وفي عام ۱۹۷۸ ، ذهب ممثلو الأودن بعيدا عن هولستبرو (Holstebro) ، بحثا عن محفزات جديدة تساعدهم على كسر النماذج المتكلسة التي يصبو لأنهائها كل فرد أو كل مجموعة. وانتشروا في انحاء مختلفة من العالم ولمدة ثلاث سنوات : فى بالى ، في الهند والبرازيل ، وفي هايتي وفي ستروير (Struer) ، البلدة الصغيرة التي تبعد عن هونستير و ١٥ كيلو مترا . وقد ذهب الى هذه البلدة اثنان منهم المتابعة مدرسة الرقص، وتعلموا فيها رقصة التانجو والفالس ، ورقصة فوكستروت (Foxtrot) وكويك ستيب Quickstep) ، بينما من ذهب الى بالي درس الـ « باریز ، (Baris) ولی کونج (Legong) . ومن سافر إلى الهند تعلم الكاتاكالي ، ومن زار البرازيل تعلم ال . كابويرا ، (capoera) وبعض رقصات كاندومبلی (candombie).
وقد أصروا - من خلال عنادهم - على القيام بما لم يكن يبدو صالحا القيام به وينبغي تجنبه اطلاقا : أى تعلم الأساليب التي هي نتاج تكنيكات الآخرين . وكنت أنظر الى تلك النتف من الأساليب بتيه وبشك ، تلك الأساليب التي تم تعلمها بشكل متعجل من أماكن بعيدة . ولكن بعد ذلك بدات بملاحظة ممثل الأودن عندما كان يقوم برقصة من بالي ، كان يدخل في هيكل عظمي / جلد آخر ، وذلك ما كان يشرط عليه كينونة أخرى من انتصاب القامة والانتقال في الفضاء ، وذلك ما كان يجعله يصبح تعبيريا ، أمام عيونى : ومن ثم ، كان يتحرر من ذلك الهيكل / الجلد ويدخل في هيكل / جلد ممثل الأودن . ولكن أثناء الانتقال من هيكل / جلد آخر، وبالرغم من اختلاف « التعبير ، كان يقوم بتطبيق مبادى مائلة . وتطبيق هذه المبادئ المتماثلة كان يؤدى الى اتجاهات مختلفة جدا . وكنت أرى نتائج لا وجود لعلاقة بينها سوى وجود ال "حياة" التي كانت تقيها .
وما نما بعد ذلك كـ « أنثروبولوجية ، المسرح أخذ يتجدد في نظري وذهني من خلال ملاحظتي لقدرات الممثلين العاملين معى ، وذلك من خلال دخولهم في نوع من الهيكل / الجلد ، أى من خلال القيام بنوع محدد من السلوك المشهدي ، نوع خاص من استخدام الجسد - أي تكنيك متميز ومحدد - والخروج منه . وهذا النوع من « الخلع » و « الارتداء » ، أي خلع التكنيك اليومي وارتداء التكنيك الخارج عن - المعتاد - extra) (quatidiano والانتقال من تكنيك شخصي الى تكنيك آسيوى ، أو التكنيك الخاص بأمريكا اللاتينية أو الأوروبي، الذي له شكله الثابت ، أجبرني على أن أطرح على نفسى سلسلة من الأسئلة التي قادتني إلى أرض جديدة.
ومن أجل معرفة ما هو أكثر ، ومن أجل التدقيق والتعميق بشكل برجماتيكي لهذه المبادئ العامة ( المشتركة )، كان على أن أدرس التقاليد المسرحية البعيدة عن تقاليدى. لأن أشكال العروض الغربية التي كان باستطاعتي تحليلها ( مثل الباليه والمايم - التمثيل الصامت )، لم تكن تساعدني لتقاربها الشديد ، ولم تكن تتيح لي أن أقوم بتثبيت تجاوز حدود الثقافة الواحدة (transculturalita) للمبادئ التي تتكرر (principi-che-ritornano) . وفي عام ۱۹۷۹ ، ثمت بتأسيس المدرسة العالمية للمسرح الأنثروبولوجي International School) وقد تمت اقامة الدورة الأولى لهذه of theatre Anthropology) (ISTA( المدرسة في عام ۱۹۸۰ ، في بون ودامت لمدة شهر كامل (۲) . وقد اشترك فيها ، كمعلمين ، فنانون من بالى، وتايوان ، واليابان والهند . وقد الدت الأعمال والبحوث التي جرت فيها على أن هناك وجودا لمبادئ تتيح ، على مستوى ما قبل - التعبير (pre-esprissivo) ، توليد الحضور المشهدي ، الجسد - في - حياة (II) corpo-in-vita) القادر على جعل ما هو غير مرئي ملموسا : النوايا . وأدركت أن الاصطناعية (artificialita) الأشكال المسرح والرقص التي يتم فيها الانتقال من سلوك يومي الى أسلوب ثابت ، (Stilizzato) هي عبارة عن المنحى الذي يمكن من خلاله تفجير قدرات طاقة جديدة ، وهي نتاج لتصادم قوة كبيرة مع مقاومة معينة . وقد وجدت في عمل الممثلين والراقصين الآسيويين المشتركين في دورة (ISTA) في بون نفس الشيء الذي وجدته في عمل ممثلى الأردن تياتر .
يقال أحيانا ، أننى، خبير، بالمسرح الشرقي، وانني قد تأثرت به ، واستخدمت تكنیكه ومعاييره في تطبيقاتي العملية، ولكن هذه التصريحات الملونة في الوسط تخفى خلفها ما هو معاكس لذلك : حيث أنني من خلال عمل الممثل الغربي - العامل فى مسرح الأودن - استطعت أن أدفع بنظراتي إلى أبعد من سطحية التكنيك والنتائج المؤسلبة للتقاليد المحددة ولكنه من الصحيح أن بعض أشكال المسرح الآسيوي وبعض الممثلين العاملين فيه يحركون في داخلي احاسيس عميقة ، مثلما هو الأمر مع ممثلى الأودن تياتر . وهنا أعثر على ثقافة الايمان ، کغنوصی وکشخص بلغ عتبات المرحلة الأخيرة من رحلته ، رحلة الحساب بالمقلوب. وأعثر على وحدة حسية ، فكرية روحانية، وانشداد نحو شيء ما هو في باطني وخارجي في آن واحد . واجد لحظة . الحقيقة ، التي تتزاوج فيها المتعاكسات، واجد ، من دون ندم، الحنين والمرارة ، الأصل والرحلة بأكملها التي كان يبدو أنني قد ابتعدت عنها ولكنها أخذتني نحوها . واجد العجوز الذي هو أنا والطفل الذي كنته في وسط الألوان والعطور والبخور والنسوة اللاتي كن يغنين.
ففي كل عرض مسرحى للأودن تياتر هناك ممثل ، وبشكل غير متوقع ومفاجيء ، يقوم بخلع ثيابه ولا يظهر عاريا ، بل يظهر مرتديا تو با آخر. وكان اعتقادى لسنين طويلة أن ذلك هو أحد استلهامات التأثر بما يحدث في مشهد المسرح الياباني - الكابوكي - أي الـ « هیکی نوکی » (hikinuki) ، حيث يقوم البطل - بمساعدة شخص أو شخصين في المشهد - بخلع ثيابه المسرحية بشكل مفاجئ ويظهر بزى مختلف كليا . كنت أعتقد أننى كنت أقوم بتطبيق اجراءات يابانية . ولكني أدركت الآن فقط أن هذا اللجوء (detour) وهذا الرجوع : هي لحظة لـ « حياة . كنت قد عشتها في كالی بولی (Gallipoli) ، حيث شاهدت القماش البنفسجي وهو يسقط لأرى خلفه المسيح وهو ينبعث من جديد.
في بعض الأحيان يكون هناك معنى معين في مواجهة نظرية معينة مع سيرة ذاتية . فقد نما خلال رحلتي في الثقافات نوع من الحساسية. (sensibilite) التي أخذت تصبح ثاقبة ، كنوع من الحذر الذي قادري تجاه الحرمة . فالمسرح يتيح لى ألا أنتمى الى أي مكان ، والا أبقى. قابعا في منظور واحد ، وأن أبقى في حالة تحول انتقالى.
ومع مرور الزمن، أشعر بألم في ركبتي وحلاوة تحيط بي كحرفي (artigiano) اص (mestiere) تختفى في اللحظة التي يتم انجازها.
هامش
(*) في اللغة العربية تعنى : استخدام ثلاث مفردات تبدو متشابهة ولكن بينها اختلاف ، وهى : الجسم ، الجسد والبدن ، وهنا استخدمت مفردة البدن لكونها مرتبطة بالنفس والذاكرة تنطبع ليس في العقل وحده، وإنما في النفس أيضا أى البدن - النفس.
(المترجم)
ترجمة دكتور قاسم بیاتلی
الهيئة العربية العامة الكتاب ٢٠٠٦
إرسال تعليق