كتاب زورق من الورق
عرض المبادئ العامة لأنثروبولوجية المسرح
الكاتب والمخرج المسرحي إيوجينيو باربا
ترجمة د. قاسم بياتلي
مبادىء تتكرر
إن أنثروبولوجية المسرح في دراسة حول الممثل ومن أجل الممثل. أنها علم برجماتي، يصبح نافعا عندما يجعل العميلة الإبداعية ملموسة لدى الباحث، وعندما تعزز حرية الممثل أثناء العملية الإبداعية ينبغي، في بداية الأمر د، أن نأخذ بنظر الاعتبار فئتين من الممثلين، ونقوم بتشخيص طريقة التفكير السائد حولهما فى المسرح كشرقى و غربى، إن تقسيم المسرح إلى شرقى و غربى هو تقسيم خاطيء، ومن أجل أن نتجنب التداعيات والأجواء الثقافية والجغرافية الملموسة، سنقوم بقلب البوصلة بطريقة تصورية (Immaginaria) ونتحدث عن قطب شمالي وقطب جنوبی.
إن ممثل القطب الشمالي هو ذلك الذي يبدو في الظاهر أقل حرية، فهو يقوم باعطاء صور لسلوكه المشهدى من خلال شبكة من القواعد التي تمت تجربتها بشكل جيد، والتي تقوم بتحديد أسلوب وجنس ( من الأجناس الفنية - المترجم) مشفر . وهذه الشفرات للأفعال البدنية والصوتية، التي يتم تثبيتها على شكل تفاصيل متميزة ومصطنعة ( سواء أكان ذلك في الباليه، أم فى المسارح الكلاسيكية الآسيوية ، أم الرقص الحديث ، أم الأوبرا أم المايم - التمثيل الصامت) وقابلة للتطور والتجديد.
ولكن، مبدئيا، كل ممثل يقوم باختيار ذلك النوع من المسرح عليه أن يتكيف له، وينطلق في ذلك من خلال تخليه عما هو شخصي . ويقبل بنودج شخصی (persona) مشهدی مثبت في ذلك التراث، وعندما يبلغ امكانية جعل ذلك شخصيا ستبدو أولى علامات نضجه الفني .
بينما ممثل القطب الجنوبي لا ينتمى إلى أى جنس من الأجناس العرضية التي تتميز بوجود الشفرات المفصلة للأسلوب، ولم يحصل على مخزون من القواعد التي يمكن أن يستند عليها، فهو يبدأ رحلة تعلمه انطلاقا من المؤهلات الكامنة في شخصه، وعليه أن يبنى قواعده بنفسه، ويقوم باستخدام المحفزات الآتية من النصوص التي يمثلها، والتي تشكل له نقطة للانطلاق.
وبالتالي فهو يستند على مراقبة السلوك اليومي والتنافس مع الممثلين الذين سبقوه، ويعتمد أيضا على دراسة الكتب أو اللوحات التشكيلية وملاحظات المخرج.
ويبدو ممثل القطب الجنوبي أكثر حرية، ولكنه يجد نفسه في صعوبة أكبر من أجل إنماء طريقة متمفصلة ودائمة فى حرفته في المشهد.
إن ممثل القطب الشمالي، على العكس مما يبدو للوهلة الأولى، هو الذي يمتلك حرية فنية أكبر من ممثل القطب الجنوبي الذي يبقى حبيسا لأحكامه الشخصية، وبدون أن تكون لديه نقاط ملموسة يستند عليها عمله، ولكن حرية ممثل القطب الشمالى تبقى محصورة في الجنس الذي ينتمى إليه، ويدفع ثمن ذلك بنوع من التخصص الذي يجعله يواجه صعوبة الخروج من الأرضية التي يعرفها.
من المعروف ، بشكل مجرد، أنه ليس هناك قواعد مشهدية مطلقة . فهي عبارة عن (( قناعات ثابتة )) و (( قناعات مطلقة )) ، ويبدو كأن ذلك تضارب في الكلام، ولكن ذلك صحيح تجريديا فقط.
أما في التطبيق، من أجل أن تكون القواعد المتداخلة التي تمت تجربتها مفيدة للممثل، ينبغى القبول بها كما لو أنها عبارة عن قواعد متشابكة مطلقة، ومن أجل تحقيق هذا التظاهر الضمني غالبا ما يرى ضرورة البقاء بعيدا عن مختلف الأساليب.
وهناك نوادر تحتية تروى عن الكثير من المعلمين الآسيويين والمعلمين الأوروبيين الكبار (مثل ديكرو Decroux) الذين كانوا يحرمون تلاميذهم من الإقتراب، ولو حتى كمتفرجين، إلى أشكال عروض غريبة عن تقاليدهم, ويؤكدون على أنه من خلال ذلك وحده يمكن وقاية نوعية فنهم، ومن خلال ذلك وحده يبرهن التلميذ على أنه قد نذر نفسه للطريق الذي اختاره.
إن عملية الدفاع هذه تتصف بميزة حسنة د، هي تجنب الميول الباثولوجية، التي غالبا ما تاتى من الوعى بنسبية القواعد: الانتقال من طريق الى طريق آخر، متوهمين إمكانية تكديس التجارب وتوسيع آفاق التكنيك الشخصي، من الصحيح أنه ليس هناك طريق أفضل من طريق آخر، ولكن، على شرط أن يتم السير في ذلك الطريق بشكل كامل والتوغل في أعماقه، وذلك هو ما يتطلب التزاما لفترة طويلة يدعونا ألا نفكر بأية إمكانية أخرى « إلزام أنفسنا بقواعد بسيطة لا نقوم بخيانتها مطلقا، ذلك ما كان يؤكده لويس جوفيه (Louis Jovet) (1) وكان يدرك جيدا أنه ينبغى الدفاع عن المبادئ التي ينطلق منها الممثل وكانها هي أثمن ممتلكاته، فهي يمكن أن تتلف من خلال التسرع والعملية التوفيقية (Sincretismo) (سينكريتيسمو)
إن البيئة المسرحية اليوم ضيقة، ولكنها بلا حدود، فغالبا ما نرى أن هناك الكثير من الممثلين الذين يرحلون إلى خارج ثقافتهم ويستضيفون الأجانب، يقومون بالتنظير، ونشر خصوصيات فنهم في محيط غريب عنهم، ويشاهدون مسارح أخرى يمكن أن تسحرهم ومن ثم يرغبون في تجسيد بعض العناصر من نتاجاتها وادخالها في أعمالهم الشخصية.
إن الاستلهام من تلك النتائج، غالبا ما ينطوى على نوع من سوء الفهم، ويمكن أن يكون ذلك خصبا: يكفى أن نفكر بالماضي بـ « بالي » (Bali) التي كانت بالنسبة لأرثو ، أو الصين التي كانت بالنسبة لبرخت والمسرح الانجليزي بالنسبة لـ كاوا کامی (Kawagami) . ولكن لا يزال يتم تجاهل التكنيك المخفى وراء هذه النتائج والرؤية الحرفية التي كانت تقوم بتنشيطها.
إن الانبهار بالسطح الذي يخاطر، بسبب كثافة التماس، يخاطر بوضع التقاليد امام عنف السرعة، وقد يؤدى ذلك الى فرض هيمنة التسوية لنسق واحد للأمور (Omogenezza ) .
كيف يمكننا أن "نأكل" وأن نمتلك الوقت الكافي، والكيمياء اللازمة من أجل هضم نتائج الآخرين؟ إن الطرح المعاكس للثقافة الكلونيالية، أو الثقافة التي تم اغراؤها بذلك، ليس القبوع في ثقافة تعزل نفسها، بل الثقافة التي تعرف كيف تطهو بطريقتها وتهضم ما تاخذه أو ما يصل اليها من الخارج
ولكن الممثلين والراقصين ( ولا تنس أننا في حديثنا نعني كليهما ) قاموا باستخدام - إضافة إلى المبادئ الخاصة لكل تراث، أو كل بلد - ولا يزالون يستخدمون، بعض المبادئ التي تتشابه فيما بينها . ويستخدمونها مجتمعة من دون أن يكون هناك تطبيق خليط ( مخلوط كيفما اتفق - promosicuita – المترجم ) .
إن العثور على هذه المبادئ - التي - تتكرر (Principi-che- ritornano) من أحد المهام الأولى لأنثروبولوجية المسرح.
إن الفنون - كما يقول ديكرو - تتشابه في مبادئها، وليس في نتائج أعمالها، (۲) وبإمكاننا أن نضيف : إن الممثلين يتشابهون في المبادئ، وليس في التكنيك.
ومن خلال دراسة هذه المبادئ تقوم أنثروبولوجية المسرح بتأدية خدمة سواء لمن كان يمتلك تراثا مشفرا أو من يعاني من نقصان فيه، أو من أصيب بانحلالات الروتين، أو من يجد تراثه مهددا من التفكك، سواء الممثل القطب الشمالى أو لممثل القطب الجنوبي.
البومي المعتاد - والخارج عن المعتاد
Quatidiano e extra - quatidiano
إن ممثلى القطب الشمالى الجيدين ( الراقص والممثل الصامت مايم - لمدرسة ديكرو ، والممثلين الذين يمتلكون صياغة لتراث مجموعة سرحية صغيرة ، وأولئك الذين قاموا بصياغة شفراتهم الشخصية، وممثل المسرح الآسيوى الذى يمتلك شفراته المصاغة على أساس تراثه الفنى ( يمتلكون نوعية من الحضور الذي يجلب انتباه المتفرج ويحفزه حتى في حالة تقديمهم لبراهين من عينات تكنيكية، وبشكل بارد.
وبالرغم من أنهم لا يقصدون، في هذه الحالة، التعبير عن أي شيء ، نجد أن هناك نواة للطاقة، نوعا من الاشعاع المثير الذي يتم عن المعرفة يمسك بحواسنا من دون أن يكون لذلك تفكير مسبق .
ويمكن أن تفكر "بقوة" (Forza) الممثل التي حصل عليها من خلال العمل على مدى سنين وسنين طويلة من التجربة، ويمكن أن نفكر بنوعية تكنيكه، ولكن التكنيك هو عبارة عن نوع خاص من استخدام الجسد.
وقد تم توظيف استخدام الجسد في الحياة اليومية المعتادة (quatidiano) بشكل مختلف عن توظيفه في حالة العروض، وبطريقة جوهرية، حيث يكون تكنيك الجسد في المحيط اليومى مشروطا بثقافة معينة، وبظروف اجتماعية وبالمهنة، بينما في حالة العرض هناك نوع من التكنيك المختلف للجسد، اذن ، يمكن أن نفرق ما بين تكنيك يومى معتاد (tecnica quatidiano) وتكنيك خارج عن - المعتاد (tecnica extra-quatidiano)
ويصبح التكنيك اليومي المعتاد أكثر وظيفية كلما أصبح غير خاضع للادراك، ولهذا، فاننا نتحرك، ونجلس، ونحمل الثقل، ونقبل، ونشير بأصابعنا أو براسنا أو نرقص بايماءات ونعتقد أنها « "طبيعية"، بينما هي في واقع الأمر، مشروطة بالثقافة.
فالثقافات المختلفة لها تكنيكات جسدية مختلفة، فهناك طريقة المشي بحذاء وبدون حذاء، هناك من يحمل الثقل على رأسه أو بيده، وهناك من يقبل بالفم أو بالأنف. إذن، فالخطوة الأولى من أجل اكتشاف ما هي المبادى العضوية (bios) لجسد الممثل في المشهد، أي حياته، تكمن في عملية استيعاب وجود تكنيكات يومية معتادة تطرح بنفسها مقابل التكنيك الخارج عن - المعتاد الذي لا يستجيب للمشروطيات المعتادة لاستخدام الجسد.
وتتميز التكنيكات اليومية المعتادة، بشكل عام، باعتمادها على مبدأ بذل القليل من الجهد من أجل الحصول على أقصى ما يمكن، وذلك من خلال توظيف أقل ما يمكن من الطاقة، بينما التكنيكات الخارجة عن - المعتاد فهى بالعكس، تستند على هدر الطاقة، وتبدو ، أحيانا، أنها تشير الى مبدأ معاكس لما يتميز به مبدأ التكنيكات للحياة المعتادة : مبدأ توظيف أقصى درجة من الطاقة من أجل الحصول على أصغر التائج.
وعندما كنت في اليابان ، مع الأودن تياتر، سألت نفسی، ماذا يعني ال "أتزو کارازما" (Otau Karasma)، ذلك التعبير الذي يقوم من خلاله المتفرجون، في نهاية العرض، بشكر الممثلين؟ ومعنى ذلك - وتلك في احدى الصيغ الكثيرة التي تتصف بها تكنيكات الممثلين في اليابان:
"أنك اتعبت نفسك جدا من أجلى"
ولكن الإشارة إلى هدر الطاقة لوحدها لا تكفى من أجل توضيح القوة التي تتميز بها حياة الممثل.
ومن الواضح أن هناك اختلافا ما بين هذه « الحياة ، ( Vita ) وحيوية (Vitalita) الأكروباتيكي، وحتى عن المهارات الفائقة ( Virtuosismo) التي توجد في بعض اللحظات في مسرح أوبرا بكين، وأشكال عروض أخرى.
وفي حالة الأكروباتيك نجد أن الأكروباتيكي يقوم بعرض "جسد آخر " ويتبع تكنيكات تختلف كليا عن تلك المعتادة، بحيث أنه يقطع كل صلة بها، ولهذا ، فإن ذلك لا يشكل تكنيكا خارجا عن - المعتاد ، بل هو ببساطة ، عبارة عن "تكنيك آخر" لأنه في هذه الحالة ليس هناك عملية توسیع (dilatazione) وامتداد للطاقة التي تتميز بها التكنيكات الخارجة عن - المعتاد ، والتي تطرح بنفسها على النقيض من التكنيكات اليومية المعتادة، وبكلمة أخرى، ليست هناك علاقة جدلية ( ديالكتيكية ) مع التكنيكات المعتادة، بل هناك تباعد عنها وحسب، أي بمعنى أن هناك جسدا يقوم بالمهارة الفائقة
(di un corpo di virtuoso)
إن التكنيكات المعتادة تصبو إلى الإبلاغ، بينما تلك التي يتصف بها فائق المهارة الجسدية (virutoso) تصبو إلى الابهار، في حين أن التكنيكات الخارجة عن - المعتاد تصبو إلى إيصال المعلومات (informazione): فهي حرفيا، تمنح الجسد وضعا - في - شكل )artificiale/artistico( تجعله اصطناعيا /فنيا ) mettono-in-forma ولكنه قابل للتصديق (credibile)، وهنا يكمن الفرق الجوهري الذي فصل ذلك عن تلك التكنيكات للأكروباتيكى التي تقوم بتغيير شكل (trasforma) الجسد إلى ما لا يمكن تصديقه (incredibile) .
التوازن في حالة فعل
إن تبين النوعية الخاصة للحضور المشهدى يدفع بنا إلى التمييز ما بين التكنيكات المعتادة وتكنيكات المهارة الفائقة والتكنيكات الخارجة عن - المعتاد للجسد.
وهذه التكنيكات الأخيرة هي التي تخص الـ « ما قبل - التعبير» (pre-espressivita): أي حياة الممثل.
وهى التي تعطى الممثل ميزة خاصة قبل أن تبدأ هذه الحياة بعرض شيء ما بشكل مقصود.
وليس من السهولة القبول بمثل هذه التأكيدات التي أوردناها، فربما أن هناك مستوى معينا من فن التمثيل يكون الممثل فيه حيا، وله حضور، ولكن بدون أن يقوم بعرض شيء ما، أو أن يكون لذلك معنى معين؟
وبما أن المثل يواجه المتخرج، يبدو أنه بالضرورة يتبنى أن يقوم بعرض شيء ما، أو يقدم شخصية ما، ولكن هناك بعض الممثلين الذين يستخدمون حضورهم من أجل عرض غيابهم، ويبدو أن ذلك نوع من اللعب بالأفكار، وهو كذلك، إلا أن ذلك عبارة عن صورة (figura) من المسرح الياباني، فهناك في مسرح ال (No) والكابوکی (Kabuki) وفي مسرح كيوكن (Kyogen)،مثلا ، يمكن تشخيص ملامح صورة (profilo) وسطية توجد ما بين الشكلين اللذين يحددان، اعتياديا، الصورة المشخصة للممثل (figura)، أى ما بين هوية الممثل (identita) وماهية التظاهر، ففى مسرح النو ، مثلا ، هناك الممثل الثاني الذي يدعى واكي (Waki)، والذي يقوم غالبا بعرض عدم - وجوده (non-esserci) ، أي غيابه عن الفعل، فهو يقوم بتوظيف التكنيكات الخارجة عن - المعتاد للجسد ، ليس من أجل القيام بالتشخيص، بل من أجل (جلب الانتباه لملاحظة قدرته على عدم التشخيص .)
و نجد هذا النوع من النفى الفنى المصاغ أيضا عند الشخصية الأساسية التي تدعى (Shite)، عندما تترك المشهد وتخرج ، وفي هذه الحالة يخلع الممثل الشخصية كليا، ومع ذلك فهو لا يحصر نفسه في ماهيته اليومية المعتادة، ويبتعد عن المتفرجين بنفس نوعية الطاقة التي تجعل من عرضه عرضا حيا.
وهناك أيضا في مسرح الكابوكي مساعد للممثل في المشهد، ذلك الذي يرتدى الثوب الأسود، والذي يكون مطالبا به « تمثيل غيابه» (Recitaro L'assenza)
فحضوره فى المشهد لا يعرض شيئا ولا يعبر عن شيء، ومع ذلك فهو يستقى حضوره بشكل مباشر من ينابيع الممثل وحياته وطاقته، ويؤكد العارفون بهذا الشأن أن القيام بدور كوكين (Kokken) هو أصعب بكثير من أن تكون ممثلا.
إن هذه الأمثلة القصوى تبين لنا، أن هناك مستوى معينا تكون فيه التكنيكات الخارجة عن المعتاد للجسد مرتبطة بطاقة الممثل في حالتها الخالصة ( النقية ) - أى أن هناك مستوى ما قبل - التعبير (pre-espressivo)
ويظهر هذا المستوى في المسرح الياباني الكلاسيكي بشكل مكشوف للعيان، ولكنه، في كل الأحوال ، يوجد لدى كل ممثل جيد، وفي كل التقاليد وكل جنس من الأجناس، وذلك هو جوهر حضوره المشهدي.
أن تستخدم مفردة : طاقة ، الممثل يعنى أن نستخدم مفردة تدفع بنا الى آلاف الالتباسات. ولهذا ، ينبغى أن نملأ هذه المفردة مباشرة بافتراض عملی، فهي تعنى ايتمولوجيا (في أصلها اللغوى ) : «تكون في شغل» (essere in lavoro)
إذن، كيف يحدث أن يدخل جسد المثل في الشغل في مستوى ما قبل - التعبير (pre-espressive) ؟ وأية مفردة يمكننا أن نستخدمها عوضا عن مفردة : الطاقة ، (energia) ؟
من يقوم بترجمة المفردات المتعلقة بمبادىء الممثل الآسيوى الى لغة أوروبية، يستخدم مفردات مثل « طاقة ، و حياة ، و قوة ، و روح»، وذلك من أجل ترجمة مفردات يابانية ، مثل کی - ای (Ki-ai) وكوكورو (kokoro) ويو - ان (io - in) و كوشی (Koshi) ، ومفردات من لغة بالي ، مثل : کاسکو (Kasku) وفيرازا (Virasa) و کی کارا (chikara) و بایو (bayu) ، ومفردات من اللغة الصينية ، مثل : كونك فو Kungfu) وشين توينك (Shin Toeng) ، ومفردات من الهندية، مثل : برانا (prana) وشاكتي (shakti) . فعدم دقة ترجمة تلك الكلمات يجعل الكلمات الكبيرة تخفى إشارات عملية لمبادئ حياة الممثل.
ولنجرب أن نتوجه في ذلك بشكل معاكس : كيف يمكن ترجمة مفردتنا : الطاقة ، الى لغات أخرى؟
من أجل الإشارة إلى امتلاك الممثل وعدم امتلاكه للطاقة الصحيحة في الشغل، نقول إن الممثل يمتلك أو لا يمتلك كوشی (Koshi) ، هكذا كان يقوم بترجمة ذلك لى الممثل الكابوكي ساوا مورا سيورو (Sawamura Sajuro) ،
وذلك لا يشير الى مفهوم مجرد ، بل يشير الى مكان محدد من الجسد: الوركين.
وأن نقول انك و تملك كوشى ، أو لا تملك كوشی ، « یعنی حرفیا أن نقول ، انك تملك الورك أو لا تملك الورك»
فعندما تمشى بطريقة التكنيكات المعتادة للجسد فان الوركين يتبعان حركة المشي، بينما في التكنيكات الخارجة عن - المعتاد التي يستخدمها ممثل الكابوكي أو النو أو كيوكن ، فان الوركين لا يتحركان أثناء المشى، ولهذا ينبغى طى الركبتين قليلا ، ويتم استخدام الجذع وكأنه قطعة واحدة، ويدخل توظيف العمود الفقرى في ذلك، ومن ثم يتم. الضغط من خلال ذلك نحو الأسفل . وبهذه الطريقة يتم خلق انشداد (توتر عضلى - المترجم ) في الجانب السفلى للجسد وانشداد آخر في الجانب العلوى منه، وذلك ما يدفعنا إلى البحث عن إيجاد توازن جديد.
وتلك وسيلة من أجل قدح حياة الممثل، وفي مرحلة ثابتة فقط يصبح ذلك خصوصية متميزة للأسلوب.
ان حياة الممثل تستند فعلا على تغير attrazione) التوازن سوریاشی (Suriashi) ، أى الأقدام التي تلمس الأرض بخفة ، هو ما يطلق على طريقة المشي في النو الياباني.
فالممثل لا يرفع كعب قدمه من فوق الأرض اطلاقا، وسواء أكان يتقدم نحو الأمام أم يدور حول نفسه، فهو يستخدم أصابع القدم وحدها، قدم تنزلق ( تشحط ( نحو الأمام) وتطوى الرجل الأمامية كليا وتتوتر تلك الخلفية، ويستند الجسد على الساق الخلفية بالعكس مما يحدث طبيعيا، ويتم شد عضلات المعدة والأليتين، ويميل الحوض نحو الأمام باتجاه الأسفل مبتعدا عن موضعه، وكان هناك شيئا يسحب من الجانب الأمامي، خيط يسحب من الجانب الأمامي نحو الأسفل وخيط آخر يسحب من الجانب الخلفي نحو الأعلى، ويكون العمود الفقرى منشدا «وكأنك قد بلعت سيفا» ، وتتقارب عظام الكتف أكثر مما يمكن، ولهذا تهبط الأكتاف . وتكون الرقبة وأسفل الجمجمة، والرأس في خط مستقيم مع خط الجذع، وهكذا ، فإن استخدام الجسد بهذه الطريقة يشبه إحدى الصور التي أعطاها ما يرهولد لتمارينه في البيوميكانيكا (biomeccanica)، وذلك أشبه بهيكل السفينة التي استلهمت بنيتها من العمود الفقرى للسمكة، ولكنه يختلف عن الأسماك لأنه لا يتميز بطواعية لينة، بل يستند على محور في غاية الثبات.
إن هذه الصياغة المتلاحمة للانشداد، والتي تبقى تفاصيلها غير مرئية تحت الأزياء الثقيلة والغنية، هي التي تحدد، بمجملها، الحضور المثير لممثل النو. ويقولون : « ان النو (No) هو عبارة عن رقصة المشي.»
وكذلك الكابوكي هو رقصة للمشى، حيث يتبع ممثل الكابوكي في عمله معيارين متميزين هما: أراكوتو (aragoto)، وواكوتو (Wagoto).
ويطبق في الأراكوتو (كأسلوب فظ)، يطبق قانون الخط المائل، حيث ينبغى أن يكون الرأس الطرف الأقصى من خط مائل بشكل قوى، وفي الطرف الآخر تتوجه القدم حرفيا نحو الخارج، وذلك ما يغير توازن الجسد وديناميكيته كليا، وهو يستند على رجل واحدة فقط.
أما ال «واكوتو»، فهو ما يدعى « الأسلوب اللين» أو « الواقعي» حيث يقوم الممثل فيه بتطبيق طريقة للمشى تذكرنا بمبدأ الـ « تربانجي » (tribbangi) في الرقص الكلاسيكي الهندي.
ويعني تربانجي « الأقواس الثلاثة» ففى رقصة الأوديسي (Odissi) الهندية، ينبغى على الراقصة أن تقوم بتقويس جسدها على شكل حرف (S) بدء من الرأس ومرورا بالأكتاف والوركين، وفي كل النحت الهندي ( وكذلك النحت الأفريقي بعد براستل Pransatele) ، يظهر مبدأ الالتواءات لل «تربانجي»، وبوضوح ، وفى ال «واكوتو»، (Wagoto) المسرح الكابوكي، يقوم الممثل بتحريك جسده على شكل موجة جانبية، موظفا العمود الفقرى الذي يقوم بتوسيع عملية التوازن غير المستقرة، من خلال العلاقة ما بين تقبل الجسد وقاعدته ، أي الأقدام.
اما في مسرح بالي، فإن الممثل يستند على راحة القدمين، ويرفع الجزء الأمامي منهما، وكذلك الأصابع، بقدر المستطاع، وهذه الوضعية تقلل حوالي نصف سعة القاعدة التي يستند عليها الجسد، ومن أجل أن يتجنب الممثل السقوط، يكون مجبرا على فتح الساقين وطى الركبتين.
وفي شكل مشفر آخر، أى فى الباليه الكلاسيكي الأوروبي، نجد هناك توجها نحو إجبار الممثل على البحث عن توازن غير مستقر، انطلاقا من الوضعية الأساسية، ومنذ البداية، ولو دخلنا إلى أحد صفوف المبتدئين في أي يوم كان، في مدرسة الباليه للمسرح الملكي في كوبنهاجن والتي أسسها بورنفيللي (Bounoville)، باستطاعتنا أن نسمع المعلمة وهي تكرر على مسامع التلاميذ الأطفال، في سن السابعة أو الثامنة وعى تقول : ركز على انشداد عضلات الآليتين!
تصور أن رجليك مشدودتان بتراصف محكم للأزرار، وثقل الجسد مائل نحو الأمام دون أن يرتكز على كعب القدم، ينبغي أن يكون كعب القدم مرفوعا عن الأرض قليلا، ليس كثيرا ! قليلا، بالقدر الذي يكفي التمرير الورقة من تحته. ولا ينبغى أن يدرك المتفرج أنها مرفوعة، وينبغي أن يكون الجذع بلا حركة، أشبه بصندوق، والأرجل هي التي تجعله يكون منتصبا باعتدال، كما لو أن معدتك خاوية وتمتد نحو الأعلى، عليك أن تمد بجذعك نحو الأعلى، كما لو أنني أسحبك من شعرك نحو الأعلى، ومن هذا التوازن الغنى للوضعية الأساسية للجسد ينمو، فيما بعد، شيء مدهش في خفة حركات الأرابيسك (arabesques) وال : أتيدو (attitudes) .
وفي كل الأشكال المشفرة للعرض نجد ثبات هذا المبدأ : نوع من تغيير الطريقة المشي، وطريقة الإنتقال في الفضاء، أو البقاء بدون حركة حسدية، ويستند هذا التكنيك الخارج عن - المعتاد (extra-quatiano) على تغير التوازن، والهدف من ذلك هو الحصول على توازن غير مستقر، باستطاعة الممثل وبشكل دائم. ومن خلال رفض التوازن - الطبيعي . ان يدخل في الفضاء بتوازن، ثرى ، (dilusso) ومتشابك، والذي يبدو للوهلة الأولى، غير ذى أهمية ويكلف طاقة كبيرة.
«يمكن أن يمتلك الانسان الايقاع بفضيلة ما منذ الولادة، أو بفضل ملكاته الطبيعية، ولكنه لا يمكن أن يولد بالتوازن غير المستقر ، (۳) . ويمكن أن تؤكد أن هذا التوازن "الثرى"، هو عبارة عن إعطاء شكل صياغة أو أسلبة ( أسلوب ) وتشفير، وغالبا ما يتم استخدام هذه المفردات دون التساؤل عن الأسباب التي دفعت لاختيار هذه الوضعيات البدنية التي تقلق «وجودنا الطبيعي ( essere naturale )» وطريقتنا المعتادة في توظيف الجسد في الحياة اليومية.
إرسال تعليق