درب المهابيل


" مظاهر المحبة والتودد الزائفة في عالمنا"



درب المهابيل "مظاهر المحبة والتودد الزائفة في عالمنا"
درب المهابيل "مظاهر المحبة والتودد الزائفة في عالمنا"



بقلم : شريف الوكيل


في رحلة طويلة من الإبداع السينمائي الرائع ترك لنا المخرج (توفيق صالح) مجموعة غير كثيرة من الأفلام ما بين الروائية والأفلام القصيرة.

للأسف الشديد لم يستطع ابن الإسكندرية الجريء سوى تقديم سبعة أفلام طويلة روائية معظمها توغلت في قلب القاهرة بمقاهيها وشوارعها وحواريها المختلطة برائحة الناس، التي تمازجت برائحة عبق التاريخ ... سافر توفيق صالح إلى فرنسا وتعرف فيها على مدارس الفن التشكيلي الحديث، واتجاهاته المختلفة ،كما مال نحو ميدان الموسيقى المبدع وقدراته على التجريد وصولا إلى الجوهر والروح بأصوات الآلات وتنوع إيقاعاتها.

تمكن توفيق صالح أيضا أن يخطو خطواته الأولى في قراءة السينما وممارستها والتوغل في استوديوهاتها الكبيرة وتدرب على يد فنانين ومخرجين لهم باع طويل بالسينما الفرنسية والعالمية.

ولم يكن هذا بداية ارتباطه بالمجال السينمائي فهو له سابقة في دخوله لهذا الوسط من خلال عمله مساعدا للمخرج حسين فوزي لكنها فترة غير طويلة، حيث توترت العلاقة بينهما وكانت {نعيمة عاكف} زوجة حسين فوزي طرفا مهما في الخلاف وقتها، كما عمل مع المخرج عباس كامل اثناء إخراج فيلم "منديل الحلو."



درب المهابيل "مظاهر المحبة والتودد الزائفة في عالمنا"
درب المهابيل "مظاهر المحبة والتودد الزائفة في عالمنا"


رجع مخرجنا توفيق صالح لمصر سنة ١٩٥٣ وهو محملا بفنون متعددة مثل الرسم الفوتوغرافي والموسيقى كما درس الفلسفة والأدب الروسي، وتقدم للإخراج فى العشرينات من عمره، عندما أصبحت السينما عنده أداة في فهم الحياة والإنسان والعالم،  وساعدته علاقته القوية بالكاتب "نجيب محفوظ" وبقية شلته في الخمسينات وكان من بينهم "عبد الحميد جودة السحار"، والذي اشترك معه في إنتاج فيلمه الأول "درب المهابيل" الذى يعد واحد من أهم وأنضج أفلام السينما المصرية طوال تاريخها العامر، ويكتسب درب المهابيل أهميته وقدرته من السرد السينمائي دون مط أو لغو فارغ، والاعتماد على تفاصيل الحياة اليومية في إحدى الحارات الشعبية التي تعكس طابع هذه الحياة بعلاقتها الغنية والمؤثرة ، ويكشف فيلمنا بدقة هذه التفاصيل عن عامل هام من عوامل الثقافة الشعبية وتغلغلها داخل مجتمع الحارة المصرية والعربية بتأثيراتها المتفاوتة.

فجميع أهل الحارة لا يملكون غير طموحات صغيرة في انتظار الفرج عن طريق أى معجزة" لتحقيق هذه الأماني حتى لو كانت "مصباح علاء الدين" ، فقد اعتمد السرد كما أسلفنا على تفاصيل الحياة اليومية لأهل الحارة من خلال تلك العلاقة العاطفية التي تربط بين طه(شكرى سرحان) وبين جميلة الحارة خديجة(برلنتي عبد الحميد).

ثم علاقات أهل الحارة ببعضهم في أثناء عملهم اليومي من خلال تحركاتهم داخل الحارة ، فكل منهم له مهنة من المهن البرجوازية الصغيرة والتي كانت تعج بها كل حارات مصر في ذلك الوقت كالعجلاتي والفران والقهوجي وغيرهم، وباختلاف هذه المهن يكون اختلاف مصالحهم وتركيباتهم النفسية وصفاتهم الخاصة ، التي تجعل ردود الفعل إزاء أحداث الحارة اليومية شديدة التباين خاصة في مواجهة أنفسهم (أهل الحارة) فهم لا أخيار ولا أشرار وإنما شخصيات فقيرة تحمل أحلام بسيطة تريد أن تعيش مستورة في كرامة وعزة نفس، الجميع يعيشون في حلم واحد وهو تحقيق هذا الحلم كل فيما يخصه وأيضا ليظفر كل واحد بحلمه.

الكل ينتمون للحارة فيما عدا اثنان " لاحظ أنهما" ليسا من ساكنيها هما "قفة" المجذوب ، وبصحبته عنزته،  والفتاة "بائعة اليانصيب" وبدخولهما الحارة يكونان سببا مباشرا في توتر العلاقات بين أهلها ،عندما يشتري طه ورقة يناصيب من الفتاة تخلصا من إلحاحها المزعج، ويعطيها لخطيبته خديجة فيعرف والدها ويطالبها أن ترميها فورا " ربنا يغنينا بالحلال" فتلقيها ، فيلتقطها طفل ويلح على المجذوب أن يأخذها ويعطيه بالمقابل شربة لبن من "المعزة عزيزة" فيأخذها منه قفة على مضض فهي مجرد ورقة لا تساوي شيئا.

غير أن صباح اليوم التالي يأتي صوتا يشق الحارة( كسبت البريمو يا اسطى طه) ومنذ هذه اللحظة يأخذنا السرد على معرفة موقف الحارة من وفود تلك الثروة المفاجئة التي نزلت على قفة بطريق الصدفة... "ثروات غيرت الكثير من مجتمعاتنا." 

ولكن تأبى سخرية القدر إلا أن تذهب بها إلى حيث لا يتوقع أحد؛ مما يؤدي إلى قلب حياة الحارة رأسا على عقب والكشف عن حقيقتها المرعبة، الراقدة خلف مظاهر المحبة والتودد الزائفة بين سكانها.

موضوع الفيلم في الأصل كانت رؤية  كتبها "توفيق صالح" أثناء إقامته في باريس،  وعرضها على "نجيب محفوظ" ليقدم لها معالجة سينمائية فنصحه محفوظ بعدم تنفيذها "لئلا يتم اتهامه بالشيوعية" وقتها، وقام محفوظ بإعادة صياغتها مغيرا موقع الأحداث إلى حارة قاهرية وأعطاها عنوان "درب المهابيل".

توجد حارة "درب المهاببل" بمنطقة وسط القاهرة في المنطقة الواقعة خلف شارع عبد العزيز التجاري وشارع محمد علي التاريخي وتعددت أسباب تسميتها بهذا الاسم فلا أحد يعرف على وجه التحديد سبب هذه التسمية ... الجميل في الأمر أنه عندما يقع رنين ذلك الاسم على سمع الناس تظنه فيلما كوميديا، لكن الفيلم يعج بالدراما المؤلمة والواقعية الصادمة والكاشفة عن أحوال أناس من المتواكلين.

  وقد تمكن المخرج من اختيار مجموعة من عمالقة المسرح والسينما في تلك الفترة ومن خلال هذه الشخصيات المتعددة والمكان والزمان تظهر براعة الكاتب نجيب محفوظ مشاركا له الكاتب عبد الحميد جودة السحار في رسم خريطة الحارة وتبايناتها المختلفة وعلاقاتها ببعضها وبدقة متناهية لتصوير طابعها الاجتماعي، في تأكيد وإشباع لهذه العلاقات الأساسية التي تربط أهل الدرب، فنرى سهرات المقهى وحلقات الذكر ، ونسمع دقات الزار من خلال الظلال على حوائط المنازل، كما نرى لقطات تجمع ما بين طه وخديجة على سطح المنزل في تناغم عاطفي حالم، وسنية وعبده وهما يمارسان الجنس بعنف وشراهة، ورغم اختلاف العلاقات الثنائية يجمعهما رابط واحد شدة الاحتياج للمال فالجميع يحلم بالزواج والستر.

  وكانت تشكيلات المكان على النحو الظاهر بالفيلم قد أتاحت الحركة الكافية للممثلين أمام الكاميرات دون إحساس بضيق او توتر مما ساعد ذلك على إضفاء قدر من الحيوية في الأداء ، كما لعبت الصورة تنوعا في التنقل بين أشخاص الفيلم باستغلال الإضاءة بشيء من التفصيل برغم الاعتماد على مصادر إضاءة داخلية ، فقد استطاع خلق نوع من التناغم والتنويع بين الأبيض والأسود  في نعومة شديدة ، وظهر ذلك من خلال مشهد لحسن البارودي وهو يقوم بمراجعة وعد نقوده مع التوزيع الرائع للإضاءة بشيء يضفي قدرا من الشك والغموض حول ملابسات اللقطة نفسها.

  ولكن على الرغم من كل هذه المكونات الشديدة الغنى للصورة تأتي الموسيقى التصويرية وكأنها تعمل وحدها ، بطريقة لا تستقيم مع دلالة اللقطة وطابعها العاطفي من خلال نغمة واحدة أكثف من مكونات اللقطة نفسها.

  يذكر أن فيلم " درب المهابيل المنتج عام ١٩٥٥ " يحتل المركز رقم ٤٢ في قائمة أفضل ١٠٠ فيلم في ذاكرة السينما المصرية.

Post a Comment

أحدث أقدم