Human Voice


صوت إنساني...



Human Voice, film فيلم صوت إنساني، بقلم شريف الوكيل
 Human Voice, film فيلم صوت إنساني، بقلم شريف الوكيل


بقلم: شريف الوكيل



"عندما تكون فرضية التحدث هى الطريقة الوحيدة للبقاء، وأن يخفي المتحدث عذابه بالتعبير عن شجاعة لا تخصه..."

                   ********   
 مضطربة أمام المرآة التي تضاعف صورتها ، ترى أنجيلا ملامح وجهها تتغير في مواجهة المعاناة... وفي تناوب الأفعال، بين الذاكرة والصمت، يُعرف الهاتف الأسود الكبير نفسه على أنه العامل المشترك ونقطة ارتكاز دلالية: وهو الوسيلة الوحيدة للتواصل مع الحبيب البعيد وهو أيضا وسيلة الهجر ، والانفصال المليء بالأكاذيب، الذي يثبطه الخلق المرتجل لواقع وهمي ... امرأة متقدمة منذ سنوات محبوسة في شقتها الجميلة، ذات الستائر البيضاء، وورق الحائط، والمكتب، والطاولة المحددة لشخصين، كلها يغلفها الصمت، والتي تشهد نهاية حبها... لم يعد هناك مكان سوى مكالمة وداع هاتفية طويلة للرجل (الذي لم نستمع إلى صوته أبدا ، والحضور في الغياب)، حيث تكشف المرأة نفسها، وحاجتها إلى الحب باعتباره نسغ الوجود، وفي نفس الوقت كرامة ومعاناة للمرء... تنظر من خلف زجاج شرفتها إلى الخارج ونظرتها ثابتة، وعيناها تتجهان نحو نقطة غير دقيقة في الأفق؛ يكشف الطابق الأول عن صفحتها الشخصية، وبصوت هادئ تلتفت إلى الحبيب البعيد.

تدور أحداث موضوعنا في نابولي عام ١٩٥٠ ، ويحكي قصة أنجيلا، امرأة مسنة تعيش على حافة خسائرها العاطفية، أجبرت على مواجهة المشاعر القوية التي أثارتها محادثتها الهاتفية الأخيرة مع الرجل الذي تحبه والذي يتركها لامرأة أخرى... 

الفيلم مستوحى من المونولوج الشهير للكاتب والمخرج الفرنسي "جان كوكتو" ، كتبه عام ١٩٢٨، والذي تم تكييفه بالفعل للسينما بواسطة المخرج روبرتو روسيليني من فيلم لامور (١٩٤٨) ، بطولة آنا مانياني ، صوت الإنسان لإدواردو بونتي، حتى قبل أن يكون صوتا ، والجسد ، وجه صوفيا لورين، وقد تقدم بها العمر، وفي الخلفية مدينة نابولي في فترة ما بعد الحرب الثانية مباشرة.

القطعة الأدبية الأسطورية "La Voix Humaine" لجان كوكتو ، والتي يرتكز عليها الفيلم ، عبارة عن مادة سمعية بصرية عن الحب والانتظار والاستبطان، قدمت لعقود من الزمن أعظم الممثلات في جيلهن... إنه الكأس المقدسة للتمثيل، مثل هاملت عند كثير من الممثلين المصريين... حيث يخيف النص معظم الممثلين بسبب نطاقه العاطفي المتطلب ويفصل القمح عن القشر. وقد حان الآن دور أسطورة السينما صوفيا لورين لمواجهة التحدي، وتحقيق حلم يبلغ من العمر أربعين عاما لتولي هذا الدور، يتولى ابنها المخرج إدواردو بونتي إخراج الفيلم الذي يضم طاقما فنيا من كل النجوم، ويتميز بونتي بالاهتمام بالتفاصيل السينوجرافية ، والتصوير الكثيف ، والعمق المعاير للمجال والتركيز مع هذا الفيلم متوسط الطول، كما يعمل على توازن دقيق بين النصوص ، وينسج حوارا دقيقا ، له نكهة حلوة ومرة من الأناقة، مع محاورين مختارين جيدا. 

يتمثل ابتكار بونتي الرئيسي هنا في إعادة صياغة الدراما لزوج من الأشخاص الأكبر سناً بشكل ملحوظ (بالنظر إلى أن والدته تبلغ من العمر ٨٠ عامًا عندما تولت الدور) مقارنة بالنص الأصلي... 

من المفترض أن يعطي هذا مزيدا من الخطورة للقضية ، لأنها بالتأكيد نهاية السطر بالنسبة لهذه المرأة. ولكن لا تزال لورين ، حتى في الثمانين من عمرها ، جميلة وجذابة، لدرجة أنها لا تستطيع تحمل فكرة أن هذه ستكون آخر علاقة لها... إنها السهل الممتنع، حيث يجب أن تكون أنجيلا في هذا الإصدار جذابة بما يكفي لتبدو شخصا كان من الممكن أن يحتفظ بمن يحب .

"تحت القصف فقدت زوجي، فقدت نفسي،أنتهت الحرب، وكذلك أنا ...الستار أسدل على أيامي، ثم خطوت أنت إلى حياتي وأعدت الروح لصوتي..وعناقك جرف الرماد من قلبي، واستعدت سعادتي، فتحت ذراعي على مصراعيها كالنافذة، أدخلت النور، الرياح...وكل هذه الأصوات".

بهذه الكلمات الرقيقة الجميلة، تتهادى ذكريات أنجيلا من خلال قصة حب عاشتها
ليبدأ حوار الفيلم من خلال محادثة تليفونية من جانب واحد... في حوار يصطخب بالمشاعر الإنسانية والألم والحب مناجاة امرأة تكابد لوعة الرغبة والحنين، لذلك الحبيب الذى لا نسمعه ولا نراه إلا من خلال قفازيه وعلبة سجائره وحلة أنيقة معلقة...إنها امرأة ذات أناقة لافتة، لا تستطيع إخفاء روحها القلقة، المضطربة وهي تناجي حبيبها الذي هجرها تاركا لها أعواما من الحب، على أمل قد يأس منها أن يعود ربما للقاء أخير، وقد ارتسمت على وجهها علامات الحزن الواضح في صوتها.

في مسيرتها المهنية التي دامت ستة عقود، لم تكن صوفيا لورين تتدرب كثيرا، حيث اعتمدت أكثر على الأداء الغريزي. لكن هناك شخص واحد استثنت له: ابنها إدواردو بونتي، ٤١ عاما...استعدادا للفيلم القصير Human Voice ، حيث أخرجه وتم عرضه في مهرجان كان، تدربت الأم وابنها لعدة أسابيع - "الحديث عن كل سطر وكل إيماءة"، كما يقول بونتي. "أخبرتها إذا لم نتدرب ، فسنضرب نفس الملاحظات العاطفية مرارا وتكرارا."، تقول صوفيا إنها أرادت أن تلعب هذا الدور منذ حياتها المهنية بأكملها...

"عندما بدأت أفكر في الأمر ، كنت صغيرة جداً. لكنني احتفظت به في قلبي لفترة طويلة ، حتى حان موعد تقديمه...وكانت فرحة حياتي،" كان آخر ظهور لصوفيا لورين على الشاشة في فيلم Rob Marshall الموسيقي "Nine" عام ٢٠٠٩ ...

إنه عرض رائع للممثلة المخضرمة، وهدية رائعة من ابنها قدمها لها. لم يفعل العمر شيئا لإضعاف حضور لورين على الشاشة، وقوة وصدق أدائها هنا رائعان. تسمح محادثة من جانب واحد عبر الهاتف لورين بتقويض الغرور الخاص بها، وأن تكون عرضة للخطر. في البداية، يسمح لها خط الهاتف بالكذب، لإخفاء مشاعرها الحقيقية ووضعها الحالي، فقط للانفتاح مع تقدم اليوم، ثم الانهيار التام. مع اندلاع العواطف والانفجار الداخلي، يكون الأمر مفجعا، وسيكون كذلك حتى بدون ممرات بونتي القصيرة للمشاهد الأخرى - العشاق معا ، والمرأة التي تنتظر خارج منزل الرجل، إنها تعمل، لكن السياق غير ضروري. 

 تقدم لنا لورين كل ما نحتاج إلى معرفته عن قدراتها وعن سينما عائلة بونتى، وعن فكر وأسلوب العبقري الفرنسي جان كوكتو ، الذي بدأ حياته الأدبية بكتابة الشعر التقليدي، ثم تطور نحو أشكال أخرى أكثر حرية، لم يترك فنا أو أدبا دون أن يخوض فيه...فكان شاعرا وسينمائيا وروائيا وناقدا، وكاتبا مسرحيا ورساما، كان دائم الصخب نحو الحياة الفنية والفكرية الفرنسية...شغوف إلى كل البعيد لحد التجاوز، ولذا كان نادرا ما يعبأ بالنوع الأدبي أو الفني الذى سيعبر عن حال من أحواله.

فكتب كتاب بعنوان "معلش" عام ١٩٤٩ وعرفه بأنه كتاب للعقل، كتب فيه يوميات وملاحظات وأفكار رافقته في جولته نحو بلدان شرق البحر المتوسط لاسيما مصر وتركيا واليونان .

وجد كوكتو في أجواء السينما ما يلبي جنوحه إلى السحر والغرائبية، فقدم فيلم العودة الأبدية والجميلة والوحش وغيرها، فقد كان قادرا في كل أعماله على ابتكار الشطحات الخيالية الغريبة...

وتعتبر السينما الإيطالية هى مسقط رأس الفن السينمائي، وهي الأقدم في تاريخ السينما فى العالم، ويرجع ذلك إلى الطفرة الدرامية التاريخية، التي كانت حريصة على التصوير في الآثار القديمة الفعلية، فأصبحت ميزة أفلامها موجهة نحو الواقعية شائعة، وكان الجانب الأسلوبي من الفيلم هو العامل الأكثر أهمية فى تاريخ الأفلام الإيطالية، في أوائل القرن العشرين .
قدمت السينما الإيطالية للعالم مخرجين كبار منهم (فيدريكو فلليني وفيسكونتي وروبرتوروسولينى وفيتوريو دى سيكا وباولو باسولينو وسيرجيو ليوني ومايكل أنجلو أنتونى وأيضا برناردو بيرتولوتشي)

يذكر أن هذه القطعة الأدبية قدمها للسينما من قبل المخرج "روسوليني" بكل ما يترتب عليه: جماليات الواقعية الجديدة ، "النجومية" اليائسة للممثلة آنا مانياني للوصول أخيرا إلى تقليد الكوميديا الإيطالية وقبل كل شيء ذلك التقليد الدرامي ، بالمعنى الواسع ، وبشكل رائع لمجتمع نابولي، واللهجة النابولتية التي قدمت الكثير للسينما الإيطالية.
كما قدمها المخرج الأسباني "بيدرو المودوفار" مؤخرا في فيلم من إخراجه العام الماضي، لعبت الدور الممثلة الإنجليزية "تيلدا سوانتون" 

كيف نستسلم للحب رغم صعوباته وتناقضه استطاع المخرجون الثلاثة المذكورين بتقديم هذه القصة في فيلم قصير لم يتجاوز الثلاثين دقيقة، بشكل وأسلوب رائع كل من وجهة نظره السينمائية، في سباق رائع وأكثر احتراما للسينما ومحبيها ولكتاب الدراما والأدب ومبدعيها...الأفلام الثلاثة ورغم تفاوت الزمن بينهم نجحوا في جذب المشاهدين بجدارة مخرجيهم والممثلين فى المقام الأول .

"- لقد كذبت عليك بشأن كيف أرتدي ملابسي...أنا لست مرتدية ذلك الفستان الوردي، مازلت برداء نومي أنتظرك لكي تتصل...أحملق في هذا الهاتف ، أعرف أنك لا تفهم اللغة النابولية، لكن ألا تفهم صوتي..؟ألا تسمع الألم فيه...التجول فى أرجاء المنزل يصيبنى بالجنون ، أتطالبني أن أجد الطمأنينة...أية طمأنينة لقد فقدت هذه الكلمة معناها عندي...طمأنينتي توجد فقط بين ذراعيك...أرجوك تحدث قل أى شىء، مجرد سماعي وأنت تتحدث يجعلني أشعر بشعور أحسن، في بعض الأحيان في السرير معٱ، كنت لأضع رأسي على صدرك فوق مكاني المفضل، وأسمعك تتحدث معي مثل الأن تقريبٱ، قلبي كان ليطرق بقوة، بجنون .

-أعرف أن هذه المكالمة شاقة عليك...لكن فكر بي فأنا خاسرة لأخر حب فى حياتي، الشيء الوحيد المتبقي بيننا هو الهاتف هذا أضعه بجواري اثناء نومي، لأبقى بالقرب من صوتك عندنا تتصل...لقد عشت معك وبجوارك، والأن أقضي أيامي بانتظارك مذعورة من أنني لن أراك مرة أخرى أبدا

-لقد كانت حياتي ممتلئة عندما كنت بها والآن قلبي يتحطم لأشلاء...أرجوك أغلق الخط، لا اريد مزيدا من الكلام...لا اريد مزيدا من الألم...أرجوك فأنا أحبك ".

ينتهى الحوار من قبل أنجيلا وقد ألقت بنفسها فوق السرير تصارع أشواقها فى بكاء محموم... لتتحول الشاشة إلى اللون الأسود ونرى أهداء صغير (إلى أمي) بتوقيع إدواردو بونتي.

هناك انطباع قوي بأن هذا الجزء الثمين من التصوير السينمائي هو في الواقع تفاني ممتد ووديع مؤثر لعالم وطريقة صناعة السينما ، أي قول الحقيقة التي لم تعد موجودة. ثم هناك صوفيا: جسدها ووجهها وصوتها.

- الصوت الإنساني من كتابة جان كوكتو وتمثيل صوفيا لورين فى دور أنجيلا الموسيقى من تصميم وليام جودرام والإخراج إدواردو بونتي .

Post a Comment

أحدث أقدم