غرائبية "محسن يونس" في رواية " فَراش أبيض"



غرائبية "محسن يونس" في رواية " فَراش أبيض" بقلم: كرم الصباغ
غرائبية "محسن يونس" في رواية " فَراش أبيض" بقلم: كرم الصباغ




بقلم: كرم الصباغ


استهلال

     إن المتابع لكتابات المبدع أ. محسن يونس، التي تصل إلى ثلاثين كتابا تنوعت ما بين مجموعات قصصية و روايات للكبار والأطفال، سوف يكتشف أنها ليست كتابات مجانية، فالرجل ليس من هؤلاء الذين يلهثون وراء الحكاية من أجل المتعة و التسلية على أهميتهما، و توفرهما في حال طالعت كتابا من كتبه، بل هو كاتب مهموم، يمتلك رؤاه و فلسفته الخاصة التي نجدها كامنة بين طيات نصوصه. وأعتقد أن مثل هذا النوع من الكُتَّاب ممن يمتلكون ذلك الرصيد الكبير من الخبرة و الممارسة الإبداعية ليسوا في حاجة إلى الإمساك بالقلم لمجرد تسويد صفحات، بل من أجل إضافة منجز جديد يضيف إلى المكتبة العربية قيمة إبداعية، تتميز بالخصوصية و الفرادة. فها هو الكاتب محسن يونس يجنح كعادته إلى التجريب، ويكسر بمطرقته و أزاميله القوالب الجاهزة، لينحت لنا بحرفية روايته " فراش أبيض".


عتبات الولوج إلى نص الرواية.


1- العتبة الأولى العنوان الرئيس.


     لقد أولى المنهج السيميائي العنوان أهمية كبيرة لدرجة أنه اعتبر العنوان نصا كاملا يختزن داخله الدلالات الكبرى للعمل الأدبي في الوقت الذي تأتي فيه العناوين الفرعية كخيوط تتدلى من ذلك العنوان الكبير مكونة سلسلة من المفاتيح التي تفك تباعا شفرات النص المقروء؛ و انطلاقا مما سبق أود أن أشير إلى أن الرواية عنوانا رئيسا هو "فراش أبيض" الذي يعد العتبة الأولى للولوج إلى نص الرواية؛ فكلمة فراش توحي بالرقة والرهافة و ربما الضعف، ويأتي نعتها بكلمة أبيض متمما لمعاني الصفاء و النقاء. و لكننا حينما نقطع شوطا كبيرا في قراءة فصول الرواية سوف نكتشف أن ظهور الفراش الأبيض قد أعقب دائما ظهور ملك الموت، وتفتت التمثال المنحوت، مما أثار الرعب دائما في قلوب مسئولي القصر الحاكم، و موظفيه. و إذ بالفراش يظهر مرة أخرى في نهاية الرواية في الوقت الذي يحاول فيه كبير المستشارين الفرار من لعنة التماثيل المتحركة و مطارداتها؛ فتفسر الزوجة أن هذا الفراش إنما هو كائنات حية طبيعية تأتي من حقل البرسيم القابع خلف قصرهما. و بعد التعمق في قراءة الرواية سنكتشف أن الكاتب اتخذ الفراش الأبيض معادلا موضوعيا للروح، فإذا سلمنا بأن التمثال يشير إلى القيم المادية و الغرائز و الشهوات و هوس الظهور و الامتلاك و الخلود سنجد في المقابل الفراش الأبيض يشير إلى الجانب الروحي الذي عادة ما يجنح إلى البراح و النور، تلك الروح التي يعمد اللاهثون وراء شهوات السلطة و الامتلاك إلى طمسها، في حين يأبى أحد النحات صاهر المعادن، الذي يسكنه الفن بشكل حقيقي أن يتشبث بروح التمثال؛ فبدونها لا قيمة للفن أو للحياة برمتها، ومن تلك الزاوية يبرز الكاتب الصراع الوجودي ما بين الجمال و القبح، و المادي و الروحي، و الحرية و العبودية، و الحق، والزيف تلك الثنائيات من الأضداد التي على أساسها أنشأ الكاتب روايته.


غرائبية "محسن يونس" في رواية " فَراش أبيض" بقلم: كرم الصباغ
غرائبية "محسن يونس" في رواية " فَراش أبيض" بقلم: كرم الصباغ


2- العتبة الثانية العنوان الفرعي:


   لا يمكننا أن نتجاوز العنوان الفرعي، الذي دونه الكاتب أسفل العنوان الرئيس، وهو" فانتازيا نحت تمثال" ويجدر بنا أن نتوقف عند مصطلح "فانتازيا" وما يعنيه ذلك المصطلح؛ فالفانتازيا هي تناول الواقع الحياتي من رؤية غير مألوفة، أو هي معالجة إبداعية خارجة عن المألوف للواقع؛ إذ تُعد نوعًا أدبياً يعتمد على الأشياء الخارقة للطبيعة كعنصر أساسي للحبكة الروائية، و الفكرة الرئيسة، وهي كلمة يونانية الأصل، انتقلت إلى اللغة اللاتينية المتأخرة والإيطالية لتدل على معنى "مشهد متخيل" و "ملكة تصميم الصور" وتتلخص سمات الفانتازيا في وضع العناصر الخيالية في إطار متماسك داخليا، يتخذ من الأساطير والفلكلور فكرة أساسية متسقة ومنسقة، وقد يكون الخيال مخبّأ أو موضوعا في إطار عالم حقيقي، أو هو انتقال هادئ أو مفاجئ من المعقول إلى اللامعقول؛ للولوج إلى عوالم متخيلة تنحي العلاقات المنطقية جانبا، وتؤسس لعلاقاتها الخاصة المنبثقة من طاقة تخيلية و رؤيوية الكاتب المتمرد في الغالب على واقعه. و من خلال تلك الإشارات النظرية نستخلص أن المبدع محسن يونس قد تملّص في روايته تلك من واقعه المعيش ليؤسس عالما خاصا يتسع لرؤيته التي يضيق بها واقعه أو التي تحاصرها العديد من المعوقات التي تحول دون تحققها.

3- العتبة الثالثة شاهد، وملاحظة:

     لقد صدَّر الكاتب روايته بمقولة الروائي والكاتب المسرحي " بايه إنكلان" ألا وهي "الاشياء ليست موجودة، ولكن كما نتذكرها" ثم أعقبها بملاحظة هامة ألا وهي" لا شيء حقيقي في هذه الأوراق إنما هي فانتازيا أملاها عليَّ عفريت نحَّات. وأيّ إسقاط منها على أرض الواقع هو إسقاط صاحبه، ومع ذلك المصادفات لا يمكن محوها أو توجيهها ومع ذلك فالقارئ حرٌّ فيما يذهب إليه".

 ونستخلص مما سبق


* أن ثمة ارتباطا وثيقا بين العتبات الثلاث يشي بوجود ذات متوترة تتلمس طريقها عبر ضبابية تكتنف المشهد، لدرجة تدفع صاحبها/ الكاتب إلى التشكيك في وجود جُلّ الأشياء من الأساس، مما يؤكد عبثية الحياة.
*إيمان الكاتب بدور القارئ في إنتاج نصه، فالكاتب يأبي أن يفرض رؤية أحادية أو فوقية، و إنما هو بصدد إنتاج نص مرن منفتح على العديد من التأويلات و الرؤى.

*لجوء الكاتب إلى الغرائبية و الفانتازيا والحلول اللامنطقية يُعدُّ إعلان صريح عن رفض الواقع والرغبة الملّحة في خلق عالم آخر ربما يتسع لأمنيات الكاتب الموءودة في أديم واقع كابوسي خانق.



غرائبية "محسن يونس" في رواية " فَراش أبيض" بقلم: كرم الصباغ
غرائبية "محسن يونس" في رواية " فَراش أبيض" بقلم: كرم الصباغ


رواية تحتشد بالدلالات:


    إنّ النص ظاهرة فنية تظل أغنى من عشرات التفسيرات، وتظل متعددة المعاني، لا تمنح نفسها تأويلا واحدًا يمكن اختزاله بقانون رياضي ناجز، إن النص إذن استعارة كبرى يكتنفها غموض سحري لا يمكن أن نلج عواملها إلا من خلال اللغة، وما تحمله من علامات و إشارات و رموز تمكّن القُراء، الناقد من إنتاج عشرات النصوص الموازية، ومن هذا المنطلق يمكنني أن أقول:

١-تتمحور الرواية حول مهمة نحت تمثال الزعيم الراحل المبجل؛؛فقد كرّس مسئولو القصر الحاكم الوقت، و المال من أجل إنجازها، وأوكلوا إلى العديد من النحّاتين القيام بها، وكلما فشلت محاولة، أعقبتها محاولة أخرى. وثمة سؤال جوهري، ألا وهو ما الذي يرمي إليه هؤلاء المسئولون من وراء نحت التمثال؟! و لماذا يصرون علي إتمام المهمة؟! إن هذا التمثال من وجهة نظري إنما يرمز إلى نظام الحكم في دولة مبهمة لم يحددها الكاتب بطبيعة الحال؛ ليفتح الباب على مصراعيه حتى تتسع الدلالة؛ كي تشمل كل الدول الواقعة في قبضة الأنظمة الديكتاتورية، حيث تتركز مقاليد الحكم في قبضة زمرة معينة، تحاول جاهدة الحفاظ على مصالحها. و هنا يبرز دور كبير المستشارين، الذي يتصف بالمكر والشرّ. وما سراديبه السريَّة، وولعه باقتناء التحف والتماثيل والآثار بالطرق المشروعة و الطرق غير المشروعة إلا دليل على حب الامتلاك، والجشع، والهوس بالسلطة. بينما نجد قائد الحرس الصديق الصدوق يدعمه بقوة في سبيل تحقيق مخطط سريّ يفضي إلى الحفاظ على مكتسبات تلك الفئة، وعدم التفريط فيها، وكأنما التمثال الذي أرادوا أن يقف شامخًا في الميدان إنما هو رسالة إلى الداخل، والخارج بأن ذلك النظام سوف يظل قائما، ولن ينهدم بموت الزعيم المبجَّل، وها هو كبير المستشارين يُصرِّح، حينما استشعر الخطر بأنه ثابت، جذوره ضاربة في الأرض؛ فأنّى لأعدائه أن يقتلعوه من مكانه؟! في إشارة منه إلى أنه يجلس على رأس دولة عميقة، لن تهتز بموت فرد مهما كانت عظمته.

٢-نلاحظ أن الشعب في الرواية غائب مغيّب، حتى عن مهمة نحت التمثال؛ فقد لاحظنا أنّ كبير المستشارين ومعاونيه قد قاموا باستدعاء النحَّاتين تباعا من خارج البلاد. وفي المشاهد القليلة التي ظهر فيها أفراد الشعب جاءوا على هيئة سكير يرغب في إفراغ مثانته، وسائق خائف متردد، سرعان ما يعبث بهما التمثال المتحرك، فيرضخان سريعا لطلبه، ويوافقان على الوقوف مكانه فوق قاعدة النصب، في إشارة إلى الجمود والخنوع. أو على هيئة عروسين كل ما يشغلهما الدوران حول التمثال الشاخص في الميدان بسيارتهما سبع دورات في إشارة إلى تبجيل مبالغ فيه، قد يرتقي إلى درجة التقديس، وفي نهاية المطاف تتلطّخ ثياب العروس ببقايا بول السكير، ولا تظفر بالصور الفوتوغرافية، التي رغبت في أن يكون التمثال حاضرا في خلفياتها. لا دور يذكر إذن لهذا الشعب المغيب في تحريك الأحداث، ولا وصف لشخوصه؛ و بينما هم يعيشون على الهامش، تدور الأحداث الرئيسة في قصر الحاكم، وقصر كبير المستشارين، و بستان أحد المستشارين، حيث تقبع أشجار الزيتون المعمرة، التي تشي بتوارث السلطة و الثروة بين أفراد تلك الفئة كابرا عن كابر.

٣-بدا النظام هشًّا ضعيفًا، فبينما أعمت شهوة البقاء القائمين عليه، تعرض لعمليات الاختراق و النصب و الاحتيال عدّة مرات؛ فتارة على يد السفير الجاسوس، و تارة أخرى على يد نحّات الخشب الذي استدرج المسئولين إلى منضدة القمار. في حين تعرض قصر كبير المستشارين للاختراق على يد لصوص تعمدوا السخرية منه و ترك آثار أقدامهم عمدا على جدران مخابئه السريّة. ولا ننسى تعرض كبير المستشارين للخطف والاحتجاز و الضرب المبرح على يد البحارة معاوني القبضان، و على يد نحات الخشب. و لقد تعمَّد الكاتب السخرية في أكثر من موضع من شخصية كبير المستشارين، ولا أدلَّ على تلك السخرية من قبض التمثال المتحرك على منطقة حساسة في جسده، و تحول التمثال بمرور الوقت إلى جزء من جسده أعاقه عن أداء واجباته الزوجية، ودفعه إلى عدم الاقتراب من زوجته، كذلك نلمح تلك السخرية من اشمئزاز زوجة الحاكم الثالثة منه واحتقارها إياه، رغم محاولاته الدؤوبة التقرب منها؛ افتتانا بها من ناحية، واستغلالها من ناحية أخرى على اعتبار أنَّها الجسر الأمثل لتنصيبه حاكما، بعد انقضاء الأيام الأربعين التي أعقبت موت الزعيم المبجل.

٤-لقد أضفت الزوجة الثالثة على الرواية قيمة مضافة، فقد عبرت عن الأنثى في حيويتها، وطغيان حضورها، تلك الأنثى التي لا يعنيها الزخارف والهالات بقدر ما يعنيها الجمال، و ريّ روحها الظامئة من معين حب افتقدته طوال الوقت، لهذا اختار الكاتب لها الهروب من زنزانة القصر إلى مكان مجهول بصحبة نحات المعادن، ومُصبّر الفراشات، حينما وجدت في شخصه الحبيب الذي طالما بحثت عنه؛ لتنتصر قيمة الحب الروحية على القيم المادية المسيطرة على القصر وكلّ مَن فيه.

٥-لقد أطلق الكاتب لخياله العنان، و لجأ إلى الفانتازيا فابتكر شخصية النحّات الساحر، الذي يلهو بالصلصال، و الذي يتحوّل إلى شخصية النحّاتة الفاتنة، التي تتلاعب بالجميع، وتنجز في النهاية تمثالا متحركا، يعبث بدوره بكبير المستشارين، و معاونيه، و يحوّلهم إلى تمثال جماعي على هيئة مزرية يكون كبير المستشارين هو مركزها؛ فكأنما أراد الكاتب أن يكمل رسائله التي تسخر من ذلك النظام المتهالك، و كأنما أراد أن يفضح مقاصد القائمين عليه، و تبلغ الفانتازيا ذروتها حينما تتكاثر التماثيل الفاضحة المتحركة، وتتحوّل إلى وحوش تهمّ بالفتك بموظفي القصر، وكبير المستشارين، و زوجته في إشارة إلى أن عوامل انهيار تلك الأنظمة تولد من داخلها على أيدي القائمين عليها.

Post a Comment

أحدث أقدم