في عشق الإسكندرية، ورثائها
قراءة نقدية في رواية الوعد والمقسوم للكاتب سمير لوبة
بقلم: كرم الصباغ
استهلال تاريخي:
كانت مدينة الإسكندرية مثالا للمدن العالمية التي اصطلح على تسميتها ب(الكوزموبوليتانية)، فمصطلح الكوزموبوليس يعني المدينة التي يتألف سكانها من عناصر مختلفة جاءوا من أنحاء العالم، وانصهرت المتناقضات بينهم. (د. حصة بنت تركي الهزال، ملامح الكوزموباليتانية في مدينتي الإسكندرية و أنطاكية). عندما اجتاح "الإسكندر" الشرق فكر في إنشاء عاصمة جديدة لإمبراطوريته ، بحيث تكون ذات مواصفات معينة كالموقع المتوسط بين بلاد الإغريق، وآسيا الصغرى، وسوريا، وأن تطل على البحر المتوسط؛ لتكون ميناء عالميا ينافس مدينة صور الفينيقية، التي كانت تحتل مركز الريادة في عالم التجارة في شرق البحر المتوسط. وعندما وصل إلى مصر وعند موقع قرية راقودة، وجد ما كان يبحث عنه من موقع استراتيجي محصور بين البحر و البحيرة؛ فقرر إنشاء مدينة تحمل اسمه في هذا الموقع؛ فكانت الإسكندرية، التي أصبحت أكبر المدن الإغريقية، تلك المدينة التي بلغت قمة الازدهار و الشهرة في الثقافة و الفنون خاصة فن النحت، و التي اشتهرت بمكتبتها، ومسارحها، ومعابدها، وأنشطتها التجارية، و مينائها، والتي ضمت جميع الأطياف من مقدونيين، ويونانيين، ويهود، وسوريين، وهنود، و عرب، بالإضافة إلى المصريين؛ فصارت ليست عاصمة، وحسب، بل مدينة عالمية، هي الأولى من نوعها، جسدت الإسكندرية بمفردها نظرية الإسكندر في وحدة العالم التي تجمع بين الاختلافات الفكرية و الدينية في حضارة مدينة واحدة.
أما في العصر الحديث وفد إليها أطياف أوروبية عديدة، حلَّت ضيوفّا على عروس البحر المتوسط منذ بدايات حكم محمد علي في القرن الثامن عشر، تماهوا مع الشعب السكندري حتى أصبحوا نسيجا من أنسجته؛ فحضر إليها الأرمن، والإيطاليون، واليونانيون، الذين اعتبروا أنفسهم أصحاب الإسكندرية الحقيقيين باعتبارهم أحفاد بانيها الإسكندر؛ لذا تعتبر الجالية اليونانية الأكبر بين الأوروبيين في المدينة، حيث شكلت نحو 90% من الأجانب في الإسكندرية. و من أشهر اليونانيين الذين عاشوا في الإسكندرية الخواجة "زيزينيا"، تاجر القطن اليوناني، ومؤسس الحي الراقي الشهير بالاسم نفسه. و الشاعر "كفافيس". ويشير د. "عبد العظيم رمضان" في كتابه "الإسكندرية في العصر الحديث" إلى أن الأجانب في عهد الخديوي إسماعيل صاروا جزءا من الحكومة و السلطة التنفيذية، و تم تمثيلهم في البوليس خاصة السويسريين منهم.
وكان في الإسكندرية نادٍ لكل جالية، يجمع أبناءها، ولاتزال هذه النوادي مستمرة في دورها إلى يومنا هذا، فهناك النادي اليوناني والإيطالي والأرميني، وحتى النادي البرتغالي، حيث يجتمع أبناء تلك الجاليات الأجنبية كل على حده في النادي الخاص بهم، خاصة في أيام الآحاد، وهذا لا يعني أن هؤلاء منغلقون على أنفسهم، و لكن من الملاحظ أن أعداد الأجانب في الوقت الحالي قد تناقصت بشكل كبير عن ذي قبل؛ نظرا لأن جيل الأبناء أصبحت غالبيته تفضل العودة إلى أوروبا للعمل هناك برواتب كبيرة، وتكتفي بزيارة الأهل هنا في المناسبات فقط، وإحياء ذكرى الراحلين.
العنوان الرئيس كعتبة أولى للولوج إلى نص الرواية:
"الوعد و المقسوم" هكذا جاء العنوان، ورغم ما به من تقريرية، ربما لا تناسب موهبة وخيال الكاتب الخصب، و قدرته على صياغة الجمل البديعة التي غالبا ما تثير دهشة القارئ، فقد جاء هذا العنوان مناسبا لمأساوية الأحداث، وقتامة المصائر، وعذاب الرحلة، التي كابدتها معظم شخصيات الرواية، كما تماهى هذا العنوان مع خصيصة الصبر و قوة التحمل التي تمتعت بها شخصيات الرواية الرئيسة: نعمة، وفكري، و علام، وصباح، ولمعي صنارة، تلك الشخصيات المنقوعة كليا في يود الاسكندرية و رملها و ملحها، والتي تعكس خصيصة من أبرز خصائص الشخصية المصرية، التي عادة ما تتكيف مع الواقع المعيش مع أحلك ظروفه؛ لتواصل التعاطي مع الحياة بحلوها و مرها، زادها في رحلتها المضنية الرضا بالمقسوم، و التطلع إلى الوعد و الأمل في غد أفضل.
الكوزموبولتانية حلم السارد المفقود:
لقد أبرز الكاتب "سمير لوبة" الوجه الكوزمولوليتاني لمارية عروس البحر المتوسط، تلك المدينة التي مثلت فضاء رحبًا يسع جميع الأعراق و الأجناس، والديانات. تلك المدينة الحلم و الأنموذج للتعايش السلمي ببن شتى الأطياف فهذا اليوناني "أليكو" يعتبر فكري ابنًا له، و يتنازل له في نهاية المطاف عن محل كي الملابس بعد أن قرر العودة إلى اليونان ليعيش بالقرب من قبري ابنه "جورج"، و زوجته "إيرين". و هذا الخواجة اليهودي "باروخ" يتنازل عن بيت العطارين لنعمة و أخويها "عطية" و "صلاح" بإيعاز من زوجته مدام "مارسيل"، حينما قرَّرا الهجرة إلى فرنسا بعد العدوان الثلاثي؛ إذ لم يعد لهما مكانٌ في مصر على حد قولهما. وهذا البقال العم مينا، يهدي "نعمة" و "فكري" زجاجات الشربات و السكر، كهدية رمزية يوم خطبتهما. وتلك "نعمة" التي تشاطر جارتها أم "عاطف" الأحزان في وفاة زوجها المعلم "مسيحة". لوحات نابضة تدل بقوة على ما كانت عليه الإسكندرية قديمًا من أمن و تكاتف و سلام قبل أن تظهر موجات التشدد والتطرف التي أدت إلى تبدل الصورة جنبا إلى جنب مع زحف الغابة الإسمنتية التي حجبت البحر عن الأنظار ليختفي الجمال الروحي و الجمال الطبيعي ليحل محلهما القبح، و التعصب، والتدهور الذي اعترى الاسكندرية "مارية"؛ فصارت عروسًا حزينة شأنها شأن أهلها العاشقين لها. وتجدر الإشارة إلى أن رواية " الوعد و المقسوم" تستحق من وجهة نظري أن تكون إضافة قوية إلى تلك الروايات البديعة التي عبرت عن روح الإسكندرية و تاريخها مثل أعمال الروائي "إبراهيم عبد المجيد": "لا أحد ينام في الإسكندرية" ، و"طيور العنبر"، و "الإسكندرية في غيمة"، و"رباعية الإسكندرية" ل "لورانس داريل"، ورباعية بحري للروائي "محمد جبريل" وأعمال الروائي " مصطفى نصر" : "الهماميل" و"جبل ناعسة" و"يهود الإسكندرية" و " الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس" للروائي "طارق إمام".
نوستولوجيا الغريب:
"علام" تلك الشخصية التي تعبر عن معدن الشخصية المصرية التي تحمل الوطن بين جوانحها مهما طالت غربتها، فهو لم يقنع بخبز الغربة المنقوع في العسل، و ظلت نفسه تتوق دائما إلى خبز الوطن المغمس بالمر؛ فصحب عزلته و أجندته و ظلام غرفته، و عاش أسيرًا لذكريات الرفاق و الوطن. و لم تكتمل فصول مذكراته، ولم تصعد روحه إلى بارئها إلا بعد العودة المتأخرة إلى أحضان الإسكندرية؛ ليعاني آلام الوحدة و الفقد؛ ليبدأ فصلٌ جديدٌ من النوستولوجيا و الحنين إلى وجوه الرفاق الغائبة: "لمعي صنارة"، و الأستاذ "كامل"، و "فكري".
المرأة المصرية عمود الخيمة و حاضنة الأسرة، ورمز العطاء:
لقد أحسن الكاتب التعبير عن دور المرأة في جمع شتات الأسرة، فها هي الأسطى "فوزية" العالمة تنتشل "صباح" من الضياع بعد أن طردتها ليلًا مدام الثري "فتحي" المتحرش . وها هي "صباح" تحتضن ابنها "سيدًا"، و تصبر على محنة اختفاء زوجها "لمعي"، الذي اقتادته الشرطة إلى مكان غير معلوم، فتقوم ببيع الخضراوات أمام باب منزلها إلى أن تبتلى بمحنة قتل أمين شرطة المرافق. أما عن "نعمة" فقد اتخذ منها سمير لوبة أيقونة ترمز إلى عطاء غير متناهٍ، و إنكارٍ للذات؛ فمنذ أن ماتت أمها بحمى النفاس، بينما "نعمة" طفلة في العاشرة أخذت على عاتقها مهمة الاعتناء بأخيها عطية، وتربية أخيها الرضيع صلاح، و التردد به على مرضعات قرية "ششت الأنعام"، كي يرضعنه، فحافظت عليه من الهلاك رغم حداثة سنها، وها هي تحتضن أخويها و تقوم على خدمتهما وخدمة عمها محمود بعد الانتقال إلى الإسكندرية، وعندما أصاب المرض رئتي عمها قامت على رعايته، بالإضافة إلى عملها خادمة عند الخواجة "باروخ"، و عندما بترت ساقي أخيها "عطية" إثر حادث سيارة، لم تتردد "نعمة" في رفض إتمام الزواج من حبيب عمرها "فكري"، وبعد موت أخيها "صلاح"، لم تتردد لحظة في رعاية زوجته "وردة" و ابنته "منى"، حتى من لم يمتوا لها بصلة قرابة، لم تتردد في مد يد العون لهم؛ فنجدها تساند "صباح" في محنتها بعد القبض على زوجها "لمعي"، ونجدها ترعى "سيدًا" بعد دخول أمه "صباح" السحن. وإنما أراد الكاتب أن ينتصر للمرأة المصرية بشكل عام، وأن يشير بالتلميح و التصريح إلى أنها عمود الخيمة، وأكسير الحياة، الذي يمنح المجتمع المصريّ الطاقة و القدرة على النهوض من عثراته في أحلك الظروف، حتى لو كان هذا العطاء على حساب نفسها.
جرعات مهولة من الحزن، ومصائر قاتمة:
وعلى عكس الفصلين الأول و الثاني جاء الفصل الثالث و الأخير مشبعّا حتى النخاع بالحزن و المرارة و الفواجع مما أضفى عليه شيئا من القتامة، التي قد تتسرب إلى نفس القارئ بصورة سلبيّة. وإن كانت تلك القتامة لها ما يبررها دراميّا؛ إذ كان لزاما على الراوي أن يتتبع حيوات شخصياته، ويزيح اللثام عن الخواتيم و المصائر، التي آلت إليها. و إن كنت أتمنى على المستوى الشخصيّ أن يستبقي الكاتب شخصية أو اثنتين من رفاق الماضي؛ ليلتقي بهما علام عند عودته، خاصة "نعمة" و "فكري"؛ إذ مثلا قلب الرواية النابض، وقد جاء انهيار بيت العطارين فوق رأسيهما ليلة زفافهما محبطا من وجهة نظري كقارئ، تهفو روحه كسائر القراء إلى بارقة أمل في نهاية النفق المظلم، و إنما مبعث هذا الإحباط جاء من رصيد التعاطف الإنساني الذي أجاد الكاتب التمهيد له في الفصلين السابقين مع هاتين الشخصيتين؛ فإذ بهما يقعان فريسة الزلازل. ولكن في ظني أن الكاتب "سمير لوبة" أراد أن يؤكد بتلك المصائر القاتمة التي اختارها لشخوص روايته على تبدد الجمال، و احتلال القبح مكانه، و تغلغله في المجتمع شيئًا فشيئًا. فهزيمة أبطال " الوعد و المقسوم" ما هي إلا هزيمة للجمال. والكاتب بذلك أراد أن يطلق صرخة ألم، تعبر عن حزنه و كمده على ما أصاب محبوبته الإسكندرية من تردي.
في عشق الإسكندرية، ورثائها قراءة نقدية في رواية الوعد والمقسوم للكاتب سمير لوبة. بقلم كرم الصباغ |
تقنيات السرد، وسمات اللغة، والوصف:
اعتمد الكاتب على العديد من تقنيات السرد خاصة الفلاش باك، و السرد المتقطع، و السرد التناوبي، كما هيمن صوت الراوي العليم على أصوات الرواة الاخرى في فصول الرواية الثلاثة. هذا وتميزت لغة الرواية باللغة الشاعرية الشفيفة، التي لاءمت المونولوجات الداخلية التي اعتملت في نفس "علام" الطائر المهاجر العائد بعد طول غياب؛ ليجد نفسه في مواجهة ضدين: الماضي بجماله و أنسه و دفئه، و الحاضر بقبحه و جموده. أما عن الوصف فقد برع الكاتب فيه، فنجده قد رسم لوحات بديعة في مشهدية لافتة تجذب القارئ، و تجعله يقرأ كأنه يرى، لوحات تنبض بالحياة صوَّر فيها طقوس الزواج، والختان، والأفراح، ومآتم العزاء، و نبض كورنيش البحر، والشارع السكندريّ، و حواريه، ومقاهيه؛ ليعكس قيمًا و خصائص، طالما ميزت هذا المجتمع قديمًا، و أقصد بها قيم الترابط و التكاتف و التسامح، والوحدة بين أفراد المجتمع بغض النظر عن أديانهم، وأجناسهم، وأعراقهم. يقول في إحدى لوحاته: " عند الغروب وقد دنت شمس الأصيل من وجه البحر فيقبل وجنتيها لتزداد احمرارا، يمشي "لمعي" مع "صباح"، فتاة في مطلع الشباب ذات وجه صبوح يشع جمالا، وغمازتين في الوجنتين مع كلّ ابتسامة. ينسدل شعرها الكستنائي من تحت المنديل "أبو أوية". لها قوام ملفوف سمهري، وصدر ناهد. خصرها الخيزران يميل إذا هبت على قدها الريح، تتهادى في الملاءة اللف في حسن ودلال."
إرسال تعليق