عازف الروح، د. شادن دياب / دار ورقاء 1443 هـ



عازف الروح، د. شادن دياب / دار ورقاء 1443 هـ



بقلم: عاطف عبدالعزيز



هو كتاب إشكالي بدرجة ما، شاء أن يطرح نفسه علينا عبر فقرة شديدة الإيجاز جاءت في الخاتمة تقول:

«خارج إطار الوقت وتداعيات النسبية بأشلاء مبعثرة لطائر غير معروف التفاصيل، محلق في فضاء العزلة بحنين عشق .. بعيدًا عن الواقع ... »
على أن تلك الفقرة السابقة والتي تجمع الكتاب كله في قبضتها، سرعان ما سوف نراها تتفتت إلى ثلاثة مشاهد رئيسية، كل منها أشبه بباب يفضي إلى لا شيء، أو ربما كل شيء، جاء أولها تحت عنوان (أشلاء مبعثرة)، قدمت له الكاتبة بفقرة تبدو جامعة مانعة تقول فيها:

«خارج إطار الوقت وتداعيات النسبية، مفاجآت اللحظات المتداعية في انهماكها تتوقف عن مربع سرعتها ومعادلته، وتغيّر المساواة لجعلنا رهينة لحظة آنية»

ضم هذا المشهد تحت عنوانه سبعة نصوص، كان من المتوقع أن ترسم لنا صورة دامية لتلك الأشلاء، إلا أن الأشلاء جاءت على غير ما نظن، فالكاتبة لا ترى الإنسان ممثلًا في جسدانيته فقط، ولا حتى في ثنائية الروح والجسد، بل هو في اعتقادها خليط معقد من عناصر تبدو مجلوبة من حقول متباعدة لا يجمعها جامع، فهي الجسد، والروح، والزمن، والصوت، والذاكرة، وربما أشياء أخرى، ولنطالع معًا بعضًا من تصورات الكاتبة عن عناصر ذياك الخليط، فها هي تكتب تحت عنوان الصوت، ما يكشف لنا عن زاوية نظرها لهذا (الشلو) المسمى بالصوت، فتقول لنا:

«هل يمكن الإجماع على أنه فقط نوع من فسيولوجيا البشر؟ أو علم طبي لترسم أنغام المشاعر البشرية في حزنها وفرحها وغضبها، تلك الحروف المتسلقة جدران القصبات الهوائية لنفخ حرف الواو وجعله منطاد إعجاب كامن، تتظلل في طبقاته حروف التعب، وتستلقي في شهيقه أنفاس الحرية»

أما عن الشلو المسمى بالرائحة، فهي تفسر لنا الأمر فتقول عن عالم الروائح: 

«هي تلك الفصول التي تفصل ماضينا عن حاضرنا بربيعها وخريفها هي تلك الأماكن التي لامست أجسادنا بجاذبيتها وزرعت برائحة قهوتها وعبق زهرها حديقة أسرارنا»

ثم عندما تحدثنا عن الوقت بوصفه أحد أشلاء الكيان البشري، ومكونًا أساسيًا فيه كالدم الذي يجري في شرايينه، تقدم لنا ما يشبه التوصيف الخاص عل النحو التالي:

«لا يمكن أن نقفز في حواجزه إن بدت لنا سهلة الاختراق/ لا يمكن إيقافه. فلنجعل منه صديقًا بجمال الزمن الجميل، ولنرسم ما تبقى من أحلامنا بريشته. ولنجعل من أجنحته طموحنا قوة تسارع نظرية النسبية. في سباقها لسقوطنا في اللانهاية في عده التنازلي لأعمارنا.. »

اللافت في نصوص المشهد الأول هو الحضور القوي لمفردات بعض العلوم التجريبية مثل الكيمياء والفيزياء وغيرهما، وذلك على نحو غير مألوف في نصوص تنحو باتجاه الأدب، فنجد أشياء مثل الألوفاتية، الموجات الهوائية، والنسبية، وقوانين الجاذبية، والحركة المدارية، ودافعة أرخيميدس، وغير ذلك، الأمر الذي يشي بأن كاتبتنا تعمل في حقول معرفية بعيدة عن الأدب نسبيًا، بيد أنها تحاول أن ترفد اللغة الأدبية وتنميها من خلال مفردات جديدة ومستحدثة.


عازف الروح، د. شادن دياب
عاطف عبدالعزيز، عازف الروح، د. شادن دياب، منتدى المستقبل للفكر والإبداع



يجيء المشهد الثاني تحت عنوان (كائن طائر غير معروف) كي نكتشف أننا أمام خليط جديد من الأشلاء، غير أنها هنا ليست بأشلاء كائن حي، بل هي أشلاء هذا العالم المعيش الذي أفسده الإنسان (الرجل غالبًا) بجشعه ونهمه السلطوي وعشوائيته.
 ففي النص المعنون بمملكة الرجال تقدم لنا الكاتبة ما يشبه هجائية مستترة لتاريخ الرجل في هذا العالم، الرجل الذي عمد إلى إقصاء المرأة وتهميشها عبر العصور، فتقول في عبارات قاسية: 

«لا وجود للتاء المربوطة ولا لفاتحات الأندلس، ولا لشاعرات غرناطة في مملكة الرجال. تتخذ جان دارك بشعرها الذهبي المصفوف تحالفًا مع شجرة الدر وتواري كلتاهما الأنظار عن خلافات العصر. في مملكة الرجال تبدو حورية الجنة العذراء حاضرة في مخيلة العقيم»

ترسم لنا الكاتبة لنا صورة لحمق الإنسان وجشعه، وما ألحقه بالعالم من أذى في سبيل الاستقرار فوق العروش سلطانًا (وليس بالطبع سلطانة)، فتقول لنا في نص بعنوان (التوازن الهش) :
«بأربع أقدام يتأمله السلطان، فبالعنفوان انتزعه من حبر الأقلام كرسي السلطان القائم على فتك اللسان، وكبح حلم الإنسان وتكتيف الزمان وسرق الأمان، كرسي السلطان يمتد في جوف المكان فيحفظ توازن الأركان، ويبدو في علوه ملك الأوان والزمان»

على هذا النحو تمضي نصوص المشهد الثاني بنصوصه العشرة، غير أن الملاحظ هنا هو اختفاء المفردات العلمية الجامدة، تلك التي كانت قد شاعت في نصوص المشهد الأول، باستثناء مفردة (أنتروبيا) التي جاءت عنوانًا للنص الرابع من هذه النصوص.

أما المشهد الثالث والأخير من هذا الكتاب، والذي جاء تحت عنوان (خوارزميات عشق)، فقد حمل توجهًا مغايرًا عن سابقيه، إذ قدمت له الكاتبة بفقرة ذات مغزى، فقرة تخلت فيها عن أي منهج علمي مستسلمة لوجيب القلب ورفيف الروح، فها هي تقول لنا بوضوح:

«الحب إذا دخل في معادلات أو حسابات، يصبح جزءًا من فواتير آخر الشهر .. وتبدأ تصفيته معادلة حتمية للنهاية، بعيدًا عن خوارزميات العشق... »

هكذا يبدو المشهد الثالث (خوارزميات عشق) أقرب ما يكون إلى كتاب منفصل يضم جملة من الخواطر الوجدانية التي قوامها البوح والإفصاح عن المكابدات التي يقاسيها المحبون المهجورون، شيء من روح التسامح والتصالح مع العالم تشيع في هذا الجزء من الكتاب بالمخالفة لنصوص المشهدين الأولين، ما جعلنا نميل إلى وجود فجوات زمنية تفصل بين كتابة المشاهد الثلاثة، ولعلنا بحاجة إلى الولوج إلى أحد النصوص الدالة عن روح المشهد الثالث مثل نص (إنك رحلت) الذي يقول لنا على لسان الكاتبة في مجتزأ منه:
«أعلم أنك هنا، على الرغم من أنه لم يبق لي إلا بعض من تراب ألحانك، وأنفاس حروفك. أعلم أنك هنا على الرغم من أنه لم يبق لي سوى تصفح جدران الذاكرة الواحدة تلو الأخرى، ففي الصفحة الأولى لقاؤك، وفي منتصفها شغف قلبك، وولعك، ثم خوفك. لتوقع في أدناها أنني سأرحل، لم يبق لي إلا بعض ذرات الدموع السكرية المطعمة بلون الموعد عند الوداع، لم يبق لي سوى رائحة الوقت عند دقات القلب في هروبه من قفص صدر الحلم» 


عازف الروح، د. شادن دياب
عازف الروح، د. شادن دياب



لعل أهم ما يطرحه كتاب (عازف الروح) من وجهة نظرنا -وهو كتاب إشكالي بلا ريب على مستويي الشكل والمضمون- ما يتعلق بسؤال النوع الأدبي، ثمة ما يدعونا إلى محاولة التعرف على طبيعة النواة التي تتحوصل داخل تلك النصوص، لاسيما حين نتأمل ما يتجاذبها من أقطاب متنافرة، أو لنقل: أقطاب تبدو متنافرة، ما بين النظر العلمي المادي، والنظر الفلسفي المحض، والنظر الأدبي الإبداعي.

الراجح لدينا، هو أن الكاتبة كانت تتقصد في كتابها هذا الإبداع الأدبي، دليلنا على ذلك ما استقرت عليه النصوص في القسم الثالث والأخير من الكتاب، حين جاءت في لغة أدبية تموج بأنساق مجازية واضحة المعالم، يضاف إلى هذا حرص الكاتبة الواضح على توفير شيء من الإيقاع ذاخل نصوصها، عبر تسجيع نهايات الجمل في العديد من المواضع بالكتاب، بما يذكرنا بفن المقامات، مثال ذلك قولها في نص (التوازن الهش):

«فتعلو الأصوات، بين الحقوق والواجبات، لتجد معادلة صفرية من وضع الذات، حسب المعطيات، فلاهي من الدرجة الأولى ولا الثانية ذات حدين لما آت، الخوف والسبات»


عازف الروح، د. شادن دياب
عازف الروح، د. شادن دياب


سؤالنا الآن: هل أصابت الكاتبة ما قصدت إليه؟
نقول بصراحة، ثم ما يشعرنا بأن الكاتبة تحمل مفهومًا محددًا عن الكتابة الأدبية، وهو مفهوم يعتوره -في ظننا- شيء من القصور رغم ثقافتها اللغوية المعتبرة، مرد ذلك ربما هو الانعزال النسبي عن المشهد الأدبي الراهن باتساعه وتبايناته ومعاركه الفكرية، ومن ثم جاءت الرؤى مشبعة بالرومانتيكية الحالمة التي شاعت في ثقافتنا العربية على مدى النصف الثاني من القرن العشرين ، فلا غرو إذن أن تصبح نصوص (عازف الروح) في عمومها تعبيرية منشغلة بالبوح والتفسير والإبانة، بأكثر من انشغالها بالتشكيل الفني وصياغة الأسئلة.

على أن ما سبق لن يمنعنا -في الأخير- من الإشادة بهذا المزج الجسور، بين اللغة العلمية البحتة الصارمة من جهة، واللغة الأدبية الرقراقة والرجراجة من جهة أخرى، الأمر الذي جعل من اجتماعنا حول هذا الكتاب ضرب من العصف الذهني، وتجديد النظر في ماهية النص الأدبي، ومن يدري .. لعل (عازف الروح) يصير -في قابل الأيام- تبشيرًا بنص جديد. 

عاطف عبد العزيز
                                                                                                                             نوفمبر 2023



Post a Comment

أحدث أقدم