صلاح هلال الحنفي يجيع اللفظ، ويشبع المعنى في مجموعة "وجوه خارج الكاد".  



صلاح هلال الحنفي يجيع اللفظ، و يشبع المعنى في مجموعة "وجوه خارج الكاد"، بقلم: كرم الصباغ.
صلاح هلال الحنفي يجيع اللفظ، و يشبع المعنى في مجموعة "وجوه خارج الكاد"، بقلم: كرم الصباغ. 



           بقلم: كرم الصباغ. 



استهلال:


   يعد التكثيف أحد أهم مقومات القصة الحديثة، التي تعتمد على الاقتصاد في اللفظ و الإخفاء أكثر من البوح، وإذابة العناصر المختلفة المتناقضة والمتشابهة، وجمعها في كيان واحد متين عن طريق تناول الأحداث بإيجاز دون اللجوء إلى الشرح والسببية والتفصيل، مع التلويح بالإشارات التي من شأنها فتح الباب على مصراعيه أمام القارئ و الناقد كي يمارسا لعبة التأويل، مما يسهم في إثراء طاقة الاستكشاف و الاستنباط الأمر، الذي يؤدي إلى تعدد القراءات ومن ثَمَّ اتساع الدلالة و إشباع المعنى. 


صلاح هلال الحنفي يجيع اللفظ، و يشبع المعنى في مجموعة "وجوه خارج الكاد"، بقلم: كرم الصباغ.
صلاح هلال الحنفي يجيع اللفظ، و يشبع المعنى في مجموعة "وجوه خارج الكاد"، بقلم: كرم الصباغ. 



صلاح هلال يطبق التكثيف بزواياه المتعددة: 


   إذا سلمنا جدلا بأن المعنى الاصطلاحي للتكثيف هو تضمين القصة مفاهيم ذات مدلولات عميقة ضمن مساحة نصية ضيقة باستخدام آلية الحذف، شرط ألّا يُحدث ذلك خللًا في القصة وأحداثها ونصها بشكل عام أو شخصياتها.( جلال مرامي، دراسة القصة القرآنية القصيرة حدا و عناصرها) وإذا سلمنا بأن للتكثيف أنواع و زوايا عديدة أشار إليها الباحثون، و منهم " شوقي بن حاج، و غيره، فسوف نكتشف أن الكاتب صلاح هلال قد نجح في تطبيق التكثيف من عدة زوايا. 

١-وجوه خارج الكادر و التكثيف البنائي:


 يتحقق التكثيف البنائي بأن يتخلص النص من كل ما يمكن التخلص منه من جمل أو كلمات مع التخلص من المترادف والمفهوم ضمنا والاستدراك والاستطراد؛ بحيث يتماسك النص وتصبح كل كلمة فيه وكل حرف له دور في السرد. ومن هذا المنطلق سوف نكتشف أن صلاح هلال قد فطن إلى ذلك المفهوم، و قد ركن إلى تطبيقه؛ إذ تراوحت مجموعته بين القصص القصيرة التي لا تتجاوز الصفحة أو الصفحتين و القصص القصيرة جدا، التي لا تتجاوز عدة أسطر. كما اعتمدت تلك القصص على الجمل القصيرة الموحية المتلاحقة في فيض سردي متتابع نقرأ في قصة " وجه جدي الآخر": " يرى أشباحا كأقزام، تحوم حول حدودها، تغدو و تروح؛ فغلبهم في أمرهم، صرخ صراخا لا يتوقف، شق رؤوسهم بفأسه، انشقت الأرض عن وجه عريض كأنه وجه جده" و يقول في قصة " عقول لم تمت" : " كنا نركض في تيه مستمر، مات أبي، و لم نجد له دواء. صرخت أمي صرخات، لبست ثوب الرجولة، و أحاطتنا بروحها". و من هذين النموذجين نستشف ما اصطبغت به المجموعة كلها من البعد التام عن الحشو، الذي يعد التخلص منه الامتحان الأصعب للقاص، وكما يقول الكاتب الفنزويلي لويس بريتو غارسيا: "يبدأ التواصل حيث ينتهي الحشو، وتبدأ الكتابة والغواية حيث يبدأ الإيحاء"

٢- وجوه خارج الكادر و التكثيف الدلالي:  


  دعنا نتفق على أن التكثيف الدلالي يعتمد على جعل النص مفتوح يحتمل تأويلات عدة يتفاعل فيه المتلقي حسب رؤيته الذاتية. و من هذا المنطلق نلاحظ أن صلاح هلال في مجموعته هذه قد ابتعد تماما عن المباشرة، وقد اعتمد على الرمزية التي تنفتح على أكثر من تأويل، كما اعتمد على الجمل المكثفة، التي تحتوي معاني لها دلالات إيحائية متعددة تتشابه كثيرا مع لغة الشعر؛ فنحده في قصة "وجه جدي الآخر" قد بدأ برؤيا، يزور فيها الجد حفيده، ويدعوه إلى الإسراع إلى أرضه الموروثة، و يحذره من أشباح تعبث بحدودها، فينتبه الحفيد من نومه مذعورا، و يسرع إلى أرضه، كي يعيد حدودها إلى ما كانت عليه. هنا تنفتح أبواب التأويل؛ فرب قارئ يرى أن الأرض الزراعية في القصة قد رمزت إلى الوطن كله، و إلى أن الأقزام و الأشباح إنما يرمزون إلى الأعداء و الأخطار التي تحدق بالوطن، و إلى أن العصافير التي لا تزقزق إلا بعد أن يهوي الحفيد على رءوس الأقزام بفأسه، إنما تشير إلى أن لا سبيل إلى الطمأنينة و السعادة إلا بالحفاظ على تراب الوطن، والتشبث بالهوية و التاريخ. ويعود الكاتب إلى التأكيد على الفكرة ذاتها في قصة أخرى هي " ساعة جدي" حيث نجد الراوي المشارك ينقل لنا حالة التوحد و التماهي مع ساعة الجيب التي تناقلت من الجد إلى الأب و من ثم إلي الراوي ذاته، إلى أن ينشغل بهاتفه المحمول عنها، في إشارة إلى ثقافة العولمة الوافدة التي تقتلع هويتنا من جذورها في مواجهة ثقافة استهلاكية وافدة فككت عرى الترابط بين أبناء الأسرة الواحدة، و في غمرة السكرة و التغيب يتذكر الراوي، بشكل مفاجئ ساعة جده على وقع صوت مكبر بائع الروبابيكيا؛ فيكتشف أن أبناءه قد منحوا الساعة ابنته الصغرى/ المستقبل؛ فقامت بالتفريط بسذاجة و جهل في ساعة الجد/ التراث، و الماضي، و الهوية؛ فما كان من الاب إلا البحث عن بائع الروبابيكيا كالمجنون و استعادة الساعة التي عرضته لسخرية الآخرين الذين أنكروا عليه تمسكه بموروثاته و ماضيه. إن تلك القصة على صغرها قد فجرت قضية شديدة العمق ألا وهي قضية الهوية التي تعصف بها المخاطر، و دور الآباء و الأمهات في غرس قيم الانتماء في نفوس الصغار، و إلا تعرضت الهوية العربية للتجريف في مواجهة ثقافة العصر و رياحها العاتية. تلك إحدى القراءات المحتملة مع التأكيد على أن القصتين السابقتين تحتملان أكثر من قراءة و أكثر من تأويل. 




صلاح هلال الحنفي يجيع اللفظ، و يشبع المعنى في مجموعة "وجوه خارج الكاد"، بقلم: كرم الصباغ.
صلاح هلال الحنفي يجيع اللفظ، و يشبع المعنى في مجموعة "وجوه خارج الكاد"، بقلم: كرم الصباغ. 




٣- وجوه خارج الكادر والتكثيف التجريدي: 


   إن التكثيف التجريدي هو تصور القيم المطلقة كالحرية والحب و العدل كأنها أشخاص تتفاعل فيما بينها. أو هو استنهاض واستحضار شخصيات و وقائع أسطورية أو تاريخية مما سيؤدي إلى استحضار مدلولات، لن تكتب بطبيعة الحال؛ فبمجرد استحضارها ستنبثق في أذهان القراء ما يرتبط بها من مضامين وقيم. و من هذا المنطلق نجد أن المبدع صلاح هلال قد اعتمد على التكثيف التجريدي في غير موضع؛ فعلى سبيل المثال نجده في قصة " كهف القيعان السبع " قد استدعى موقعة "حطين" و شخصية صلاح الدين الأيوبي من خلال جندي من جنوده؛ مما يؤدي إلى إحالتنا إلى صفحة من صفحات العزة العربية، وهنا يتولد الصراع، والتناقض بين الماضي والحاضر، و ما آل إليه حال الأمة العربية من تفكك وضعف. يقول " وفي الشروق و معي الزاد أبحث عنه؛ لم أجده؛ نظرت إلى السبعة قيعان، مرسوم عليها أرجل فرسان مكسورة، رأيت ورقة بردي معلقة فوق الكهف مكتوب عليها : "ابحث عن قائدي". وجدته على مرمى البصر، يمتطي صهوة جواده، أحسست أنه يجذبني بقوة، ولكنني وجدت نفسي متسمرًا" 

٤-وجوه خارج الكادر والتكثيف السيكولوجي: 


إنّ التكثيف السيكولوجي أو النفسي فهو تفكيك الذات لمكوناتها ( الأنا، والأنا الأعلى، والهو) وإعمال التفاعل بين تلك المكونات، وكأنها شخوص تتفاعل وهنا تتواجد شخوص عدة داخل العمل الواحد رغم أن بطله شخص واحد وتدور رحي التكثيف هنا حين نعمل التلقي الواعي بين مكونات الذات وتفاعلها فيما بينها. و من هنا نلحظ أن صلاح هلال قد اعتمد في غير موضع على المونولوج الداخلي ليبرز صراع شخصياته مع ذواتها مثلما نجد في قصة " ترمس بلون الدقيق" حيث يقول:" عقلي يدور، يحاورني، يذكرني في زمني المفتوح بصباي، عندما تأتيني فرحتي" و يقول في قصة " صورتان للزهور" : " اليوم غير الأمس، امتزج الالم بالفرح، صيحات و همهمات تقابلها تنهيدات تعتصر القلب، وقفت ، عيناي على زهرة، سألت نفسي: هل أقطفها، أم أتركها؟! 

وجوه خارج الكادر من حيث اللغة: 


وفي النهاية أود أن أشير إلى لغة المجموعة قد تميزت بالرشاقة و الشفافية و الشاعرية. لولا بعض الهنات اللغوية التي تحتاج إلى مراجعة في الطبعات القادمة. كما أود أن أشير إلى أن مجموعة "وجوه خارج الكادر" مجموعة ثرية تستحق أن تدرس من جوانب أخرى عديدة. 

1 تعليقات

  1. تتعدد محاور القراءة الرصينة والشاملة لأهم عناصر القصة القصيرة مثل اللغة السردية ، و بناء الشخصية بأبعادها التى تتسق مع الاحداث وتداعياتها ، والإشارة إلى الدلالات الايحائية التى تكمن في النص وتتيح للقارئ إضافة تأويلات أخرى مما يجعل للنص أوجه تأويلات متعددة ومختلفة ...قراءة جدير بها النص

    ردحذف

إرسال تعليق

أحدث أقدم