أنشودة الحب والجمال في قصص "همس الياسمين" للكاتبة سوما الباز
بقلم: أشرف بدير
بداية أرى بأنَّ اختيارَ الأديب - عامة - لكتابة القصَّة القصيرة، لونًا أدبيًا شَائقاً جاذِباً، و فناً راسِخًا واعيًا من فنون الأدب؛ لهو اختيارٌ موفَقٌ في أغلب الأحَايينِ، يتناسبُ مع حَياةِ الواقع اليومي، التي يعيشُها الإنسانُ، و الذي يجمَعُ فيها الأديبُ بين الواقعِ الذي يعيشُه فعلًا، و بين الخيالِ الذي ينشُده، يُصيبُ بها مَكامِنَ الألم لديه، و يخاطِبُ فيها نبضَه و عقلَه و وجدانَه .
فالقصَّةُ القصيرة بمثابة مرآةٌ ناصِعة جَليَّة تعكس حياةَ الناس بحُلوِها و مُرِّها، فيراها المتلقي مصْقولة بالحقائق جلية لا غَيْمَ فيها، تَرصدُ بحق ما يَحمِلون على كواهِلِهِم من صخورٍ ثِقالٍ، لِتنوء بها أعناقُهُم الوهِنة و ظهورُهُم الضعيفة، التي أنهكتهما آلامُ و أوجاعُ الحياة، حتى زهدوها حَدَّ اليأس، كَلُّوا منها حدَّ المَلل، يُسلِّطُ القاصُّ بها الضَّوءَ على ما رسخَ بطَيَّاتِ نفوسِهم، و يرصدُ بها ما غاصَ بأعماقِ أفكارِهم، و يطْرحُ فيها كثيرًا مما يطمحون و يشعرون، و يُجسِّدُ بها أجملَ أمانيّهم في تلك الحياة وأعذبَ أحلامهم، التي علقتْ بها نفوسُهُم.
في هذه المجموعة القصصية الموسومة " همس الياسمين " تمتطي القاصة " سوما الباز " صَهوةَ جواد القص، و ظهر بساط الخيال، فتسْبُرُ أغوارَ المواقف و الأحداث العميقة، و ترصد كثيرًا من المفارقات الدَّقيقة، التي تحمل في طيَّاتها شحناتٍ انفعاليةٍ، تُحرِّك الإنسانَ داخل ممراتِ الواقع و في دهاليزِ الحياة، ما منح السَّردَ قوَّة و حَيويَّة و طاقة، فلا يَسع الشّخصية في داخل القصة إلّا أن تَروي عن نفسها حكايتها، و تُضفِّرُ الأحداثَ داخلها ضفائرًا، و تُلوِّنها بألوانٍ زاهيةٍ جميلة، و تُضْفي عليها كثيرًا من الجمال و الروعة لا ينتهيان، فتترك لدى المتلقي انطباعاتٍ حقيقيةٍ، يجني من ورائها جميلَ النُّصح الرشيد، و بهاء الأحلام الجميلة، و روعة العمل القويم، و شهدَ المُتعة الحُلو، ونقاءَ التوازن النفسي، بين خيالات القصِّ الجميلة، و واقعِ الحياةِ المرير في كثيرٍ منه، المؤلم في معظمه.
و العَتبةَ الأولى لهذه المجموعة القصصية التي بين أيدينا " همس الياسمين" تنطوي على لفظين "همس" الذي يدلُّ على الحديث الخافت الذي يكاد لا يُسمع إلا بالانتباه الشديد للمتكلم، و كأنَّ القاصَّة تطلبُ منَّا أن ننتبه لما تقول، و أنْ نُركِّزَ كثيرًا فيه، ومعها، ثم تُعْزي هذا "الهمس" إلى زَهر " الياسمين" الذي تراه الكاتبة لا يكذب فيما يقول أبدًا.
و تَحْرِصُ القاصَّةُ " سوما الباز " على انتقاءِ الألفاظ الفريدة، لتُرَصِّع بها جُملاً مُكثَّفة و مُترابطة، غير مُترهِّلة أو مُخْتَلَّة، و من خلالها تُجسِّدُ لنا صوراً مرئيّة لكل متلقٍ على حدةٍ، فيُبصرُ من خلالِها ما يشاء من سِحرَ الزمان و بيان المكان، داخل واقعه الذي يعيش فيه، فتؤجِّجُ لديه الدَّهشة و تُشعلُ فيه الشغف و التشويق ببراعة واقتدار، و خاصة عند النهايات في كل قِصَّةٍ على حِدة، و التي تكون صادمة و مُدهشة للمتلقي، و التي تَتأتَّى من براعةِ الإضمارِ و وشدة الإيجاز، فتصيب المتلقي بالذهول و المفاجأة غير المنتظرة، كإحدى عناصر التشويق و الجَذْب المبتغى في القصة القصيرة.
و يَظهر هذا جليًا في قصتها الأولى " صمت أبدي" التي تبدأها بجملة تشويقية تقول فيها:
" حُزنها الصامت يقتلني، أفهمها دون كلام ولا عتاب، هي رفيقة دربي وسند السنين، حديثي معها ليلة أمس كان بمثابة خنجر مسموم طعنته في قلبها الضعيف دون رحمة. أتساءل: كم من الوقت كفيل أن ينسيها حزنها هذا ؟ "
فقد بدأتْ الكاتبةُ قصَّتها بتشويق جاذب للمتلقي، بجملة "حزنها الصامت يقتلني" ، لتجعلهُ يفكر ويتساءل :
من هذه التي يتحدث عنها البطل، و ما الذي يجعلها تحزن في صمت، و لماذا يهتم بها حتى تجعله يتألم و يؤنِّب نفسه حتى القتل؟!.
ومع السرد الجميل الشائق عبر تقنية الرواية بضمير المتكلم من داخل الأحداث، نفهم السبب الذي جعل البطلة تحزن، و هو قيام زوجها بالزواج من أخرى، و رضائها بصمتٍ قاتل لها وله.
أشرف بدير يكتب: أنشودة الحب والجمال في قصص "همس الياسمين" للكاتبة سوما الباز |
و تنهي الكاتبةّ قصتها بالطريقة ذاتها، بجملٍ متلاحقة، يؤنب فيها نفسه أيضًا، فتقول على لسان البطل:
" كلماتها تأسرني ولكني أشعر بما يختلج به قلبها. استيقظت مبكراً، و شاركتني إفطاري قبل أن تودعني بابتسامتها، و دعواتها كعادتها خلال الأعوام الماضية، ذهبت إلى عملي شارد الذهن، لأن صورتها ونظرتها الحزينة التي حاولت إخفاءها لم تفارقني.حسنًا فلينتظر العمل وكل شيء، لابد أن أذهب إليها و أقضي يومي في محاولة للتخفيف عنها.
و تنهي الكاتبة قصتها بجملة فارقة صادمة، تقول فيها على لسان بطلها:
" انحدرت دموعي في صمت، وأنا أتأملها نائمة مثل الملاك، وناديتها فجاوبتني، بصمت ٍأبدي".
هكذا أخذتنا الكاتبةُ من أنفسنا في سردٍ ماتع، وجعلتنا نعيش مع أبطالها حتى جعلتنا في نهاية القصة في حالة من الحزن، عما أصاب تلك السيدة من الألم الذي أودى بحياتها، و كذا تركتنا في مشاعر متباينة، حول هذا الرجل الذي قد نتعاطف معه قليلًا، و قد نمقته و نغضب منه كثيرًا .
و قد استطاعت القاصة " سوما الباز " بأسلوبٍ أنيقٍ جاذبٍ رائقٍ، عبر سَردٍ آسرٍ مُكثَّفٍ و مُركَّزٍ، و لُغةٍ رَصينةٍ فَصيحةٍ، أنْ تَدلفَ إلى القلوبِ و الأفئدةِ، لتُمرِّر للمتلقي رسائلاً عدَّة، تمثل قناعاتها الشَّخصية، داعية إلى اعتناقِ مباديء الحقِّ و الخيرِ و الجمال، و رفع الظُّلم و دفع الطُّغيان، فتَصُوغُ لنا قصصاً عبقة، مُحَمَّلة بالآلام و الأوجاع عبر أبطالها، ويظهر هذا جليًا في قصتها " سارقوا فرحتي " التي تحكي قصة تلك الفتاة التي فقدت حبيبها وخطيبها، قبل زفافها بيوم واحد نتيجة تعدي بعض الفِتية المارقين عليهما وقتله.
و قد انتهجت " سوما الباز " في قصصها نهْجًا مختلفًا مائزًا، يجعل المُتلقِّي ينهلُ منها آثاراً معرفية وثقافية، و يعيشُ
فيها بشَغفٍ وعيًا حياتيًا، و يحيا بها واقعًا اجتماعيًا ملموسًا، يُنسيه واقعه و حياته الحاضرة، سابحُا في شغف المتعة، و لذّةِ القراءة، المُنعشة لخلجاتِ الروح، كأنه يحيا وسط أبطاله، منصهرًا في أعماق تفاصيلهم، شاعرًا بأوجاعهم و أفراحهم، عبر صور عَبِقة و لُغة رصينة، ضمنتها كل آليات القصِّ السَّوي والحَكي المتين، و الحرف الرصين، واللفظ العَفي العَتيد ، و رؤى مُتعدِّدة، و جماليات مُتنوِّعة الأبعاد، بدلالاتٍ مُدهشةٍ مُذهلةٍ آخذة للعقل، آسرة للنفس، مُحَبَّبة للقلبِ، و مع وَخذات الألم و سَكرات الوجع و ذلَّات الأسى كما في قصتها " خلع " التي تُسلِّطُ الكاتبةُ الضوءَ على مشكلة حياتية، تصيب بعض الأسر في المجتمع، وهي مشكلة الخيانة الزوجية التي قد تؤدي في النهاية إلى القتل و إلى الخراب.
و قد رسمت لنا " الباز " عبر كل قصة من قصصها مَطَلَّات متعددة، و أبواباً متفرقة، تُؤدِّي جميعُها لعودة الأمل المفقود، و الخلاص المنشود، نحو عالمٍ أقْوَم و واقعٍ أفضل للحياة، لنعيش معها حياة أُخرى أبهى و أروع و أجمل، تعيد لنا التوازن النفسي والرجْح العقلي والهدوء الروحي كما في قصتها " أجازة سعيدة" التي تسرد فيها بعض الإرهاصات الفكرية غير السَّوية، التي قد تنتاب بعض السيدات في علاقتهن مع أزواجهن، ثم يكتشفن في النهاية سوءَ ظنهن، كما في بطلة هذه القصة، التي تكتشف فيها سوء ظنها بزوجها، في مفارقة ضاحكة تُنهي بها القصة بين الزوجين.
و في صرخة مدوية من الكاتبة، يعتريها حزن شديد، تُسلِّط الكاتبة الضوءَ على حالة من الخِسَّة في التفكير، والبشاعة في التنفيذ، لجريمة قتل شنعاء، ترتكبها زوجة العم ضد تلك الطفلة البريئة التي لم تقترف ذنبًا، وكان ذلك بدافع السرقة، وتنهي الكاتبة قصتها بفضح الجانية في قصتها " بأي ذنب قتلت " بمفارقة تزاوج فيها بين الواقع و الخيال، لتنطق فيها الضَّحية ونحن معها بصرخة مدوِّية: بأي ذنب قتلت.
لقد استطاعت " سوما الباز " عبر اعتناقها لتقنيَّتَي السرد المتقطع " السرد استرجاعًا واستباقًا للأحداث " ، وكذا السرد التسلسلي " السرد بحسب زمن وقوع الأحداث" أن تجعل المتلقي منتبهًا دائمًا عند القراءة بغير مللٍ، متابعًا بشغف شديد للقراءة غير المنقطعة، إلا مع كلمة النهاية، في كل قصة من قصصها، ما أصاب المتلقي بالمتعة، التي ينشدها دائمًا من وراء الأدب، والإفادة التي يبتغي تحصيلها من وراء القراءة بوجه عام، لتجمع الكاتبة بين عنصري الجودة في الأدب، و هما الجمال المتمثل في المتعة، و الثقافة المتمثلة في الإفادة، لترتقي بما تكتب، وتسمو بما تُفكِّر، لتصيب أدبًا جيدًا باذخًا ماتعًا ومفيدًا .
دراسة رائعه ماتعه شرفت بها من كاتب وأديب كبير
ردحذفشكرا من القلب سيادة المستشار الأديب أشرف بدير
وكل الشكر والتقدير موقع بانوراما أدبية والقائمين عليه
كل الشكر والتقدير للكاتب الكبير الأديب المستشار أشرف بدير
ردحذفإرسال تعليق