كتاب زورق من الورق
عرض المبادئ العامة لأنثروبولوجية المسرح
الكاتب والمخرج المسرحي إيوجينيو باربا
ترجمة د. قاسم بياتلي
الفصل الثالث، ج4
جسد عازم (*)
(*) (Un corpo deciso ) أو جسد در تصميم و اقرار - ثابت العزيمة ( المترجم ) .
قال جروتوفسكي في احدى دورات الـ (ISTA) ( المدرسة العالمية لانثروبولوجية المسرح ) في بون عام ۱۹۸۰ : « إن التعبير الحقيقي هو تعبير الشجرة، وفي توضيحه لذلك قال : ( لو أراد الممثل أن يعبر، فسيكون منشطرا الى قسمين، جانب يريد وجانب يصبر، جانب يعطى الأوامر والآخر يقوم بانجازها»
هناك تعبير يستخدم في الكثير من اللغات الأوروبية ، يمكن أن نختاره من اجل تكثيف ما هو جوهرى لحياة الممثل، وفي هذا التعبير التباس نحوى ، حيث يأخذ الشكل الخامل (passivo) فيه صيغة معنى النشيط (attivo) ، وتظهر الإشارة فيه إلى الاستعداد الحيوى للفعل وكأنه مغطى بشكل من الخمول . وذلك ليس بتعبير غامض ، بل خنثوى - (ermofrodito) ، يحمل في طياته الفعل والشبوب العاطفي ( أو الولع - المترجم) وبالرغم من غرابته فهو تعبير شائع في اللغة العامة ، ويقال فعلا عازم ( أو مصم - أو أن يكون ذا اصرار - المترجم ) essere decision ، وبالفرنسية « étre dicide ، وبالانجليزية - to be decided . . ولا يعنى ذلك أن هناك شخصا يقرر . ولا أننا خاضعون لقرار ، أو أننا موضوع ذلك القرار ، ولا يعني اننا في حالة اقرار، أو اننا نقوم بقيادة فعل القرار .
وبين هذين الظرفين المتضادين يجرى عصب الحياة ، ويبدو أن اللغة غير قادرة على الاشارة اليه ، ولهذا فهي تدور حوله من خلال الصور . ولا يوجد تفسير لذلك، ولا يمكن توضيح ماذا يعنى أن تكون عازما (essere deciso ) الا من خلال التجربة المباشرة . ولكي نبين ذلك ، علينا أن نلجأ الى العديد من التداعيات الذهنية ، والى الأمثلة وخلق ظروف اصطناعية . ومع ذلك ، فان كل واحد منا يعتقد أنه يعرف ماذا يقصده هذا التعبير » أن تكون عازما (essere deciso) ان كافة الصور ومجموع القواعد الملتوية التي تحاك حول الممثل ، وكل الصياغات والنصائح الفنية والجمالية المرهفة هي عبارة عن دوران اکروباتيكي من أجل الاشارة الى التجربة . ولو كنا نبحث عن توضيح تجربة الممثل فعلينا أن نخلق ، بشكل مصطنع وباستراتيجية معقدة .
نخلق الظروف التي يمكن فيها إعادة هذه التجربة .
ولنتصور مرة أخرى أننا ندخل في صميم العمل الذي يجرى في طوكيو ما بين كوتزوما ومعلمتها توكوهو أتزوما - وعندما تعتقد المعلمة أنها قد استطاعت إيصال تجربتها للتلميذة تمنحها اسمها أيضا - اذن ، فان اتزوما تقول لأنزوما المستقبل : جدى ما (ma) ءك . وال ما (ma) تعنى بالنسبة للمعمارى الفضاء ، أما بالنسبة للموسيقى فهى تعنى الزمن ، ومرة أخرى نحن مع الفاصلة، والتوقف ، والاستراحة والايقاع .
وها هو ما يعنى ذلك بالنسبة للممثل : « فمن أجل أن تجد ما (ma) ك عليك أن تقتل الإيقاع ، أي أن تعثر على الــ( يو - ها - کیو yo-ha-kyu) الخاص بك»
ويرسم لنا تعبير يو - ها - كيو المراحل الثلاث التي تم بها تقسيم كل فعل للممثل، وتحدد المرحلة الأولى من خلال المتضادات للقوة التي تميل إلى النمو والأخرى التي تقوم بالمسك بها ( يو = الإمساك ) . وتتكون المرحلة الثانية من اللحظة التي يتم فيها تحرير هذه القوة ( الكسر ) (ha = تهشيم) لغاية بلوغ اللحظة الثالثة (Kyu = الخاطفة ) التي يبلغ الفعل فيها ذروته، وبعد أن يوظف كل القوى يتوقف وكأنه أمام مقاومة جديدة معينة ، أمام یو ( Jo = إمساك ) ، امتناع جدید جاهز للانطلاق مرة أخرى.
.
ومن أجل أن تقوم المعلمة أتزوما بتعليم هذا الـ « يو ـ ها - كيو» لتلميذتها تمسكها من حزامها، وتدعوها للذهاب وهي ممسكة بها، وتجد التلميذة صعوبة في الخطوات الأولى، وتقوم بطى ركبتها، وتضغط بقدمها على الأرض، وتميل بجسمها نحو الأمام قليلا، ومن ثم فجأة تتركها المعلمة، فتندفع نحو الأمام بشكل سريع لتتوقف عند الحد الذي رسم أمامها، والذي ينبغى أن تتوقف عنده وكأنها على حافة هاوية إنفلقت أمامها فجأة وتجد أقدامها على بعد سنتيمترات.
وعندما يحصل الممثل على ذلك ، كطبيعة ثانية ، (seconda natura) أی يكتسب الطريقة المصطنعة للحركة، يبدو وكأنه قد انقطع عن الزمن - الفضاء للحياة اليومية المعتادة، ويظهر حيا: أي: عازم (deciso)
إن فعل «يعزم» يقرر (decidere) ايتيمولوجيا يعنى القطع (tagliare Via ، وهكذا فان تعبير أن تكون عازما ( تكون ذا اصرار essere decino) يشير ، مرة أخرى، إلى أن الخلق يكمن في قطعك عن التطبيقات اليومية المعتادة.
ان المراحل الثلاث : يو - ها - كيو تخص الذرات والخلايا وكامل عضوية العرض في اليابان. فهى تطبق في كل فعل للممثل وفي كل إيماءة له ، وفي التنفس ، والموسيقى، وفي كل مشهد مسرحي، وفي کل دراما على انفراد، وفى التكوين لكل الدرامات التي تقدم على مدى العرض لليوم الكامل، وذلك ضرب من ضروب تشفير (codice) الحياة التي تجرى في كافة مستويات التنظيم للمسارح والموسيقى الكلاسيكية اليابانية وكل ما تقوم به المعلمة أتزوما مع تلميذتها أتزوما موجه نحو جعلها تكتشف مركز طاقتها ، والطريقة من أجل البحث عن ذلك مشفرة (codificato) بشكل دقيق جدا، وذلك هو نتاج لتجارب لأجيال وأجيال، ومع ذلك، فإن العثور على ذلك غير مؤكد، ويستحيل تحديد ذلك بدقة لأنه يختلف من شخص إلى آخر.
ونقول أتزوما كاتسوكو اليوم ( أى بعد تجربة طويلة - المترجم ) . إن مبدأ الحياة لحضورها المشهدى، لطاقتها كممثلة ، والذي يمكن أن يحدد كمركز للجاذبية، يوجد في وسط الخط الذي يمكن أن تنصوره انطلاقا من السرة وانتهاء بالعصعص، وفي كل مرة ترقص فيها أتزوما تبحث عن إيجاد توازنها حول هذا المركز، وبالرغم من تجربتها الطويلة وبالرغم من أنها هي نفسها معلمة اليوم، لا تستطيع العثور عليه باستمرار . فهي تتصور ( ولربما هي الصور التي حاولت من خلالها ان تقوم بإيصال تجربتها ) أن مركز طاقتها هو أشبه بكرة من الفولاذ تغطيها طبقات عديدة من القطن، وهى موجودة في نقطة من المثلث المتكون من أقصى طرفى الوركين لغاية الإمتداد نحو العصعص، و يهز مادی باسك، معلم مسرح بالى رأسه ، مشيرا الى تأكيده على ذلك . ويقول ، ان كل ما تفعله أتزوما هو هكذا فعلا ، عبارة عن كراس (Kreas) شی قوی مغطى بـ ، مانیس ، manis) بشيء لين.
ومن خلال تتبعنا لآثار عضوية (bios) جسد الممثل، وصلنا إلى أن تتلمح رؤية الجوهر (essenza) :
( أ ) في عملية تكبير مساحة القوى التي تدخل في عملية التوازن ووضعه في حيز الفعل.
( ب ) في المتضادات التي تسند ديناميكية الحركات .
( جـ ) في تطبيق اللا تماسك المتماسك . ( د ) في تجاوز حدود حركات التعود ) اوتوماتيزم ) من خلال تكافؤات خارجة عن - المعتاد.
المعتاد ان التكنيكات الخارجة عن -المعتاد - (tecnica extra quatidiano) للجسد تكمن في إجراءات بدنية تظهر مستندة على الواقع الذي نعرفه، ولكنها تجرى حسب منطق لا يمكن التعرف عليه بشكل مباشر ، وهي تقوم بعملها من خلال عملية حصر وتغيير تدفع إلى ابراز ما هو جوهري في الأفعال ، وتبعد جسد الممثل عن التكنيكات المعتادة في الحياة اليومية، وذلك من خلال خلق توترات - ( انشدادات ) وقدرات مختلفة تمر من خلالها الطاقة.
وقد توجهت تقاليد الممثل في الغرب، أي عمل الممثل، نحو شبكة من التظاهر لـ : لو السحرية ، التي لها علاقة بالسيكولوجيا، بمميزات الشخصية وما يروى الممثل : شخصه وشخصيته . وكذلك مبادی ما قبل - التعبير (pre-espressivo) لحياة الممثل ، والتي هی لیست عبارة عن شيء بارد، شيء يتعلق بفسيولوجية أو ميكانيكية ( آلية ) الجسم ، بل هي أيضا تستند على شبكة من التظاهر(finzione) لـ « لو السحرية «se magici» التي لها علاقة بالقوة البدنية التي تحرك الجسم ، ولكنها تبحث ، في هذه الحالة ، ما يبحث عنه الممثل هنا : هو جسد مصطنع (corpo fittizio) وليس شخصا (persona fittizio) مصطنعا
ومن أجل كسر طوق حركات التعود (أوتوماتيزم ) للسلوك اليومي المعتاد ، فان أفعال ممثل القطب الشمالي (Polo Nord) كلها تزود بالدرامية ( يتم جعلها درامية (drammatizzata) ، ويتم إنجازها من خلال تصور شيء ما، ترفع شيء أو دفعه من خلال تصور شكل معين أو سعة معينة، وثقل معين، وكثافة معينة له، وذلك عبارة عن تكنيك سيكولوجي (Psicotecnica) حقیقی لیس هدفه هو التأثير على نفسية الممثل، بل يؤثر على ديناميكيته البدنية ) أي التغيرات التي تحصل في الانشدادات في داخل البدن وخارجه - المترجم )، وذلك، إذن، ينتمى إلى اللغة التي يتحدث بها الممثل مع نفسه، أو اللغة التي يتحدث بها المعلم مع تلميذه، ولا يطمح ذلك الى أن يعنى شيئا بالنسبة للمتفرج الذي يشاهد
ومن أجل العثور على التكنيك الخارج عن - المعتاد -tecnica extra) (quatidiana نلجسد، لا يقوم الممثل بدراسة الفسيولوجيا ( فسلجة الجسم ) ، بل يقوم بخلق شبكة من المحفزات القصوى التي تدفع به للقيام بردود أفعال من خلال الأفعال البدنية.
وقد كان الفيزيائي الدانماركي الكبير نيلس بوهر (Niels Bohr)، وهو من المولعين بأفلام الويسترن، يتساءل : لماذا نجد في كل المبارزات النهائية لاطلاق الرصاص، نجد البطل هو الأسرع في الاطلاق، حتى وإن كان الخصم قد وضع يده على مسدسه قبله؟ كذلك كان بوهر يتساءل، هل هناك وراء هذه القناعة شيء ما شبيه بالواقع؟ وانتهى الأمر به الى القول: أجل ، إن الخصم يبطىء لأنه يأخذ قرارا (decide) لكي يطلق الرصاص، ويموت بينما يبقى البطل حيا لأنه أسرع من الخصم، وهو أسرع لأنه لا يقوم بأخذ القرار بل هو عازم ( له إصرار - e deciso) وهذه النادرة اللطيفة كانت حصيلة بحث تطبیقی (empirico) قام به هو ومساعدوه، حيث قاموا بشراء مسدسات مطاطية ترمى الماء من أحد المخازن، وشرعوا بالمبارزة لساعات وساعات في داخل المختبر (٢٤).
إرسال تعليق