بلاغة الصورة في مسرحية مشعلو الحرائق
د. أميرة الوكيل
طالما كان العمل الفني العادي ـ رغم بساطته ـ يتميز ببريقه ورونقه الخاص ، وإن كنت أعنى بـ (العادي ) ، هذا العمل غير المكتمل الذي يكتنفه شيئاً من النقص ، منطقة فارغة ، خارجة عن نطاق التنظيم المركزي للعناصر الفنية ، وخاضعة لمسار الفوضى أو المحسوبة ، ومع كل حركة داخل هذه الفوضى ، يتخذ العمل شكلاً جمالياً جديداً في كل لحظة ، وذلك لأن ؛ تلك المساحة الفارغة ، غير الخاضعة لقوانين الزمان والمكان ولا أية قوانين أخري ، لا تلبث أن تمتلئ وتفرغ وتبنى وتتحطم في كل لحظة يتعامل معها الآخر وفق مفاهيمه الخاصة وخبراته الجمالية ، سواء من حيث المتلقي العادي أو الناقد المدقق أو الباحث في دراسة ما ، وتلك العملية الإبداعية الخلاقة هي ما تبرز جمالياتها اللحظية في كل مرة ، أما انغلاق تلك المساحة أو اختفاء تلك الحلقة المفقودة بحيث ننتهي إلى عمل مكتمل بذاته متقن الصنع ، هو ما يغلق دائرة الإبداع ويحجم من مرونته و تطوره . فكما تعتبر الرؤية الإخراجية للنص المسرحي بمثابة نص على نص ، فإن المتلقي ـ أيضاً ـ الذي لم يعد مجرد متفرج ، يحتاج هو أيضاً أن يقيم نصه الخاص ، الذرى قد يشتبك أو يتقاطع مع العرض ، وهو ما لا يتوفر ، إذا ما امتلك العرض يقين الاكتمال الذاتي ، وتاه بكل هذه الفحولة المسرحية . هذا ما أحسست به ، وفكرت فيه ، وأنا أشاهد العرض المسرحي ( مشعلو الحرائق ) ، المتقن الصنع ، حتى شعرت به مركزاً يسعى إلى تهميشا بوصفي متلقية.
فتلك المساحة الجمالية المكتملة ، شديدة الضيق والانغلاق في عرض (مشعلو الحرائق) لمؤلفه "ماكس فريش" ومخرجه الشاب " سامح بسيونى" ، كما أنها لم تعط تنفساً كافياً للرؤية الإبداعية والنقدية لاتمام عمليتها الفنية الطبيعية في إعادة وتشكيل المسرحية من خلال هذا المكعب الناقص أو المنطقة الفارغة، وذلك لأنها كانت منغلقة على ذاتها، لتصل بنا إلى درجة من درجات الاكتمال الفني والمشهدي بل والدرامي أيضاً، تلك الفحولة المطلقة، من حيث براعة الأداء التمثيلي ودقة تفاصيل الإكسسوارات والملابس وتشكيلات الإضاءة المحملة بأكثر من معنى والتي أحدثت اتصالاً دلالياً دقيقاً مع تعبيرات الحركة وتنويعاتها . ولا نندهش إذا عرفنا أن براعة الصورة واكتمالها يعد في حد ذاته، نقيصة هذا العرض المكتنز بالعلامات، بل وخطأه التراجيدي الصغير.لا لشيء ، سوى لأنها صورة بارعة الاكتمال والثبات.
فمنذ اللحظة الأولى يحتشد المشهد المسرحي بالعديد من الدلالات والعلامات الدرامية والفنية ، يقف الجمهور خارج قاعة يوسف إدريس بمسرح السلام ، وأمام ( بانوه ) على هيئة منزل فخم لعائلة ذات مكانة اجتماعية هامة ، وما أن تدق لحظة دخول الممثلين ، والتي كانت هى خط الاشتعال الذي رسمه المخرج ـ لنا ـ منذ البداية، فيقدم في البداية (بيدرمن / رامى الطنباوى ) هذا الرجل الارستقراطي جالساً على كرسيه الهزاز يستمع في هدوء إلى موسيقي راقية ، ثم تدريجياً ، يتغير هذا الجو الهادئ إلى عاصفة كبري تتجسد مع قدوم جوزيف شميتش (أحمد أبو عمرة) ومن هنا يمكن تفنيد العلامات السيميوطيقة التي تشبعت بها المسرحية ، سواء على مستوى المؤثرات الصوتية ، أو البصرية ، أو حتى الحركية فضلا عن التشكيل الجسدي ، ليتضح زخم الصورة واكتنازها بكم كبير من الدلالات.
وكانت أولى التأثيرات البصرية التي يمكن استشفافها ، هي اللعب بمناطق الإضاءة وتوزيعاتها الجيدة التي جاءت خادمة للمشهد فنياً ودرامياً ، إذ ساعدت الإضاءة في إضفاء حالة من الاشتعال والثوران من خلال سيطرة إضاءة صفراء على معظم المشاهد يتخللها ، الأحمر والبرتقالي على مساحة الفضاء التمثيلي، إذ يدخل جوزيف شيمتس منزل بيرديمن ليمثل بركاناً نائماً ينفجر وسط جبل الثلج الارستقراطي .. وإن كان جوزيف يرسم على وجهه ابتسامة باردة ، ساذجة ، تلائم هذا الجمود الارستقراطي لدى( بيدرمن) ومع أول اشتباك حواري بينهما ( بيدرمن وجوزيف ) كان المخرج على وعى بدلالة الإضاءة في توضيح الفوارق الطبقية ، فتنزل إضاءة زرقاء باردة تسلط على (بيدرمن) في البداية ، وفي المقابل يقف جوزيف أسفل بؤرة حمراء مدللاً على ثورته الهادئة ضد هذه الطبقات الارستقراطية، وحتى يشتد المشهد تدريجياً بالإضاءة ليصل لمرحلة الذروة في أول مواجهة لـ (بيدرمن) مع جوزيف ـ الذي يصف نفسه ملاكماً ـ تسلط عليهما إضاءة حمراء معاً وهى نفس الدلالة الطبقية التي تحددت بالإضاءة عند لقاء زوجة بيدرمن ( فافييتا ) مع جوزيف.
بل أن الإضاءة تظهر شديدة التلازم والتوافق مع الحالة النفسية للشخصية واضطرابها و حتى في نقلات الأداء التمثيلي وتنوعه ، عندما تخبر الخادمة ( آنا ) سيدها ( بيدرمن) بأن ثمة شخص اسمه (كريشتينج) يطلب مقابلته فنجده يصرخ فيها بعصبية، والعجيب أننا لن نرى هذا الضيف أمامنا ، بل كان يمكن حذف المشهد تماماً ، لكن وجوده عمق أبعاد الشخصية ( بيدرمن) من خلال الغضب غير المبرر بل ساعد في إظهار القدرات التمثيلية لرامي الطنباوى الذي يقوم بأداء شخصية( بيدرمن) وفي تلك اللحظة تتغير الإضاءة إلى الأحمر وتسمع موسيقي مفاجئة ومتوترة ثم ينخفض الانفعال فجأة عندما يصل ذروته، فبنبرة هادئة ومرتبكة يغير (بيدرمن) ما قاله للخادمة ويطلب منها ألا تدخل الشخص الغريب مبرراً ذلك بأن لديه ضيف وهو ينظر إلى جوزيف. وبذلك يتضح المشهد المحتشد بالدلالات والرموز الفنية والدرامية، وتكامل الصورة، من حيث الإضاءة والموسيقي والأداء التمثيلي والحركة وغيرها .. التي تبرز المشهد درامياً ، كما أن ثورة وغضب جوزيف المختفية خلف قناعه البارد المصطنع، بدأ شيئاً فشيئاً يستفز (بيدرمن) هذا الجبل الثلجي حتى يجعله ينهار نفسياً ويتحطم تماماً في الوقت الذي يقترب (جوزيف وايزنرينج ) من تحقيق هدفهما في إشعال الحريق ويتنفس بركانهم النائم ويفور غضباً ، في حين يستسلم (بيدرمن) في النهاية لاهثاً وهو يتنفس بصعوبة عندما يشاهد الاشتعال ، ليدخل حالة من الثبات والشلل الحركي مع سماع دقات الساعة السريعة كدلالة تقليدية على ضربات القلب وزيادة توترهم.
هذه الصورة ( المكتنزة بالعلامات ) رغم جمالها وقوتها، إلا أنها مرهقة للذهن البشري، بسبب مفرداتها المركبة واكتمالها الدلالي، وإن جاز اعتبار هذا الإرهاق ضرورة درامية وفنية كإشارة على حالة الاختناق والضيق التي وصل لها (بيدرمن) . لقد اكتملت الصورة من خلال مجموعة من الإشارات البلاغية والتوشيات المؤكدة لما هو مؤكد أصلا ، فالإضاءة والموسيقى جاءتا بمثابة تأكيدات بلاغية لمشهد الغضب الذي كان مؤكدا بالأداء المتميز للممثل ، وبما لا يدع مجالاً للشك في وصول الدلالات إلى المتلق ، ومن ثم بدت الإضاءة والموسيقى بمثابة زخرفة بلاغية من مكملات الصورة .
ومع ذلك يمكن استخلاص مناطق جمالية وفنية ساعدت العرض في الحد من كثافة هذا الاكتمال البلاغي ، وكسّرت فتاتاً من هذا الحائط المكتمل نستطيع التنفس من خلاله.
وجاءت أولى هذه الفتات في فواصل الصوت المسجل ( ( play backوالتي وإن كانت عادة مألوفة كحيلة تقليدية ، إلا أنها أفادت العرض في تشكيل حالة بريخيتة تذكرنا بالراوي (غير المجسد). فبعد أن يشعل ( بيدرمن ) كبريتاً وأطفأه مرة أخري يقوم المخرج من خلال playback ، بالتعليق على المشهد والتعريف بأولى شخصياته ( بيدرمن ).
وتلك الصيغة السردية والوصفية أسهمت في دعم العمل الإبداعي في أكثر من زاوية .. فهي أولاً: ساعدت في كسر الإيهام من جهة ، وحطمت الطابع الكلاسيكي للمسرحية من جهة أخرى. ثانياً : أفادت في تقطيع المشاهد، ووصف الحالة الشعورية والنفسية للشخصية وللحدث لتعبر عن مناطق التفكير الداخلي اللاواعي، بل أن الصوت المسجل كانت حيلة ذكية من المخرج للاستغناء عن المشاهد السردية التفصيلية غير الضرورية ، كمشهد العشاء بين( بيدرمن) وزوجته وجوزيف و ايزنرينج.
كما شكلت ـ أيضاً ـ مناطق الإظلام عاملاً مؤثراً في الحد من الهيمنة الكلاسيكة للعرض ، إذ مثلت فواصل درامية بين المشاهد بقدر ما تحمله من دلالات وإشارات ، كما هي أيضاً علامة على نقلات زمانية، فبعد أن قدم جوزيف نفسه لـ (بيدرمن ) ينزل black ثم إضاءة على (بيدرمن) جالساً على كرسيه الهزاز مستمعاً لجوزيف الذي يجلس على الأرض، مستكملاً حديثه في هدوء مستفز يعكس صداقة مصطنعة يرفضها (بيدرمن) . كما ساعدت مناطق الظلام في تقسيم الفضاء المسرحي درامياً فعند دخول الزوجة فافييتا والخادمة آنا ، يختبأ الزوج (بيدرمن) وجوزيف خلف السلم وتنقسم بؤرة الإضاءة إلى جزأين إحداهما على الزوجة في صالة الاستقبال والأخرى مسلطة على الزوج واقفاً على السلم . وفي مشهد النهاية كانت لمناطق الظلام دلالة هامة عندما أظهرت تدهور واضطراب الحالة الشعورية والنفسية لـ (بيدرمن) حيث جسدت التصورات الذهنية الداخلية في عقل (بيدرمن) من خلال إبراز تشتت عقله وعدم تركيزه، إذ نجد في مشهد يكتنفه الظلام ولا تنزل بؤر الإضاءة فيه إلا على أماكن معينة منطبعة في ذهن (بيدرمن) داخليًا، فتجسد حديثه مع زوجته والخادمة وجوزيف وايزنرينج والضابط ـ الذي جاء سائلاً عن أحد الغرباء من مشعلو الحرائق ملاحظاً حينها وجود براميل البنزين ـ وذلك في أكثر من مكان مغاير وبأصوات مسجلة مسبقاً، وإن كانت تقنية مألوفة في المسرح وليست بجديدة.
في حين كانت التشكيلات الحركية في أداء الممثلين فيها قدر من الابتكار والتجديد، وهو في الحقيقة ما ساعد على تحطيم الطابع الكلاسيكي للعرض المتناسب مع ارستقراطية الطبقة موضوع المسرحية، وجاء هذا الخروج الحركي من قبل جوزيف والخادمة -في البداية- التي ترمز إلى الطبقة المهمشة ، فكانت التعبيرات الحركية المتمردة سبباً في كسر وذوبان هذا الجمود الثلجي الارستقراطي، فالخادمة تلهث جرياً ما أن يثور فيها (بيدرمن) وجوزيف يزحف أرضاً، في حين يقف (بيدرمن) مستنداً بقدمه على المنضدة ، فكانت كل كلمة وكل حركة محسوبة بدقة شديدة لدي المخرج لتعكس دلالة محددة، فمثلاً جوزيف يتحدث عن مشعلو الحرائق وهو يصعد السلم بهدوء درجة درجة ،حيث يرمز السلم لمصعد العدالة، أو المحكمة الإلهية التي تهدف لتحقيق العدالة وإذابة الفوارق الطبقية. وبذلك أتاحت التشكيلات الحركية المتمردة في تنويع الأداء التمثيلي ونقلاته وتظهر براعة هذا في مشهد خط الإشعال الذي يرسمه الممثل الموهوب وليد فواز( ايزنرينج) بشكل زجزاج فجاء بطبيعية شديدة وتناغم ما بين برود (ايزنرينج) وتوتر واضطراب بيدرمن .
ويبدو أن هذا التناقض والتوافق غير المألوف بين بعض العناصر الفنية كجنون الحركة وتمردها واللعب بمناطق الظلام والإضاءة ضد جمود الصورة الكلاسيكية من إكسسوارات وملابس هو ما أطلق فتحات بسيطة من أجل التنفس واللعب الخلاق والإبداعي . غير أن مجمل العرض يعكس وعى المخرج وقدراته على تشكيل صورة بصرية مكتملة بأساليب بلاغية عديدة لتوصيل دلالاتها على نحو متقن.
مقال من العيار الثقيل، ويكشف وعيا بتقنيات العرض المسرحي
ردحذفإرسال تعليق