دجو كوستولاني... شاعر الأحزان والآلام
بقلم: د. عبدالله عبدالعاطي النجار
دجو كوستولاني "Kosztolányi Dezső": شاعر وقاص وروائي وكاتب مجري شهير. كتب العديد من الدواوين الشعرية. أكثرها شهرة هو شكاية طفل صغير الصادر قبل الحرب العالمية الأولى. في تلك الآونة كان الشاعر لا زال يعيش في بودابست، بعيدا عن مدينة الآباء التي صارت – ما بين ليلة وضحاها – المانحة إياه الحماية وكذا الملل الخانق في آن. بعد إتمامه المرحلة الثانوية انتقل للعيش في العاصمة ليكون بصحبة رفاق الجيل من الكتاب المستقبليين، وليكون بالقرب من الحداثة النابضة المثيرة، ويلتحق بالجامعة، وليذهب إلى المقاهي الثقافية وإدارة تحرير الصحف. نظريا، زاره هنا أبوه (أو أمه حسب روايته) واصطحبه إلى محطة القطار وقت الفجر، إلى أن وصل إلى محل إقامته وقد غلبه النعاس، وحينها تجلت بداخله كلماته الأولى لتلك المرحلة الحياتية الجديدة: "كمن سقط بين القضبان..." وسواء حدث هذا أو لم يحدث (كان كوستولاتي يميل إلى صناعة الأساطير حول شخصه) فربما من هذا السطر خرج ديوان شعري بديع غير متلاش من الأدب المجري إلى يومنا هذا.
بدأت تنضج شخصيته عندما بلغ سن الخامسة عشرة، وحينها بدأ الاطلاع على الأعمال الأدبية كالحكايات والمغامرات والتي كان يبتعد عنها في طفولته بسبب توتره الشديد وخوفه من الحكايات الخرافية، إلى أن حانت تلك اللحظة التي غيرت مجرى حياته وبدأ يذوق الأدب ويغوص في فيضه. في عام 1900 اشترك مع صديقه في تحرير جريدة "إلى الأمام" والتي كانت تكتب بخط اليد ثم طبعت بعد ذلك. بدأ منذ ذلك الوقت في نظم الشعر ولم يكن حينها يتمتع بالخبرة الكافية لثقل موهبته الشعرية، علاوة على أنه لم يجد الدعم الكافي من أحد، بيد أنه بدأ في العام ذاته في كتابه مذكراته اليومية في الثاني والعشرين من أكتوبر ولمدة ستة أشهر.
وفي العام التالي اجتهد كثيرا لينهل من بحر المعرفة عبر التوسع في قراءاته، وفي تلك الفترة نشرت له قصيدة في صحيفة "بودابست" ليتعرف عليه القراء عن قرب. ونتيجة لذلك، احتفت به مدرسته، وكان هو المسؤول عن كتابة المسرحية الشعرية التي سيؤدونها في الحفل الختامي للعام الدراسي، والتي حظيت بإعجاب الحاضرين.
بعدها رغب في الالتحاق بكلية الآداب بجامعة بودابست، وقد كان له ما أراد، حيث بدأ الدراسة بها عام 1903 بالقسم المجري ـ الألماني. التقى أثناء الدراسة الشاعرين جولا يوهاس "Juhász Gyula" وميهاي بابيتش "Babits Mihály"، وكذلك الكاتب فريجاش كارينتي "Karinthy Frigyes" والذي كان يدرس حينها الفيزياء وصارت بينهما من وقتها صداقه وطيدة. والتقي في تلك الأثناء بالمفكر المجري زالاي بيلا "Zalai Béla" وكان متأثرا بكتاباته إلى حد كبير.
في عام 1904 التحق بجامعة فيينا وكان يواظب هناك على حضور ندوات حول جورج هيجل، الفيلسوف الألماني الشهير، وفلسفاته. وبعد مرور عام واحد، عاد إلى وطنه ليعمل بالصحافة. ونشرت مقالاته الأولى في عدد من الصحف المتنوعة؛ إلي أن تم تعيينه في صحيفة "بودابست" بدلا من الشاعر أندرا آدي "Ady Endre" الذي انتقل ليعمل مراسلا للصحفية في باريس. وفي عام 1907 نشرت جريدة الأسبوع مقالاته وقصائده وترجماته الأدبية بشكل منتظم.
وفي هذا الوقت صدر ديوانه الشعري الأول والذي يحمل عنوان: بين أربعة جدران "Négy fal között" وقد نال إعجاب الشعراء والنقاد على حد سواء.
ومن ديوان "خبز وملح" اخترنا لكم القصيدتين التاليتين:
(1)
مثل
مِثل المريض الذي يرجع بذاكرته
مفكرًا في صحته، زارفًا الدمع على ما ولّى دون أن يدري،
أعتقد أنني سأرجع من حظي السيئ
إلى شبابي، رجلًا ذا روح واهية.
آه، هل كانت لي شجرة الزيزفون القديمة،
التي جرى عليها الليل الريفي –
وهل كنت أنا رفيق سفر الفتاة،
مَن كان يضع الغطاء البنفسجي على شعره الغجري؟
أواصل تلويني لشجرة الزيزفون القديمة،
ورفيقَ حياتي القديم جدًّا،
مثل المريض الذي في حماه الشديدة، المريرة
يُقلب صورًا حلوة
ويحلم أنه يسير أسفل التلال
أمامه كلبه ... حاملا عصًا بين ذراعيه.
===================
(2)
موكب الظلال الأبيض
موكب الظلال الأبيض.
أيها الموكب السري الصامت،
لماذا تجلبك أمامي الآن كلُّ ساعة؟
يا إلهي، ما هذا؟ كيف أمكن لي
أنني نسيتهم جميعاً،
رفاقي، الناس.
يمرون بسرعة في جيش عملاق،
أشباح ضبابية، شعب حزين، هزيل،
معروفون وغير معروفين.
يتقاطعون مع طريقي واحدً واحدًا،
أسمع العديد من الكلمات الصامتة، العجيبة،
وترن كما في الماضي ، منذ زمن بعيد.
رفاقي الصغار، أيها اللاعبون في التراب،
رافعين رؤوسكم الشاحبة
تزحفون خارجين من الحدائق الخريفية.
ذابلات، حزينات،
تظهر في الليل فتيات شاردات الذهن،
وتحدق أفواههن الكبيرة، الصامتة إليَّ.
أجلس منكفئًا، وأشاهد باكيًا،
كيف يتأملن دون انقطاع
وتطير معهن وترفرف بلون أبيض
حياتي، حياتي.
=================
إرسال تعليق