سوء تفاهم
قراءة في مجموعة الدكتور فهمي عبد السلام
قراءة في مجموعة قصصية "سوء تفاهم" لفهمي عبد السلام، بقلم: عاطف عبدالعزيز |
بقلم: عاطف عبدالعزيز
من حسن الحظ أنني كنت طرفًا ذات يوم في حوار حول (سوء تفاهم)، وهي المجموعة القصصية الثالثة للدكتور فهمي عبد السلام الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في العام 2021، والكاتب -كما تعلمون- هو المثقف والطبيب والأستاذ الجامعي المرموق، الذي سبق أن كتبت عن كتابه الرائع (مذكرات الغرفة 8)، ذلك الكتاب الذي كشف جانبًا من الهوامش المطموسة في حياة شاعرنا الراحل أمل دنقل.
مناط حسن الحظ هنا، كوني أمام كتابة ممتعة في صدقيتها وحيويتها وقدرتها على التقاط المشاهد التي تكمن تحت المشاهد، إذ تبدو وكأنها صادرة عن تجربة معمقة في الحياة، إلى الحد الذي يظن القارئ معه بأنه بإزاء سيرة ذاتية جسورة، لرجل انغمس في حياة قاهرة وسط البلد، ما مكنه من القبض على روحها وقلبها النابض.
أجل، استطاع فهمي عبد السلام أن يستعيد لنا بقوة الفن، قلب القاهرة الموّار، المثخن بالجراح، في حقبة معقدة من تاريخ هذه المدينة، تمتد من نهايات الستينيات، حتى السبعينيات وما بعدها.
قراءة في مجموعة قصصية "سوء تفاهم" لفهمي عبد السلام، بقلم: عاطف عبدالعزيز |
اللافت في هذه المجموعة القصصية، أن كاتبنا ذا الميول اليسارية الواضحة، يتخذ -من الناحية التقنية- في كتابته، موقفًا محافظًا بامتياز، إذ لم يكن ليشغله هذا الهوس التقني، الذي يتملك ومنذ فترة طويلة الأجيال الجديدة في الكتابة السردية، كأنه يعود بفن القصة إلا ينبوعه الأصلي وأعني الحكاية البسيطة والناجزة في آن واحد، إنه يذكرنا بكُتّاب أوائل القرن العشرين أصحاب الرسالات الذين يرون في الأدب أداة تنبيه وإصلاح، وإلا صار لغوًا لا طائل من ورائه.
ولا أعرف لماذا في هذا السياق تذكرت الكاتب الإنجليزي سومرست موم، الذي ذاع صيته في منتصف القرن الماضي، وكان قد عرف بقصصه المدهشة المنتزعة من الحياة، والمليئة بالإثارة رغم كونها ذات منزع أخلاقي، ووجه المشابهة هنا بين موم وكاتبنا، هو ما يجمعهما من ثراء التفاصيل المدهشة، واستقامة الخط السردي دون اللجوء إلى الحيل الشكلانية.
ولنا أن نرصد بعضًا من هذا المنزع الأخلاقي الذي أشرنا إليه، ففي قصة (لقاء تاريخي في الشيراتون) يقدم لنا الكاتب شخصية مدحت لطفي كنموذج للمثقف المدعي المتسلق، الذي سوف تقوده نزعته تلك إلى بعض النجاحات المحدودة في الحياة، التي سرعان ما سوف تزول، فيتجه بعد ذلك إلى جمع المال في بلد خليجي، بالطبع دون أي اعتبار للكرامة، ثم ينتهي به الأمر إلى فقدان كل شيء بعد أن خدعته زوجته وسطت على مدخراته، هنا يسوق لنا الكاتب في نهاية القصة ما يشبه الموعظة والحكمة، أو ما يوجب الاعتبار حين يقول:
فالثروة التي جمعها مدحت بالكدح والغربة والوحدة في بلاد النفط طارت كلها ومرة واحدة وفي اخريات العمر، حيث انتهزت زوجته وجود توكيل عام عمله لها، فحصلت على الطلاق ونقلت كل ما يملك من شقق واراض وأموال وجردته من كل شئ، ليعود مدحت كما ذهب، صفر اليدين وقد قارب الستين عاما، ولم يحتمل الصدمة، وأصيب بشلل نصفي إثر نزيف في المخ، وسمعت أنه يجلس الآن في نقابتنا يحكى حكايته ومأساته لكل من يراه، وجلسته ليل نهار في النقابة دليل حي على قانون الحياة الصارم والذي يقول أن لكل شئ نهاية.
وقبل أن نغادر هذه النقطة نلقي نظرة على نهاية قصة أخرى وهي (المفكر والخرتي) التي تدور حول عالم الشواذ جنسيًا في أوساط الثقافة، وذلك من خلال شخصيتين هما (أمير زيادة ) و(علاء رضوان)، إذ يعلق الكاتب من خلال حواره مع صديق على نهايتهما المأساوية على النحو التالي:
ولم يمر العام حتى ترامت لى الأخبار، أن علاء لقى مصرعه وقُتِلَ في ظروف غامضة. أما أمير زيادة، فكنت أراه في باب اللوق حيث يسكن، وفي السنوات الأخيرة رأيته وقد أسود وجهه، وفقد أسنانه و كثير من وزنه، وظهرت عليه علامات الهزال والشيخوخة والبؤس أكثر كثيراً مما يجب، ومر أمامنا وكنت أقف مع تيسير الحارثي فقلت:
- ماذا حدث لصاحبك.. هل أصيب بالإيدز؟
- لعله غضب رب العالمين من شذوذه، منذ يومين عرفنا أنه تلقى علقة موت في شقته، ورقد أسبوعا في الفراش، ورب العالمين أراد له النجاة، ألا تعلم أن شاذ اليوم هو قتيل الغد؟
وقبل أن ننتهي من التوصيف العام للمجموعة وطرائق السرد بها، لابد من الإشارة إلى روح السخرية التي تسري في أوصال النصوص، وهي بلا شك روح مصرية خالصة، وقد تمثلت تلك الروح في التعليقات التي نراها تصدر بشكل يكاد يكون عفويًا عن الذات الساردة، قاطعة مسار السرد فجأة مثل ومضة خاطفة تضيء لنا المشهد وتحقنه بخفة ظل مصرية، مثال ذلك، هذا التعبير الدارج الذي استخدمه الكاتب في قصة (سوء تفاهم)، ونحن نراه يصف المرأة الشعبية بطلة القصة قائلًا:
جلبابها الرث، ونعلها البلاستيكي الرخيص، ومنديل الرأس الأسود المتسخ الذي لفت به شعرها، كلها كانت تؤكد أنها ممن وقعوا من قعر القفة
مثال ذلك أيضًا ما جاء في مستهل قصة (لقاء تاريخي في شيراتون)، حين نقرأ:
استطيع أن أذكر لحضراتكم العديد من الأسباب التي جعلتني أشعر في تلك الليلة بالغيظ الشديد من زميلى في معهد السينما مدحت لطفي، ذلك الغيظ الذي جعلني ارتكب تلك الحماقات، التي أسأت بها إلى نفسي، صحيح أنني كنت أريد الانتقام منه، لكنني كنت كمن قطع أنفه ليغيظ زوجته!!.
وغني عن الإفصاح ما قصد إليه الكاتب خلف مفردة (الأنف).
ولعل قصة (من أجل صورة خلابة) التي تتحدث عن الفنان الذي أجهد نفسه كي يظهر في صورة الدنجوان الفارس أمام امرأة يشتهيها فإذا به يقع في شر أعماله، فهذه القصة تكاد تكون بكاملها موقفًا دراميًا كوميديًا بامتياز، إذ مهد له الكاتب باستهلال شديد الذكاء والطرافة بما سوف يعمق من خيبة المسعى لدى الدنجوان الخائب، فيقول لنا:
هذا هو اليوم الموعود، اليوم الذي ينتظره فخري حسن منذ خمسة شهور على أحر من الجمر، اليوم الذي كلفه كل هذا الصبر وذلك التربص والانتظار، لهذا استكمل فخري كل ادواته، واستعد بعِدِة الشغل كلها، النظارة الشمسية الأنيقة، المارلبورو الحمراء التي تتألق في يده مع مفاتيح السيارة ، الكوفية الصوف الفاخرة حول عنقه في إهمال منظم مدروس جدير بفنان مثله، الذقن الحليقة بعناية فائقة. الجاكت الشمواه الفاخر الذي يتناغم لونه مع لون الحذاء الهافان الكلاركس الإنجليزي، الجورب الصوفي الوثير الذي يتناسب مع لون القميص الرائع. كان عطر الهاليستون الفرنسي الفاخر يسبقه وهو يسير برشاقته المعهودة، لكن لأنه كان مشرق المزاج، تحولت الرشاقة إلى درجة الخطوة الراقصة.
**
الآن وجب علينا الانتقال إلى مناط الجدارة في هذه المجموعة، وهنا أعني تلك الثمرة الرئيسة التي وقعت في حجورنا بعد قراءة نصوص المجموعة، فبوسعنا القول بأن مجموعة (سوء تفاهم) بدت في إجمالها تحليلًا مدهشًا لواقعنا الثقافي المعاصر برثاثته وهشاشته، وقد تم إنجاز هذا التحليل عبر رصد نماذج وأنماط سادت حياتنا الثقافية خلال العقود الماضية.
يصور لنا فهمي عبد السلام، بل نقول يستحضر لنا شخصيات من الواقع، جسدت في مجملها حالة المثقف البرجوازي بضعفه وازدواجيته وعدم قدرته على التعاطي مع الواقع دون السقوط الأخلاقي، وهي حالة أفرزتها دون شك عصور طويلة من القمع والإذلال السياسي وقف فيه المثقفون في أحسن الأحوال على أبواب الحاكم الفرد.
يقدم الكاتب نموذج المثقف المتسلق اللص الذي لا يتورع عن سرقة أي شيء بما في ذلك الأفكار التي لا تخصه، كي يتشدق بها في حضرة صاحبها ببجاحة، مثلما نرى في حالة مدحت لطفي طالب معهد السينما في قصة (لقاء تاريخي في الشيراتون)، وفي ذات السياق يمكننا إضافة مدحت همام إلى هذه الخانة بعدما رأيناه يتنازل عن رأيه السيئ في المثقف المتطاوس عثمان المصيلحي خضوعًا لمبدأ المصلحة، وذلك في قصة (جاكس)، بينما في القصة ذاتها نرصد شخصية عثمان المثقف المدعي المعقد ابن حي العسيلي أو (التلول)، الذي رغم توجهاته الناصرية، سنراه يجتهد في الالتحاق بالطبقة التي ناصبت عبد الناصر العداء، وذلك عبر كفاحه من أجل اكتساب عضوية نادي ليلي خاص في الهيلتون، وكذا نموذج الكاتب الفاشل سالم محدود الموهبة الذي يحاول التحقق بقوة الإلحاح ما يجعله أقرب إلى مريض نفسي يعاني الشعور بالاضطهاد، ثم علي نصر المثقف اليميني الفارغ الذي لا هم له سوى صب جام حقده وجلافته على كل ما هو ناصري أو يساري وذلك في قصة (الندوة)، وثمة نموذج آخر للتفاهة والفراغ يمثله المخرج السينمائي فخري حسن الذي دأب على البحث عن مجد زائف في عالم النساء دون جدوى، كما رأينا في قصة (من أجل صورة خلابة) وغيرهم.
على أننا سنتوقف عند قصة خطيرة تقبض على لب الاعتلال في شخصية المثقف البرجوازي، ففي قصة (فروة الأرنب) يحكي لنا الكاتب عن طبيب شاب أعزب له عيادة متواضعة في حي شعبي، يستغل الطبيب مريضته الشابة الفقيرة التي تعاني الحرمان نتيجة هجران زوجها، ليستدرجها إلى بيته من أجل المتعة، تجتهد المرأة الصغيرة يوم اللقاء في الحصول على المظهر اللائق حسب تصورها، فترتدي جاكيت رخيص من فراء الأرانب رغم حرارة الجو، الأمر الذي سيتسبب في إفساد زينتها ومكياجها.
الحاصل أنه بعد انتهاء اللقاء الجسدي وخمود الرغبة، سوف تقوم المرأة بتنظيف وترتيب البيت عرفانًا بجميل الطبيب، لمجرد أنه لم يستنكف من الصعود معها إلى البيت في وضح النهار، بينما على الجانب المقابل كان الرجل يستحثها على الانتهاء من التنظيف والمغادرة بغية التخلص منها بعدما قضى وطره كما يقال، هنا يتكشف لنا -دون كثير كلام- ذلك الشرخ العميق في شخصية مثقف البرجوازية الصغيرة الخائن لطبقته، الذي يروقه التشدق بالكلام عن الخير والحق والعدالة وحقوق الإنسان، دون أن تكون له أدنى خبرة حقيقية أو مقدرة على ملامسة هذا الإنسان المزعوم وتشمم رائحته.
سوء تفاهم جراحة استكشافية عميقة ليس في واقعنا الثقافي فحسب، بل في واقعنا الاجتماعي والسياسي أيضًا.
قراءة في مجموعة قصصية "سوء تفاهم" لفهمي عبد السلام، بقلم: عاطف عبدالعزيز |
عاطف عبد العزيز
نوفمبر 2023
إرسال تعليق