الأرض، ما بين الرواية والفيلم
بقلم: شريف الوكيل
تعد رواية الأرض للمفكر المصري الكبير "عبد الرحمن الشرقاوي" عمل ضخم، وتحويله إلى فيلم سينمائي يتناسب من حيث الصعوبة تناسبا طرديا مع ضخامته كعمل أدبي... فالرواية إذا تجنبنا الحديث عن قيمتها الأدبية والموضوعية نجدها ذات قيمة أقرب ما تكون إلى التاريخية...إنها ذكريات تلمس وتهز مشاعر بعض جيل عاصر شبابه لا الظروف التي تعبر عنها الرواية فحسب، بل ظروف اصدار الرواية نفسها، ذكريات ذلك الجيل لأنها ذكريات شبابه وكفاحه، وأحلى وأقيم أيام حياته وأكثرها امتلاء بالحياة... ولكن كل ذلك يجبرنا أن يعود الحديث عن الرواية ذاتها، من حيث موضوعها وحوادثها وشخصياتها، والجو الذي تتحرك فيه هذه الشخصيات وطبيعة العلاقات بينهما.
تتكلم الرواية عن الريف المصري وحوادثها في الريف المصري وشخصياتها من الفلاحين المصريين... وربما يكون هذا سببا يحجم جماهيرية الفيلم ،حيث دور العرض في الجزء الشمالي الريفي من وادي النيل لا توجد في القرى، وانما في المدن فقط ، والمتفرج بالمدينة غالبا لا تشغله مشاكل القري ولا أصحابها، وبالتالي لن يتعاطف مع الشخصيات بالفيلم، وحتى لو حدث هذا التعاطف، فسيكون مجرد انفعالا سطحيا غير متكامل مع العمل وموضوعه.
ورواية الأرض تتكلم عن الأرض والإنسان، وعند تحويلها إلى فيلم سينمائي، فإن الألوان التي تصبغ هذا التفكير لاتخرج عن الأبيض والأسود، سواء لطبيعة الجو الذي تدور فيه الرواية أو لطبيعة الصراع الدائر بين جانبين متناقضين من حيث التفكير والمصالح... والصراع في رواية الأرض صراع فكري واضح ومترجم إلى مواقف إنسانية واقعية، وبالتالي كان أسلوب هذا الفيلم على نفس المستوى من حيث الوسيلة والغاية، ليتقدم يوسف شاهين وهو من المخرجين القلائل جداً الذين يجمعون بين الإحساس الفني وإجادة اللغة السينمائية، وتشاركه المونتيرة رشيدة عبد السلام وقد وفقت تماما وقدمت البناء الفكري المطلوب...كما استطاع كاتب السيناريو حسن فؤاد أن يقدم عملا إنسانيا بالغ الصدق في محليته، فقام بنسج البناء في صبر بالغ وبقدرة واضحة على الإحساس بإيقاع الصورة والكلمة، ومنذ بداية الفيلم يشعر المتفرج أن وراء هذا العمل فريق على أعلى مستوى ، يتقدمهم مخرج غير عادي .
فكان يوسف شاهين على مستوى المسؤولية وعلى مستوى الرواية في ذكاء بالغ، من خلال خدمة المضمون الجزئي للقطة أو المشهد مع الوعي التام والحرص الشديد على المضمون العام للرواية... ومن هنا لا نستطيع أن نغفل دوره فيه أيضا .
وكان عزت العلايلي وإجادته التامة والرائعة لدور "عبد الهادي" واضح جدا أنه دارس الشخصية بتركيز شديد، فكان على مستوى الحركة والكلمة وأيضا التعبير الصامت، يعيش الشخصية بكل دقائقها وأبعادها.
ومن كان يصدق أن نجوى إبراهيم وهي مذيعة تليفزيونية، تؤدي دور "وصيفة" البالغ الصعوبة ذي الشخصية المتطورة والمتعددة الجوانب، لم تترك للمتفرج لحظة يفكر فيها أن هذه الممثلة تقدم أول أعمالها على الشاشة...أيضا على الشريف وهو الممثل الجديد، كان جديدا في أدائه لشخصية الفلاح البسيط، ذي المطالب البسيطة وردود الفعل المباشرة، فكان يرتفع في كثير من المشاهد إلى مستوى البطولة ... فاطمة عمارة وحمدي احمد وعبد المحسن سليم وصلاح السعدني كل هؤلاء كانوا أبطالا في أدوارهم الصعبة .
أما يحيي شاهين واحساسه الواضح بالتناقض المستمر الذي يحدث للشخصية التي يقدمها، ذلك التناقض الواضح الخفي في آن واحد... وتوفيق الدقن مع عبد الوارث عسر وكل منهما يتمكن بجدية الفنان الأصيل من تقديم دوره بحيث يحيل الشخصية التقليدية التي يؤديها، إلى ملامح مميزة فيصبح من الصعب تصور ممثل آخر في نفس الشخصية .
ثم نأتي لشخصية العملاق محمود المليجي والتي لها شأن آخر، فما قدمه كان شيء معجز حقا...فشخصية "محمد أبو سويلم" ليست مجرد شخصية صعبة أو مركبة، بل كانت تجمع في داخلها بشكل أو بآخر كل عوامل وعناصر وانعكاسات الصراع والانفعالات الموجودة في شخصيات الرواية، بل هي في غناها تتسع لتشمل العمل كله، فقدمها بكل وقائعها وتفصيلاتها وأن يرتفع بالتدريج، من خلال النمو الدائم في البناء، محتفظا بكل السمات المحلية الخاصة بالشخصية، فيصبح في أقصى مراحل انسجامه الاجتماعي بطلا حقيقيا يفرض نفسه على عواطف وفكر المتفرج (مهما كانت ثقافة هذا المتفرج) فيهزهما معا... وهذا هو الاعجاز الذي قام به محمود المليجي .
إن فيلم الأرض يقضي على كثير من الخرافات الشائعة في الوسط السينمائي المصري...فقد اثبت الحقيقة التي تقول أن صدق محلية العمل الفني الجيد، ترتفع به إلى مستوى العالمية، على أن يكون محوره الإنسان ونسيجه الإنسان .
(شريف الوكيل) .
إرسال تعليق