المكنة طلعت قماش
نقد حلمنتيشي لسيد الوكيل
هل
تذكرون صديقي الشاعر الذي فوق الحياة قليلا، كان قد أصدر ديوانا واحدا، وضعته زوجته في دولاب زجاجي
بمدخل الشقة. ليرى، كلما دخل أو خرج. إلى أي مدى هي طيبة وبسيطة حتى لتقبل شاعرا في
بيتها.
صديقي الشاعر هذا غاب طويلا، ليس عنى فقط، بل عن
المشهد الشعري كله.
قديما، عندما كان يحدث هذا لشاعر، يقول
الناس:" فلان قلاه شيطان الشعر". أي أن الشيطان الذي كان يملى عليه
القصائد، قرر فجأة أن يتخلى عنه. بعض شعراء الجاهلية كان لديهم شياطين خونة وأنذال
يتخلون عنهم وقت الحاجة. تماما كما كان لديهم شياطين إناثا وأخرى ذكورا. ولابد أن
الشاعر الذي كان يفخر بأن شيطانه ذكر وشيطان الآخرين أنثى. لم يكن لديه ميول
مثلية. بل ربما يعتقد أن الأنثى أسهل في الإغواء وأسرع في الخيانة. طبعا. مجتمع ذكوري
حتى في الشيطنة.
عموما
كانت هذه هي طريقة التفكير الأسطوري في تفسير بعض الظواهر، لا الإنسانية فقط، بل
والطبيعية أيضا، ويبدو أن التفكير الدين لم يبعد كثيرا عن هذا. إذ
قرن الشعر بالجنون، فهو في الوقت الذي ينفى فيه الشعر عن النبي، ينفى أيضا عنه
الجنون. وكأنهما متلازمان.
الجنون في
جذره اللغوي مشتق من الجن، والجن والشيطان ـ أساسا ـ أولاد عم. لهذا يحذر النص القرآن من تصديق
الشعراء لأنهم كالمجانين في كل واد يهيمون. ولهذا يبدو لي أن قيس بن الملوح لم يكن
شخصا حقيقيا بقدر ما كان تجسيدا لنموذج الشاعر الذي أراده المسلمون. شخص مهوش
الشعر واللحية رث الملابس يهيم في شوارع المدينة مشهرًا بحبيبته بنت الأصول حتى ليجعل سيرتها على
كل لسان. بالطبع .. إن شخصا على هذه الهيئة لا يمكن تصديقه ولا احترامه، ولا بد أن
يحذرنا القرآن الكريم منه.
لكن
المتصوفة من الشعراء أمثال صديقي لا يهمهم، بل يمكنهم ترويض الشيطاين واستئناس
الجن.. لهذا أصبح قيس بن الملوح وليا في عرفهم، كما أصبحت ليلي رمزا للعشق الإلهي.
ولكن، بما أنى واحد من أفراد الجيل الأخير في
حقبة الحداثة المتخلفة. أو كما يسميه صديقي المرحوم سيد أمام، جيل الحكايات
الكبرى. لم أفكر في مشكلة صديقي الشاعر على طريقة الجاهليين أو المتدينين. فهذه
طرائق بسيطة وساذجة تفسر كل شيء تفسيرا ميتافيزيقيا. وترد كل أنماط النشاط الإنساني
إلى شيء غيبي.
نحن في
عصر العلم يا جماعة. وكل ظاهرة إنسانية لها تفسير علمي . يمكن لفيلسوف أو عالم نفس أو أستاذ في علم
الجمال أن يفسر الشعر بطريقة علمية معقدة. هناك نظريات ومقولات كبرى وعظيمة أنتجها
العقل العلمي تقول لنا ما الشعر؟ ومن أين يأتى؟ وأين يذهب.. بالتأكيد؟
لهذا ظننت أنه يمكنني أن أجد تفسيرا معقولا
لتوقف صديقي عن قرقضة الشعر. مثلا: أن أقول أن موهبته لم تكن أصيلة. لكن الموهبة
أيضا شيء غيبي. الموهبة من الهبة. وكأن ثمة كائن غيبي وخارق يمنحنا شيئا ثمينا
ونادرا على سبيل الجدعنة. وبهذا المعنى كان شعراء الجاهلية يهيمون في الصحراء بحثا
عن شيطان يلهمهم بقصيدة.
يا عم
سيد.. يجب أن تفكر بطريقة أكثر عقلانية وواقعية وإنسانية. مثلا: فكر في أن مشاغل
الحياة وانهماك شاعر شاب وفقير وراء لقمة العيش جفف منابع الشعر فيه. أو ألهاه عن
الشعر رغم أنه لم يلهه عن التكاثر.
لكن
التجارب القريبة علمتنا أن الشعراء الفقراء هم الأكثر ثراء وغزارة في شعرهم، وكأن
لديهم إرادة إنسانية خارقة انتزعوا بها الشعر من الواقع عوضا عن المال. فالمجتمع
يمكن أن يمنعهم من أن يكونوا أثرياء، ولكنه لا يستطيع أن يمنعهم من أن يكونوا
شعراء. بل ربما، وراء كل شاعر عظيم فقر عظيم أو ألم عظيم. شيء مثل هذا قاله صديقي
الشاعرـ نفسه ـ يوما، مستشهدا بشاعر الكعكة الحجرية.
الحقيقة
هو لم يقل هذا تماما، قال ـ بالضبط ـ أن الأثرياء يكتبون الشعر بفلوسهم وكأنهم
يستمنون. وأنا لم أوافقه تماما. ولم أعارضه أيضا. لأن التاريخ يذكر لنا أن شعراء
كبارا باعوا شعرهم والقوه على عتبات القصور من أجل المال أيضا.
-
خلاص يا سيدي، يعني هي جات عليك، كله بيلهث وراء
الفلوس...
لا..لالا..
الحكاية لا علاقة لها بالفقر والغنى. هذا كلام يعكس رومانسية شاعر من جيل الحكايات
الكبرى. هذا هو الخطأ الرومانسي كما أراد أن يحدثنا عنه ياسر شعبان فى روايته
الملعونة ( أبناء الخطأ الرومانسي ). لهذا هو اختار شخصيته الروائية لشاعر من
اليسار، التقطه من مقعد أخير في مقر حزب التجمع.
لم يعد أمامي
غير التفكير بطريقة النقاد التي تعلمتها مؤخرا ومكنتني من كتابة بعض الدراسات
النقدية. طريقة النقاد أيضا بسيطة ولكنها مقنعة. ويصدقها الناس بسهولة. الحكاية
ببساطة أننا في زمن الرواية. وطبيعي جدا، أن على الأنواع الأخرى مثل: القصة
القصيرة والشعر أن يتراجعا مفسحين المجال للرواية. الكبير كبير وكله يوسع للكبير..
وممكن جدا أن يكون صديقي الشاعر فهم هذا وصدقه فأخذها من فصيرها وتوقف عن الشعر.
-
دي وصفة
سهلة، دي وصفه هايلة. مع السلامة..مع السلامة,...
في بداية القرن العشرين عشنا زمن الشعر، وفى
منتصفه زمن القصة القصيرة، وفى نهايته نعيش زمن
الرواية. طيب وبعدين!!!!!
فجأة نط في
ذهني سؤال: ترى ما هو الزمن القادم. بعدما نستنفد رصيدنا من أزمنة الأدب؟ حكاية
زمن الرواية هذه وصفة ساذجة وهبلة.وبدأت في التراجع فعلا...
الآن
..ليس عندي سوى تصور واحد وأخير، أن البشر سيهتمون بفنون جديدة يعيشون أزمنتها.
هكذا بدأت أفكر: ترى ما هي الفنون التي سنعيشها في الزمن القادم؟.
- وايش عرفك انك هتعيش لما تشوف الزمن القادم.
_يا سيدي ، ادينا بنحلم... ما عمك نجيب عملها....
وبما أننا دخلنا عصر الصورة، فمن البديهي أن
أفكر، أن الزمن القادم سيحمل لنا فنونا بصرية، يكون للجسد الإنساني حضورا قويا
فيه. مثلا الرقص عروض الأزياء. كرة القدم. وطبعا، تطور كبير في أفلام البورنو.
شباب فتوات وعضلات ومزز تتاكل أكل.
كنت قد
بدأت التفكير على هذا النحو، ولكنى لم أكن أنوى أن أصل إلى حل نهائي لمشكلة صديقي
الشاعر. فقط الأفكار تقودني، من فكرة إلى أخرى. من تفكير غيبي إلى حسي إلى ذهني.
لجة من الأفكار غرقت فيها بلا قرار. حتى نسيت صديقي الشاعر وأزمته وقلت لنفسي:
لابد أنه سيجد حلا ذاتيا.
وتذكرت
أنه فئ بداية التسعينيات كان قد تعرض لأزمة مشابهة ـ ذكرتها فئ روايتي (فوق الحياة
قليلا) ولكنه بعد ذلك عاد وكتب الشعر.
ما توقعته
قد حدث. فذات مساء كنت أمر من أمام مقهى التكعيبة، هذا المقهى الذي يجلس الأدباء
فيه على صف واحد بجوار سور قصر قديم مهجور. يضعون خراطيم الشيشة فئ أفواههم. كنت
أفكر أنهم يشبهون السيارات المركونة والمعطلة التي يكتظ بها هذا الشارع المحتشد بورش
السمكرة، والكاوتش، والميكانيكيا وكشري أبو طارق.
بين الأدباء موديلات قديمة ستفقد صلاحيتها حتما ما لم تدخل عمرة سريعا. ولن يمضى وقت طويل حتى تتحول إلى خردة تباع بالكيلو. لدينا في المستقبل أدباء ومبدعين سوف يباعون على عربة كارو وينادى عليهم: بيكيا. وبالتأكيد سوف يكون هناك نقاد ميكانيكيون يجمعون هذه الروبابكيا ويعيدون تشغيلها لبعض الوقت. غير أن كل هذا لن يصمد طويلا أمام عوامل التعرية والصدأ التي تضرب الباروما في مفاصل الأنماط القديمة للثقافة والأدب.
وفيما كنت أفكر في مستقبل الأدب والكتابة أصلا، وما إذا كانا سيصمدان أمام هذا الغول الجديد الذي نسميه الإنسان الآلي ؟ إلى متى؟ وكيف ستكون صورة الأدب وتحولاته؟ فجأة .. سمعت صوتا هاتفا من المقهى فإذا به شاعرنا. صافحني بتلقائية وعادية وكأنه لم يكن ثمة وقت مستقطع بيننا. مد يده في حقيبته المعلقة على كتفه وأخرج ديوانه الجديد. أعطاه لى بتلقائية وعادية وكأنه لم يكن ثمة وقت مستقطع بينه وبين الشعر.
قلت
مندهشا : ما أنت بتكتب شعر أهه!
ـ الحمد
لله .. المكنة طلعت قماش .
ساعتها
فكرت فى الممثل الكوميدي فؤاد المهندس الذي جسد شخصية مهندس يسعى لاختراع ماكينة
تضع فيها القطن من ناحية، وتخرجه قماشا من الناحية الأخرى. وأنه بعد محاولات عديدة
من الفشل نجح أخيرا.والمكنة طلعت قماش.
كان من
الممكن أن أعتبر هذه الحكاية إجابة مناسبة لكل الأسئلة التي دارت في ذهني عن أزمة صديقي
الشاعر. هكذا الإبداع كائن مراوغ وضليل، يغيب ويبعد ولكنه يعود لأن لا مأوى له غير
ذوات المبدعين القلقة. هذه الذوات المبدعة هي كل ما يبقى حقيقة لأنها شغوفة بجوهر
الإبداع. أما طرائقه وأشكاله وصوره، فربما تغيب أو تعود أن تتحول. هكذا قال لي
صديقى الشاعر:
ـ يعنى
الشعر هيروح فين مننا. احنا مقطوعين له. لا شغلة ولا مشغلة لنا غيره. سيشرد قليلا
كما شرد من عمنا جاهين في الجبل ، وهناك، إما أن يموت من العطش، أو يرجع والجزمة فوق
رقبته.
هكذا
فكرت أن الإبداع طاقة إنسانية، والطاقة لا تفنى ولكنها تتحول وتتخذ صورا مختلفة، ربما
يحدث هذا التحول ببطء شديد وعلى فترات بعيدة بحيث يصعب أن نراه، ولكنه يحدث. ولهذا
فنحن نعيش الآن مرحلة إحلال وتجديد. بحيث يمكن أن تتعدد وتتجاور فيها أنماط
الثقافة والإبداع الفني كافة. وسوف تعمل البورصة الثقافية بكامل طاقتها من خلال
الإعلام والدعاية مستهدفة كل مستويات المستهلكين. سيترتب على ذلك انتعاش كبير في
سوق الثقافة. ستحظى القاهرة وحدها بعدد كبير من المكتبات التي تنظم الندوات وحفلات
التوقيع وتوزع البوسترات الملونة لكتاب وكاتبات مبتدئين ينافسون عمرو دياب وأليسا.
ستمتلئ أرفف المكتبات بكل ألوان الكتب، ستتجاور هناك كتب للضحك والتريقة وأخرى
للغم أوللنميمة وثالثة للتحريض على النظام وتحرير المرأة بارتداء الحجاب. ورابعة في
إسداء النصائح والوصفات لكيف تكون شاعرا أو مليونيرا أو متسولا أو قوادا يغمز بعينه
فتأتيه العطايا من آخر الدنيا.
لكن الأكثر
حظا يتسللون إلى شاشات التلفزيون ـ تلك البلورة السحرية التي تستبد بالعقول
والمشاعر والحواس فئ لحظة واحدة ـ يحجزون لأنفسهم مكانا في ثقافة الصورة. هذه هي
أكبر عملية ترميم ثقافي تتم فيما يشبه جراحة تجميل كبرى. سيزحف إلى البلورة
السحرية شعراء وأدباء قدامى، وعاظ ومفسري أحلام وطهاة ولاعبو كرة معتزلين وصحافيين
خفاف الدم يطلعون علينا بوجوه لامعة جذابة يبك منها الدم ويقدمون صورة براقة وشهية
للمثقف الجديد بغير اعتبار كبير للحرفية والمهارة الفنية والجدية والوعي. فما
حاجتهم إلى كل هذا مادام المستهلك الجديد حمار ومتفرقش معاه فلا يبالى ولا يفكر
سوى في تمضية الوقت بجرعات يومية تصل بهم حد الإدمان اللذيذ. وتجعلهم آخر سلطنة.
لأن هناك من يقوم بإنتاج الثقافة بدلا عنهم. ويقاوم بدلا عنهم، ويرفض بدلا عنهم
ويضحك بدلا عنهم ويطبخ بدلا عنهم ، ويضاجع
بدلا عنهم ويدخل الجنة بدلا عنهم. إنها أكبر عملية تطهير ـ على طريقة أرسطو ـ تتم
في التاريخ. عبر ماكينة كبرى تنتج كل أنواع الأقمشة. فلا تتعب نفسك يا صديقي، أنتخ
وغني : هيه سطلانا.. سطلانا
ترى ، مالذى كان يعنيه صديقى الشاعر بقوله : "المكنة طلعت قماش " ؟
أنا
أيضا.. كانت ماكينة التفكير عندي قد بدأت. ولن تتوقف حتى يطلع القماش. قماش بعضه
سميك وبعضه هش رقيق. أو مكلكع مليئ بالعقد والشراشيب. مهلهل ومليء بالفراغات.
ولكنى لا أخجل من أعرضه عليكم كما هو. بل وإمعانا فى الجرأة، وإن شئتم الوقاحة،
أقدمه لكم بوصفه وصايا في الفن والثقافة وتحولاتهما. منذ كان الفن إلهاما وحدسا
حتى صار صنعة ومهارة. لأن القاعدة الوحيدة الآن هي: كله ماشى.
إرسال تعليق