فن كتابة الأحلام
أحلام الفترة
الانتقالية
كما نرى، يذكرنا
عنوان هذا الكتاب، بأحلام فترة النقاهة. كما يحرص كاتبه (محمود عبد الوهاب) على أن
يصدّره بإهداء إلى نجيب محفوظ اعترافًا بريادته في سرد الأحلام. وبذلك يكون هو أول
من أصدر كتابًا مختصًا بسرد الأحلام بعد نجيب محفوظ. كما يعني هذا، أن الكاتب على
وعي بأن سرد الأحلام مجالاً مفتوحًا للكتابة الأدبية، وليس مجرد تجربة فريدة بدأت
وانتهت مع نجيب محفوظ. وهو وعي تحتاج ممارسته إلى درجة من الشجاعة، وعدم الخوف من
أن يُظن مقلدًا لنجيب محفوظ. مع اعتقادي الشخصي، أن السير في ركاب نجيب محفوظ، لا
يعيّر، بل هو فخر، كما أنه أمر شاق وشبه مستحيل. وعليه، فما يوجد من ظلال مشتركة
بين أحلام نجيب محفوظ ومحمود عبد الوهاب قد تكون، ليس فقط من قبيل تأثر التلميذ
بالأستاذ، بل لتلك الطبيعة المشتركة بين أحلام البشر. إنها طبيعة، تخضع لمعنى
الواقع الخِلقي للنفس الإنسانية، التي تأتي في مقابل واقع معاش مشترك أيضًا. لكن
مناطق الاختلاف، تكمن في اختلاف التجربة الشخصية أو الذاتية، التي اتفق على أنها
عنصر التميز في الأحلام. وعلى نحو ما يظهر من عنوان (أحلام الفترة الانتقالية)
الذي يتناص بوضوح مع (أحلام فترة النقاهة). نستطيع أن نقف على خصوصية التجربة
الذاتية عند محمود عبد الوهاب، التي ارتبطت بمصطلح سياسي، ظهر بعد أحداث ثورة ( 25
ينايرـ 2011).
حدث الثورة وحده، حدث
دراماتيكي بامتياز، ربما لأنها خلقت واقعًا، على قدر عنيف من الانقسامات والتشظيات
المؤلمة والمنهكة للذات الجمعية في مصر، لتكون جديرة بأن تسكن ليس وعينا ووجداننا
فحسب، بل أعماق لا وعينا. لهذا، فوقوف محمود عبد الوهاب عند تداعيات هذه الفترة،
أمر مستحق، على نفس القدر من الاستحقاق، الذي جعل نجيب محفوظ، يعود إلى أطياف
(ثورة 1919م) في أحلامه. أقول (أطياف) لتفسير درجة الانسيابية والنعومة التي صور
بها محفوظ ذكريات الثورة لا وقائعها. إذ كان محفوظ طفلاً في التاسعة، فسكنت ذكريات
الثورة وجدانه، وعبر عشرات السنين أعادت
تشكيل نفسها، وخفت وهجها، حتى أنه عندما عاد لكتابتها، كانت على هذا النحو من
النعومة والتهذيب. أما أحلام الفترة الانتقالية، التي كتبت في إثناء احتدام الوهج
الثوري، فقد جاءت على درجة من الواقعية الساخنة، هي تترصد الكثير من التفاصيل
والمشاهدات، وتدمج لغة الأحلام الرمزية والتخيلية، باللغة والمصطلحات التي أنتجها
الواقع سواء في طبيعتها الرسمية، أو في طبيعتها الساخرة التي ميزت الخطاب الثوري
وقتها. ربما لكل هذه السباب جاءت بعض أحلام الفترة الانتقالية، مرتبطة بآلية
الإسقاط المباشر على الواقع، وكأنها تستنطقه، لكن هذا يجعل لنصوص محمود عبد الوهاب
ميزه، تتمثل في وعيه، أن كتابة الأحلام تجربة إبداعية كاملة، وليست طريقة لتسجيل
أحلامنا التي نراها في النوم أو تداعبنا في اليقظة، وهذا المدخل الأهم في قراءة
أحلام نجيب محفوظ أيضًا. إذ علينا أن ننظر لسرد الأحلام بوصفه تجربة أدبية، شأنها
شأن القصة القصيرة، تمتلك كل تقنيات وأدوات السرد القصصي، ولها القدرة على الإفادة
من آليات إنتاج الأحلام ولغتها وخيالها. لكن سرد الأحلام يختلف عن السرد القصصي في
توجهه إلى رصد الانفعالات اللاشعورية بواقع التجربة الشخصية، أو بمعنى أدق
(الذاتية)، لا بالواقع الموضوعي الذي عبرت عنه نصوص ( ناتالي ساروت) في
انفعالاتها.
صحيح أن عنوانًا مثل:
(أحلام الفترة الانتقالية) يوحي بأن الحدث
الثوري هو موضوع الكتاب، لكن الكاتب لم يكتب عن الثورة على نحو تسجيلي كما فعلت
عشرات القصص والروايات التي تناولت هذا الحدث، بل كتب انفعالاته وتأملاته الذاتية
له. كما أن الكاتب لم يرهن كل أحلامه بالحدث الثوري، ولكنه تناول من خلاله أمورًا
أخرى تستند لحياته الشخصية مثل: الأصدقاء، وزملاء العمل، والأقرباء، والنساء
اللاتي عرفهن في حياته. وتفسير ذلك في رأي الشخصي، أن الذي يمتلك آلية الأحلام
ويكتب بها، سرعان ما يكتشف أنها تقوده إلى سراديب محفورة في اللاوعي، وتلح في
الظهور على سطح الوعي من خلال الكتابة. ليس فقط لأنك لا تستطيع أن تحدد بأي
شيء تحلم، ولكن لأن أحلامنا، هي عالمنا الذي لا نعرفه ولكنها تعرفنا وتعرف ما
بداخلنا وكيف تشكل مصائرنا؟ بحيث يمكن
القول إننا لا نكتب الأحلام بل هي تكتبنا بل وتفرض علينا أسلوب كتابتها لهذا فهي
تجربة مختلفة تمامًا عن كتابة القصة أو الرواية التي تحتاج تصميمًا مسبقًا لما
سنكتب.
اختار محمود عبد
الوهاب أن يصنف أحلامه، وأن يضع لكل حلم عنوانا وليس رقمًا كما فعل محفوظ، وكذلك
اختار مزجًا طريفًا بين تقنيات كل من الحلم والقصة معًا، فجاءت أحلامه التي تخص
الثورة، قريبة من الوعي، ذات طبيعة رمزية صريحة أحيانًا، أي أنها أقرب إلى أحلام
اليقظة منها إلى أحلام النوم التي تأتي من منطقة أعمق في اللاوعي، والتي اعتمد
عليها في الأحلام التي تناولت عالمه الشخصي. ومن الطريف أنه كان على وعي بذلك،
لهذا نجده في حلم (الفوضى) الذي ينتمي لأحلام الثورة يقول: " ها أنا أعلن
أنني قررت التوقف عن كتابة أحلامي من الآن وحتى ينصلح الحال، يأتي هذا بعد أن رأيت
المنطق يغيب من بعض أحلامي الأخيرة حتى أصبحت عصية على التفسير..ألخ".
فالفوضى، وهي مفردة ترددت كثيرًا أثناء الثورة،
لا تتجسد له في الميدان أو الشارع، ولكنها تنتقل إلى عمله وممارساته الشخصية
وأحلامه، بمعنى أنها تحولت من كونها واقع مرتبط شرطيًا بحدث معين، إلى شعور داخلي
مربك للذات، حتى أنه لم يعد قادرًا على التمييز بين الواقع والحلم، والأخطر من ذلك
أنه لم يعد قادرًا على تمييز هويته، فهو مرة ثائرًا ومناضلا في ميدان التحرير،
ومرة عميلا في السفارة الأمريكية، ومرة زوجا وأبا حانيا في البيت، ومرة عضوًا في
منظمة إرهابية.أي أنه عبر فوق المرحلة الانتقالية بكامل منعطفاتها، هكذا لم تعد
الفوضى موضوعًا خارجًا عنه بمسافة تمكنه من الكتابة عنه بتأمل واعٍ ومحايدٍ، بل
أصبحت سلوكًا قهريًا تحدده دوافع جوانية. إن هذا الوعي العميق لتداعيات الثورة أو
المرحلة الانتقالية، لا يمكن أن يصل إليه كاتب يتلقى أوامر الكتابة من خارجه، سواء
كان هذا الخارج ميدان التحرير، أو
الفضائيات التي تنقل الحدث لحظة بلحظة.
الفوضى ليست المفردة
الوحيدة التي تجسدت في أحلام محمود عبد الوهاب من بين مفردات الثورة، هناك: الدولة
العميقة، الطرف الثالث، البلطجة، النظام.. مفردات شكلت اللغة الرمزية لتلك الفترة،
وسقطت في اللاوعي وأنتجت معانيها الخاصة، وأصبحت صالحة لا لتفسير الحالة الثورية
فقط، بل الحالة النفسية لنا أيضًا.
أما الأحلام التي
تغادر موضوع الثورة، فقد تخلصت من الرمزية الصريحة، وبدت أكثر عمقًا وأوسع خيالاً،
بما يشير إلى أن نصوصها أكثر اشتغالاً على آليات الأحلام ووظيفتها النفسية، فحلم بعنوان
(ياسر) قد يجسد أزمة الكاتب نفسه لا أزمة الواقع الثوري، إذ يعكس إحساسًا عميقا
بالذنب، الذي يعانيه الفنان بسبب عزلته، وعجزه عن الاندماج في تفاصيل الحياة
اليومية، لدرجه أنه غير قادر على أن يعبر عن سعادته بأن صديقه أصبح جدًا، فدلالة
إنجاب الحفيد في الحلم تعكس إحساس الحالم بالعجز والكبر، الميلاد هو الوجه الآخر
للموت.
وفي حلم بعنوان (اتنين
كيلو) يرى امرأة طالما رغب في أن يتزوجها، وكانت تشترى (كيلو موز) عندئذ يتدخل
ويقول للبائع:( خليهم اتنين). وبهذه الطريقة يعلن عن رغبته في أن يشاركها في أمر
له دلالة الحياة بوصفه طعاماً، ودلالة الرغبة، باعتبار الموز رمز جنسيا.
وهكذا تعمل الأحلام بلغة رمزية مراوغة، لتمنح القاري
فرصة إنتاج المعنى بنفسه، ومن ثم يصبح القاري شريكًا في إنتاج الحلم، وهذا ما نجح
فيه محمود عبد الوهاب في كثير من الأحلام.
إن فن سرد الأحلام
يخلصنا من صورة السارد المستبد الذي يعرف وحده ماذا يكتب ولمن، كما يخلصنا من صورة
الكاتب النبي الذي يحمل رسالته للعالم، وتتحول فيه الذات الساردة، من وضعية الكاتب
الذي يتخذ من الآخر موضوعًا للكتابه، إلى وضعية الكاتب الذي يجعل ذاته، موضوعًا
للكتابة.
·محمود
عبد الوهاب- أحلام الفترة الانتقالية – دار آفاق - 2013
إرسال تعليق