زجاج مطحون
رواية: إسلام ابو شكير
سيد الوكيل
عندما يصل الواقع إلى أقصى حالات الجنون والغضب، وتسوده هيستريا
الدماء، تنشط اتجاهات: الاغتراب، والعبث، والتشظى، واللامعقول في الآداب والفنون
المحتلفة. وتغلب سمات الكابوسية، أو الكوميديا السوداء. حدث هذا في أعقاب الحربين
العالميين، عندما نشط عدد من الأدباء الشباب، معبرين عن غضبهم من تهرؤ الواقع
الأوربي في تيار جارف شديد القتامة، منهم: البيركامو وصمويل بيكت وأداموف
وأرابال وجين يونيسكو... وشكلوا ظاهرة تجاوزت حدودها الجغرافية إلى العالم كله، حتى وصلت
إلى أمريكا عند إدوارد إلبي.
وفي لبنان تركت الحرب الأهلية آثارها، على أكثر من جيل، فشملت غادة
السمان في (كوابيس بيروت)، إلى إلياس الديري، وحسن داود، لكنها كانت أشد تاثيرًا على أدب النساء، منهن: حنان الشيخ
وعلوية صبح وهدى بركات وإيمان حميدان يونس..
وإذا كانت الأحداث في سورية، تأخذ سمت الحرب الأهلية، فتتسم بكثير من
الفوضى واللامعقولية الكابوسية، فلا شك أنها ستضع آثارها على الأدب السوري بكثير
من القتامة. المثير في الأمر، أن مثل هذه الظواهر تكون أكثر إلحاحًا على الكتاب
الذين يعيشون في المنافي والغربة بعيدًا عن أوطانهم. إنهم بطبيعة الحال يشعرون
بالعزلة والاغتراب، لكن، مع عبثية الحرب، وشراستها، واستسلامهم المؤلم لعالم الصور
المنهمر من الفضائيات، يتحول واقعهم إلى كابوس. حيث لا أمل في مستقبل ما. فانتظار
(جودو) يصبح محض عبث. وليس أمامهم غير الاستسلام
لاغترابهم اللانهائي.
بهذا المعنى، يضع الكاتب السوري –إسلام أبو شكير- توقيعه الأدبي على الحرب السورية، وهو توقيع واضح،
لدرجة أنه يمنح كل أبطال الرواية اسمه (إسلام أبو شكير)، لتبدو، وكأنها شهادة
شخصية، أو بمعنى أدق شهادة روائية، فتميزها عن النمط التقليدي للبناء الروائي.
البناء الروائي لـ (زجاج مطحون) أشبه بالبناء المسرحي في بعده
الزمكاني. بمعنى أن الزمان والمكان، لا يتجليان بسماتهما الواقعية المتنوعة. فثم جسم
واحد في مكان واحد وزمان واحد. إنه فضاء مفتوح وممتزج ببعضه. فكل
أبطال الرواية هم أربع شخصيات، لهم اسم واحد، هو(إسلام أبو شكير). هم أيضًا سجناء مكان واحد: غرفة بلا نوافذ ولا
أبواب. مجرد جدران شاهقة وسقف. لا يعرفون لماذا هم هنا؟ ولا كيف جاءوا؟ ولا طبيعة
المكان، ولا ماهية القائمين عليه. هم فقط موجودون على نحو قدري غامض.
يصرخ أحدهم: " هذا
قبر". يضرب آخر أخماسًا في أسداس: " هل الحكاية مرتبطة بالآخرين
الذين يشاركونني المكان؟ وإن كنت استبعد ذلك وأنا أراهم جميعاً يعيشون أحاسيسي
نفسها... الحيرة. الدهشة. الخوف .. لا يختلفون عني كثيرًا في هذا..".
لكن المكان مجهز بكل متطلبات الحياة. وهي تتجدد من تلقاء نفسها، بما
يعني أن وجودهم فيه سيكون بلا نهاية.
ربما المكان. يتناص في مواصفاته، مع مكان (سارتر) في مسرحيته (لا
مخرج). لكن دلالته عند (أبو شكير) ليست وجودية، بل عدمية. فإذا كانت شخصيات سارتر
تدرك أن مهمتهم، هي أن يعذبوا أنفسهم، من خلال التذكارات واستدعاءات الماضي؛ فشخصيات
(زجاج مطحون) بلا ماض ولا ذكريات. الواقع، أن الزمن السردي هو الذي يمنح المكان
هذا البعد الدلالي العدمي.
الزمن، لا يتحرك إلى الأمام كنهر هيراقليطس. إنه فضاء مفتوح بلا بداية
ولا نهاية؛ فكل شيء يتكرر على نحو آلي أصم وأعمى. ما يحدث اليوم هو نفسه ماحدث
بالأمس، وما سوف يحدث غدًا. وهذا معناه، أن الأحداث لاتحدث. هي أيضًا موجودة في
المكان على نحو مطلق وغامض. ولكي يميز السجناء الأربعة أنفسهم. اتخذوا أعمارهم
معيارًا زمنيًا: فهذا العشريني، وهذا الثلاثيني، ثم الأربعيني والخمسيني. وكأنهم
جميعا إسلام أبو شكير في مراحل
عمرية مختلفة. أي أن كل الأزمنة حاضرة على نحو رمزي. هكذا يتأكد معنى
العدمية الزمنية منذ البداية إلى النهاية. والشاهد الوحيد على وجود الزمن، هو
العدم أيضًا. فالأعمار تتناقص، وتتجه إلى الموت فحسب. ويأتي موت الأصغر سنًا أولا،
ليعكس منطق الموت نفسه.
وفي هذا السياق، يأتي موت (العشريني)، مشهدًا دالًا ومخيفًا ومنذرا
بنا سوف تكون عليه النهاية. إذ كان على الآخرين أن يعيشوا موت العشريني، بكامل
تفاصيلة التي لم يعشها أحد. فوضعوا جثتة في الحمام، ومن ثم، عليهم أن يمروا بها في
اليوم عدة مرات، فيما هي تتحلل وتتفسخ وتنز خليطها السائل. هذه التجربة، تكشف لهم
بعدًا آخر للزمن. فلا شيء بعد الموت، لا فردوس ولا جحيم. لا روح ولا جسد. لا ماض،
ولا حاضر، ولا مستقبل.. عدم يفضي إلى عدم. فيما بعد، سيموت الثلاثيني ثم الأربعيني...ألخ.
مجرد موت محتمل ومتكرر.
ينجح أبو شكير ( الكاتب) في تشكيل علامات الزمن، واستنطاق دلالته بطرق
وتقنيات مختلفة، وعلى نحو ثري ومتعدد، ليصبح الزمن هو البطل الحقيقي للرواية. منه مثلا: تكيف
شخصياته مع واقعهم الجديد. كنتيجة لليأس من كل شيء وأي شيء. كانوا يقدمون
التنازلات عن شروط الحياة، الواحدة تلو الأخرى. إنهم، إزاء وضع كهذا، مستعدون
للبقاء ولو بدفقة أوكسجين أخيرة. هذه التنازلات تعني أيضًا، أنهم يهيئون أنفسهم
للموت بلا معنى ولا ثمن.
هذا المعنى العبثي للحياة المؤجلة، يبدو أكثر وضوحًا عندما تصلهم أول إشارة
من الخارج. إنها الحرب. ثم انفجارات، وطلقات رصاص تدوي، وكميات الطعام تقل يوما
بعد يوم. تتقلص وسائل الراحة وأدوات الترفيه. لكنهم أيضًا يتحملون، ويجدون
المبررات للعيش على حد الكفاف. إنها الحرب في الخارج، إنه الموت، ربما نكون أفضل
حالًا في غربتنا، في عزلتنا، في منفانا. ربما نكون آمنين في قبرنا هذا.
الرواية صغيرة في
حجمها، مقتصدة في كلماتها، بطيئة في حركتها، فهي أقرب إلى مونودراما،على خشبة مسرح
صغير. على الأقل، كوننا ندرك أن شخصياتها الأربعة، هي شخصية واحدة في أزمنة
متشطية، ومكان مغلق. كأنهم مسجونون في ذواتهم. فحتى ما يهجس به الثلاثيني، هو نفسه
ما يدور بخلد الأربعيني والعشريني. إنهم جميعا في قوقعة، هذا هو المعنى الذي حمله
عنوان الفصل الأول من الرواية ( القوقعة).
يقول الراوي في الإشارة غلى رفقاء الغرفة:
" أحدنا يحمل
قوقعته على ظهره، ويزرع الغرفة جيئة وذهابًا...
الآخر دس نفسه في
قوقعته، مستلقيًا على أحد الأسرة...
الثالث تكور داخل
قوقعته أيضصا، متدثرًا بللحاف..
أما أنا فاخترت
كرسيًا هزازًا أمام التلفزيون، ملقيصا برأسي إلى الوراء.. قوقعة أخرى"
لكن عنصري الإثارة والتشويق في الرواية هو دافع القارئ على الاستمرار وتحمل
كل هذا اليأس المقيم. كنت اقرأ وكأن الأمر مرتبط بمصيري شخصيًا، أو كأني أبحث معهم
عن نهاية لهذا الواقع العدمي الكابي. ولكن.. لا نهاية. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
·
إسلام أبو شكير ـ زجاج مطحون ـ رواية ـ
المتوسط للنشر ـ ميلانو.
إرسال تعليق