بقلم- سيد الوكيل
الصراع بين الذهني والحسي شهد
حالات توتر في ثقافة البشر عبر التاريخ، وهو في حقيقته صراع بين نمطين من
الإدراك يمثل أحدهما- الذهني ـ نمط السلطة في كل أشكالها المركزية، ويمثل
الآخر- الحسي- الهامش أيضاً في كل صوره، ولم يعرف التاريخ فضاء يمزج بينهما
بنفس قدر الأسطورة، فالتفكير الأسطوري في أحد وجوهه طريقة لإدراك العالم وفهمه
عبر مجموعة من القيم المختلفة إلى حد التناقض، فالحقيقة والخيال والذهن والحس
والذكورة والأنوثة والخير والشر.. إلخ، كل هذه الثنائيات الضدية وغيرها، تشكل
فضاء الأسطورة. أما العلم فقد انحاز للعقل ورفض التفسير الميتافيزيقى. وقد
مثلت الحداثة الأوروبية، أو ما يسمونه بعصر الأنوار، ذروة انتصار العقل العلمي.
وهو بطبيعته تنظيري ومنهجي وتراتبي، لا يسلم بالتحولات والقفزات المعرفية
المباغتة، وهو ما نلاحظه في نظريات
الأدب على سبيل المثال، فكل نظرية تفضي إلى أخرى، سواء على سبيل التطور والنضج
أو على سبيل التعارض والاحتجاج. لهذا فإن قرنا واحدا( العشرون) شهد العديد من النظريات والاتجاهات التي لم تصمد
سوى بضع سنوات. حتى أن آخر النظريات الموصوفة بالنقد الثقافي، وقفت حائرة في
مواجهة تحولات عالمية من قبيل العولمة، وأصبحت أكثر تعقيدا مع هيمنة الشبكة
العنكبوتية، وقدرتها على تداول سياسات وظواهر ثقافية تسود العالم في وقت قليل،
وهو ما يهدد بتراجع مفهوم الخصوصيات الثقافية، ومن ثم الهويات أو الأنساق
الثقافية للمجتمعات على نحو ما يذكرها النقد الثقافي.
في هذا السياق، يرى الواقع عبر
مجموعة من القيم، تكتسب قيمتها من قدرتها على الإنتاج والعمل وتحقيق رفاهية
الإنسان، ومن ثم قامت عمليات من العزل والتصنيف وإنتاج تخصصات دقيقة في كافة
مجالات العلوم البحتة والإنسانية، ففي الأدب ـ مثلاً ـ ينهمك النقاد في تحديد
قيم الفصل بين الأنواع، وكل قيمة تصبح في حد ذاتها منهجاً يمكن دراسة النوع
على أساسه، كأن تفصل في الفنون اللغوية بين النثر والشعر، ثم يقسم النثر إلى
أنواع منها القصة والرواية
والمقال..إلخ وتنقسم السرد إلى أنواع وهكذا حتى نصل إلى تقسيمات داخل النوع
الواحد كأن نقول رواية الريف ـ الرواية البوليسية ـ رواية الخيال العلمي،
الرواية السياسية. وهذه التقسيمات تتم بالتجاور مع تقسيمات أو اتجاهات وتيارات
أخرى، مثل الرواية الواقعية والرومانسية، السوريالية، تيار الوعي..كما أن الواقعية
نفسها يمكن أن تنقسم إلى واقعية نقدية أو اشتراكية أو اجتماعية الخ حتى لتصبح
سحرية ورقمية أخيراً.
إن هذه الذهنية المغرمة بعمليات
الاشتقاق والتوليد والتفكيك، هي ذهنية الحداثة الأوروبية التي نجحت في إبهار
العالم بإنتاج معطيات جديدة وصلت إلى حد التخمة المرهقة للذهن نفسه، الذي لم
يعد قادراً على احتمال هذه الآلية التوليدية التي لا تنتهي، بل ولم يعد قادراً
على فهم العالم من حوله، لكن أخطر ما أنتجته هذه الآلية هي التكنولوجيا التي
يمكنها التعامل مع الخوارزميات والجزيئات والفوتونات والأجسام متناهية الصغر،
وأصبح من الممكن رؤيتها في لحظات انتقالها أو انشطارها أو تولدها بمعنى أنه
أمكن التحكم في الشبكات الإليكترونية والتلفزيون، و صور الطاقة والأقمار والمجرات، كما يمكنها
أن تنقل صورة الأجسام وحركتها بل وتنقل الصوت والضوء بوصفها صوراً للطاقة تم
تحولها إلى صور أخرى يمكن التحكم فيها ونقلها في اختراق مثير لقوانين الزمان
والمكان.
لهذا فإن تكنولوجيا الصورة ليست
مجرد نقلة نوعية في سلسة التطور العلمي، بل هي ثورة حقيقية في تاريخ البشرية
مماثلة إن لم تكن أخطر ـ لاختراع الكتابة، وعلينا ملاحظة أن تاريخ الجنس
البشرى كله ارتهن بالكتابة، التي بدأت كوسيط لنقل المعلومات أو بمعنى أصح
حفظها في صور ورموز تعيش مع الزمن ويمكن نقلها بين الأماكن ليفيد منها آخرون في
أماكن وأزمنة أخرى، ثم تحولت الكتابة إلى أداة للتفكير، فلم يعد ممكنا أن
يتطور الفكر البشرى بدون الكتابة والكتب والمعلومات التي تنقلها إليه، ومن ثم
يمكن تثبيتها واسترجاعها وعزلها وترتيبها وتصنيفها، إن أسطورة العقل نهضت
أساساً على الكتابة.
الصورة لا تنقل المعلومات في
صورتها المجردة، بل في صورتها المجسدة، والفرق بين الاثنتين تماماً كالفرق بين
وصف الجبرتي للحملة الفرنسية على مصر، ومشاهداتنا للحملة الصهيونية على غزة،
فأنت في الأولى تعيش متعة ذهنية تخيلية فى التاريخ، وفى الثانية ترى وتحس
وتعيش الأجساد والغضب واللهب والدم والحديد لأنه يأتيك في التو واللحظة
متجاوزاً الزمان والمكان، بل ومتجاوزاً قدرات الخيال ومعطلاً له، فالخيال هنا
لا محل له من الإعراب.
هل يمكن تصور أن البشرية سوف تبدأ
تاريخاً جديداً مع الصورة، تاريخ محتشد بالحسية وبلا خيال ؟! هذا وارد طبعاً،
لكن الأمر قد لا يتوقف عند هذا.
|
إرسال تعليق