واد جده .. سجين قشرة البندق
قراءة د. نداء عادل
أن يخذل المرء نفسه على مدار حياته، تلك هي المأساة الكبرى التي يعيشها كثيرون ولكن لا أحد يعرف عنهم شيئًا، يمضون في أيامهم، مثل أي آلة تجتر الذكريات، ولا تعرف كيف تمارس العيش.
يغوص الأديب مصطفى البلكي في رواية "واد جده" في أثر من لا يعنى بهم التاريخ، ليلعب الدور الأساسي للروائي عبر النطق بصوت من لا ينطقون، هكذا هو بطل الرواية، واحد ممن لا ينطقون، يمارسون الوجود وحسب، يبحثون عن شيء ما لامس حياتهم في زمن ما وحينما يكون أمامهم لا يدركون أنه ما كانوا قد أفنوا أيامهم بحثًا عنه.
إنه سجين قشرة البندق، الرجل الذي عاش ستين عامًا بحثًا عن ذاته، نصفه الذي يكمّله، ولكنه لا يجد ذاته، وحين يجد ذاك الصوت الذي جاب البلاد بحثًا عنه لا يتعرف إليه، بينما صاحبته تنتظر أن يعترف بها دون جدوى، لتحوّل إلى حائط للذكرى، يرسم عليه من رحلوا، ويخرجهم منه ليحادثهم، يخلق لهم مسارات أخرى، ويمارس خذلان نفسه باستمرار.
يبدأ حكي "الخياط" بسلاسة من العام 2011، حين يعود إلى أرضه، موطنه الأصلي، قريته التي ابتعد عنها ليعود إليها خالي الوفاض، منتظرًا الحياة أن تمر عليه وهو في عمر الستين، يمارس العيش نعم، لكنه ليس على قيد الحياة، بغير حب ولا أهل، فقط صديق واحد يتذكره ويعرف حكايته.
الدروب التي مشاها تظل حكرًا على ذاكرته، يسردها تارة وينجح البلكي في أن يجعلنا نمشي تلك الخطى معه بسرديته الهادئة المتناغمة زمنيًا ومكانيًا، دون أن نتمكن من تحديد هوية المكان الحقيقية، فقد يكون في أي مكان وفي اللامكان.
واد جده، هو الرجل الذي حررته ثورة يناير من ارتكاب جريمة، وهو الرجل الذي لم يدلّه العزف الحزين على حقيقته، تعلّق براجية دون أن يعرفها، وحينما عرفها لم تعرفه هي بفقدانها الذاكرة ليكون تمام هويته.
عدد أبطال الحكي المحدودين وترابطهم، والمشهد الذي يجمع بينهم ويفرقهم، يجعل القارئ يتتبع تاريخ الوطن المصري، على مدار 6 عقود، هي مساحة الحكي في حياة البطل، كيف ولد، ومما كان هروب جده وجدته وأمه من دروب القرية، وكيف يعود إلى القرية ذاتها، إلى الاماكن التي يعرفها ولا تعرفه، في رحلة خذلان أخرى، وتيه أكبر.
الحقيقة أن من يعيش الهروب لا يعرف الحضور، وهذا هو حال الخياط واد جده، وقد نجح مصطفى البلكي ها هنا في تقديم لغة وحبكة وبناء، فضلاً عن العامل النفسي في حياة الإنسان في حقبة زمنية عاشتها
إرسال تعليق