قراءة في ديوان كانت هنا موسيقى 

                  للشاعر الكبير الأستاذ جمال القصاص


كانت هنا موسيقى  للشاعر الكبير الأستاذ جمال القصاص  بقلم حاتم رضوان
ديوان جمال القصاص كانت هنا موسيقى، بقلم: د. حاتم رضوان


     كانت هنا موسيقى 
للشاعر الكبير الأستاذ جمال القصاص

بقلم: د. حاتم رضوان



     يضم الديوان خمس قصائد طويلة أو خمس مقطوعات موسيقية كل قصيدة تنقسم لعدد من المقاطع كل مقطع منها بمثابة حركة موسيقية تمس معاني كلماتها الروح قبل أن تخاطب العقل وبدءًا من العنوان كانت هنا موسيقى بالصيغة الماضية نستشف أن الشاعر يعيش حالتين من الفقد والحنين معًا.

    يستجمع فيها جمال القصاص عصارة تجربته الطويلة مع الشعر على مدى سنوات حياته ليلقي نظرة متأملة عليها وهو واقف على عتبة بين الماضي والحاضر منذ طفولته:

 (يومًا ما
كنت طفلًا
كنت أعرف أن رائحة الخبز تشبهني )
( ربما نتذكر أننا كنا أطفالا )
( ربما أستعيد طفلا 
كنته )
وإلى الآن بعد مرور سنوات العمر:
( لم يعد بوسعي أن أطرق الباب مرتين
يدي ابيض عشبها )
( في هذه السن الشيخة
لا يعرف الحب كيف يبدأ ولا كيف ينتهي)

    ويستعيد الماضي في قصيدته الأولى : تحفر ملجأ سريًا لها في النص والتي جاءت أفعالها في معظمها بالصيغة الماضية: فعلوا.. ارتجفت.. التقينا.. تشاجرنا.. احترق.. كنت.. كانت.. عضتني ....
ويبكي على هذا الماضي الضائع:
( أنا الخاسر الأجمل
لم أدخر كثيرا من العسل
ولا الملح)
ويستمر في التذكر:
( صورتك في الألبوم
فراغك المدروس بعناية
لغتك المفعمة بحداثة النور
نقرتك المتوحشة فوق صدر المساء
رسائلك المرتبكة بضمائر المجهول
منذ رحلت أعيد قراءتها 
أفككها)
( كأنها روحك الخرساء
تشف
عبر الشوارع والحقول
عبر اليد والذاكرة والحلم)
.... 
( امرأة ملفوفة بغبار أسود
لا شيء في يدها
سوى بقع من الذكرى
ورائحة كلما أغمضت عيني تشبهني )
...
(الذكريات نشطت فيها الرطوبة)
.....
( دائمًا..
سيختفي شيء ويظهر آخر 
كأنه النسيان)
.....  
( ولا أحد يدلني عليَّ
يعيدني إلى بيت الزمن 
إلى فراغ له طعمك )
...... 
( عبثًا يتذكرون أنهم كانوا هنا )
......
( كل هذه السنوات 
تجرعت الكثير من الغياب 
من الفقد 
من لوعة المطر)

    ونرى هذا التعلق بالذكريات بكل مشتقات الكلمة في تكرار كلمات مثل أتذكر وذكرى وذكريات ويتذكرون وما شابه في أكثر من ثلاثين موضعا وكذلك عكس الكلمة: النسيان بمشتقاتها المختلفة مثل ينسى ونسيت وننسي إلى آخره إنها حالة من التأرجح بين الذكري والنسيان
   عنوان الديوان كانت هنا موسيقى عنوانٌ موفق حيث جرد الشاعر كلمة موسيقى من معناها الحرفي ليسبغ عليها معانى جديدة أكثر إيحاءً نجدها متسربة عبر شطرات القصائد: 
 كنت أظن أن الموسيقى تكفي
سوف يبتكر اللحن بنفسه
تلقائيا بكسر وحشة السوناتات
وحدها الموسيقى تستر الروح
تنوح الموسيقى
أن كراسة الموسيقى صماء
لا تحسن الإصغاء للموسيقى
جربي أن تخدعي الموسيقى 
بعنقود من الموسيقى 
كصندوق موسيقى 
تردم فجوة الموسيقى
من أعلى بمحاذاة الموسيقى

   لقد جعل الشاعر الموسيقى مرادفًا للعشق ورعشات الجسد وخلجات الوجدان.
    نشعر بحميمية واعتزاز الشاعر بدواوينه وقصائده وأصدقائه وأعمالهم ومخاطبته لأبيه وأمه ومدرسته وكأنه ساعي البريد الذي يحمل خطابات لهم. 
يضمن أسماء دواوينه قصائد ديوان كانت هنا موسيقى: 
خصام الوردة
شمس الرخام
من أعلى بمحاذاة الموسيقى 
بالكاد يعبر الشارع
مثل قبلة وأكثر
تحت جناحي عصفور
ويذكر قصائده:
قبل البئر بعد المرآة
مثل سقطة وأكثر
ولا أدري هل الثورة في الفم قصيدة من لا؟
ويناجي أصدقاءه أو يوجه لهم الخطاب فيما يشبه البوح
قلت لأحمد الفيتوري
هذا يوم مولدك الذهبي
....  

يا مي
أصابع المار يونيت أم شكاوى الفلاح الفصيح 
أيهما يبتكر الحبكة
هليوبوليس لم تغير ضمائر الحكي  
يقصد مي تلمساني وروايتها هليوبوليس
.........
وخطابه: 
يا صديقي الحصيف
يا يسري
يا ابن عبد الله
التاريخ صياد عجوز 
وحدك تملك تأويل النص
تزفه للجمال 
للحرية 
للقبح
......
حمدي عابدين 
يا صديقي الطيب
قل سلامًا على صرخة تسلقت عريها
وذكره لروايته حجر جهنم 
.......

ولا ننسى ذكر الشاعر لنفسه في مواضع مختلفة: جمال وابن القصاص وجيمي

     يمتزج العشق الروحي بالعشق الجسدي عبر الديوان في ضفيرة واحدة عشق صريح ولكنه يأتي في الوقت نفسه مدغمًا في إشارات تفصح عن عبقرية الجملة الشعرية عند جمال القصاص ويكفي ذكر هاتين الشطرتين عندما يقول:
أحدهما كان شاهدا على مولدك
والآخر ينتظر صرخة تشهق في صدري. 
   وفي النهاية أود أن أنهي قراءتي بهذا المقطع:
( في هذه السن المضطربة
أريد أن أكتب لك شيئًا
لم أكتبه من قبل
لم أسمعه
لم أره
فقط انتظره كل يوم
ربما أعرف أنني الشاعر الذي مات
على شفا حرف.)

Post a Comment

أحدث أقدم