أُحبُّ أنْ أقْتسمَ حُلمي مَعكَ!
شعر: سلوى حجازي (*)
ترجمة: عاطف محمد عبدالمجيد
في الْمدينةِ
أُحسُّ بالتَّعاسةِ
والْعُزْلةِ تمامًا
بيْنَ ملايينَ يَسْكنونَ الأرْضَ
فيما تَخْنقُني الْمدينةُ
بحاجزٍ مِنْ منازلِها
بعيونِها التي تُطوّقُني كَسجْنٍ
بعَرباتِها التي تُحْدثُ ضَجَّةً
بساعتِها التي تَجْري
بأنْماطِها التي تُرْهقُني
بناسِها اللا حُبَّ لديْهمْ
بوجهِها الْمرْسومِ
الذي يُخْفي بعنايةٍ
أناسًا جَوْعى
يَبْحثونَ عَنْ كِسْرةِ خُبْزٍ
أناسٌ يَتباغضونَ
مُبْتسمينَ لأنْفسِهمْ
ليْسَ تَقَلُّبًا
لكنْ باحْتيالٍ
ويخفي قلوبًا مِنْ حديدٍ
تمْلأُ الأرْضَ
أمَّا روحي في عُزْلتِها
فتَبْحثُ كلَّ يَوْمٍ
عَن الْحُبِّ.
حُلْمٌ
في هذهِ الليْلةَ
الطَّريقُ طويلٌ
قلْبي يَتَقدَّمُني
وأنَا أتْبعُهُ.
....
أصْواتٌ تُناديني
وأنَا أهْربُ منْها
إذْ إنَّ كِياني كلَّهُ مَشْدودٌ إليْهِ.
....
الطَّريقُ خاوٍ على عروشِهِ
أسْفلَ الْمطرِ
لأنَّني هذا الْمساءَ
لمْ أبْصرْ إلاهُ.
....
الأرْضُ تَسْطعُ كحياتي
فيها أرى ظِلِّي
الذي يبْتسمُ لي.
....
وحيدةً أمْشي
كمَنْ يمْشي نائمًا
وفي الظَّلامِ أتْركُ كلَّ أصْدقائي.
....
أبْصرُ عيونًا
أتَعلَّقُ بها
عيونٌ تُضئُ في اللا نهاية
وأنَا أسْتيْقظُ
على صَوْتِ موسيقى
لمْ يكُنْ هذا سِوى حُلْمٍ وُطَانيٍّ
سَبَّبَهُ مِذْياعٌ سَوْداويٌّ.
سَلامٌ سَماويٌّ
كالْعصْفورِ الْمُسافرِ يُرَفْرفُ
مُنْهكًا
يَلْمسُ الأرْضَ.
....
كالطِّفْلِ الْخائفِ يَحْتضنُ أمَّهُ
بعْدَ أنْ أرْعبَهُ ذئْبٌ.
....
اسْتريحُ فيكَ يَا أبَتي
آنذاكَ تَتَمزَّقُ الظُّلماتُ
دونَ غرابةٍ
يَتألَّقُ ليْلي
في كَنَفِ ضيائِكَ
يَغْمرُ الْمطرُ صَحْرائي
أرْتشفُ حُبَّكَ
وأُغْلقُ أجْفاني
هُو ذا السَّلامُ السَّماويُّ
الذي أرْتَجيهِ...
قَرْيَتِي
هذا الصَّباحَ
لَديَّ رَغْبةٌ في الْحُلْمِ
أتُريدُ أنْ تَحْلُمَ مَعي؟
هذا الْحُلْمُ صِبْيانيٌّ قليلاً
لكنِّي أُحبُّ أنْ أقْتسمَهُ مَعكَ!
....
أعْرفُ رُكْنًا سِحْريًّا
بعيدًا عَن الْمدينةِ
فلْنذْهبْ لِنراهُ
إنَّهُ مَنْزلٌ رَائِعٌ
هَادئٌ كَصوْتِ الْمسَاءِ.
....
مُخْتبئٌ داخلَ أيْكةٍ
مِنْ أشْجارٍ عِمْلاقةٍ
تَمْلأُها الْهَمَسَات
يُقالُ عَنْهُ أنَّهُ مَسْجدٌ
لأنَّهُ بَسيطٌ كابْتسامةٍ.
.....
نَلْتقي فيهِ أطْيَبَ جِدَّةٍ
عَجوزٌ كَمسْكنِها
جِدَّتي أمُّ أبي
تعيشُ وحيدةً فيهِ ولا تَخافُ.
....
نَزورُها كَنَبيٍّ
لأنَّ مَسْكنَها ذو أيْدٍ مَفْتوحةٍ
كأنَّنا في مَسْكنِنا ونَحْنُ فيهِ
والْقرْيةُ كُلُّها تَسْمعُ صَوْتهُ.
....
لوْ رأيْتَها على أريكتِها الْمُزْهرةِ
وسْطَ أبْناءِ الْعَمِّ
قرْبَ النَّارِ التي تُوْقدُها
قَهْوتُها في يَدِها
قَهْوتُها التي تُوزّعُها
حِجَابُها أبْيضُ دائماً
يَحْجبُ وجْهَها الْوديعَ
لنْ تسْتطيعَ أنْ تُقاومَ
ستَكونُ مَسْحورًا
ستَكونُ مُنْفعلاً
سَتُحبُّ إلى حَدٍّ ما
أنْ تَعيشَ وقْتاً طويلاً
كمَا يَفْعلُ النَّاسُ
في الضَّواحي..بلا أسْوارٍ!
نَسيتُ أنْ أُخْبرَكَ
أنَّنا سَنُسْتقبَلُ
بمائةِ ابْتسامةٍ تقْريبًا
سَيَحْتفى بنا صِبيْانُ الْقرْيةِ
فتْيانٌ بعيونٍ واسعةٍ
فتياتٌ مِنْ أعْمارٍ شَتَّى
أنَّ الْكلابَ سَتعْوي
أنَّ الْحمَامَ سَيَهْدُلُ
أنَّ الْقرْيَةَ سَتنْتعشُ
أثْناءَ تَجوّلنِا
أنْصَحُكَ أنْ تُجرِّبَ
هذا السَّريرَ
الضَّخْمَ بستائرِهِ الدَّنْتلا
حيْثما الْقُبّراتُ الْمُوشَّاةُ
تَبْسطُ أجْنحتَها الْكبيرةَ
سَتُحاطُ بِحرَّاسٍ ملائكةٍ
يَسْكنونَ السَّتائرَ
حاجبينَ الْحديقةَ
سَتنامُ فوْقَ هذي الْوسائدِ البيْضاءِ
حيْثُ تَمْتزجُ رائحةُ الذُّرةِ
والْبخورِ فيها
سَتَرى مَرَّةً أخْرى
في ضَوْءِ شَمْعةٍ
تتَمايلُ طُوالَ الليْلِ
كمَا في مُصَلَّى.
لنْ تَسْمعَ سِوى صَوْتِ السّكونِ
سِوى تَمْتمةِ الأشْجارِ
التي تُلاطفُ الأغْصانَ
سِوى صَوْتِ الْحارسِ
الذي يُنادي كلْبَهُ
مُمزِّقًا الليْلَ
وهُدوءَه الْمُمْتدَّ.
ستُوْقظُكَ مُبكّرًا صباحًا
أشِعَّةُ النَّهارِ ورائحةُ الْياسمينِ
الأسْماكُ الْمُزرْكشةُ تَجْعلُها مَعْبرًا
ومِئاتُ الْعصافيرِ
ستَشْدو داخلَ الْغابةِ الصَّغيرةِ
حينئذٍ أنْصحُكَ أنْ تَسْتحْسنَ
الْمشْهدَ الطَّبيعيَّ
حيْثما تَتَعانقُ السَّماءُ مع الْخُضْرةِ
كمَا في أيْقونةٍ
أيْقونةٍ حيَّةٍ
أيْقونةٍ مُتَحرّكةٍ
أيْقونةٍ عزيزةٍ
أراكِ ليْلَ نهارٍ
وأريدُ اليَوْمَ
أنْ أُعانقكِ بِعيْنيَّ
بذراعيَّ الْعاشقتيْنِ
يَا قَرْيتي الأمَّ!
مَرَارةٌ
هَذي الابْتسامةُ رسْميَّةٌ
هذي الْبشَاشةُ مُصْطنعةٌ
إنَّها تَتَشظَّى كَضحكةٍ
في فَمِ شَخْصٍ سَيُعْدمُ
يتَظاهرُ بالْخَطأِ
مُدْركًا أنَّهُ سَيموتُ!
....
هذي الابْتسامةُ
تَقْطيبةُ وَجْهٍ مُتْقنةٍ
تُؤْلمُ أكْثرُ
مِنْ دُموعٍ نَراها تَجْري
على خَدّيْ طفْلٍ
على خَدّيْ بَرئٍ
لمْ نَسْتطعْ أنْ نُساعدَهُ!
الْعَيْنُ الشِّرِّيرةُ
تَوَقَّفي
تَوَقَّفي عَن النَّظَرِ إليْها
تَوقَّفي
تَوقَّفي عَنْ حَسَدِهَا
وأنْتِ تَنْظرينَ
نَظرْتِ إليْها بِعيْنٍ شِرّيرةٍ
ولَمْ تَهْمسي بـ (الله أكبر)
وأنْتِ تَنْدهشين حاسدةً.
مُحيَّاها الأبْيضُ
شَكْلُها الْمُعْتدلُ
نَظْرتُها الْعطوفةُ
شَجاعتُها الْعظيمةُ
أأَنْتِ سَعيدةٌ؟
أتَريْنَ الآنَ
أنَّها في فِراشِها
وجْهُها باتَ هزيلاً
صَغيرتي الْحبيبةُ
تَعالي يا ابْنتي
لأُبخَّركِ
أوهْ يا أمِّي
يا لها مِنْ رائحةٍ رائعةٍ
هَا هو حَجَرٌ
حَجَرٌ أزْرقُ
لِيفْقأَ عَيْنيْها الْبشعتَيْنِ
أيْضاً ها هي كلماتٌ قرْآنيةٌ
عَلِّقيها تَحْتَ مَلابسِكِ إذنْ
وسَيحْفظُكِ اللهُ الْقادرُ
يَا صغيرتي الْغاليةُ
ويُعافيكِ!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* سلوى حجازي شاعرة مصرية ولدت في الأول من يناير عام 1933 . كتبت أشعارها باللغة الفرنسية ..تركت أربعة دواوين: ظلال وضوء ـ أيام بلا نهاية ـ سماح ـ أطلال، كما كتبت قصصًا للأطفال مثل: شجرة الياسمين ـ عصفور الصباح.
نالت عدة جوائز أدبية رفيعة من فرنسا منها: جائزة الأكاديمية الفرنسية/ ميداليةً ذهبيةً في مجال الشعر وذلك عام (1964), ونالت ميداليةً ذهبيةً أخرى في مسابقة الشعر الفرنسي الدولية عام (1965). رحلت عام 1973 في حادث تفجير طائرة مصرية كانت عائدة من ليبيا.
إرسال تعليق