زوربا اليوناني
{وثقافة البحر الأبيض المتوسط}
بقلم: شريف الوكيل
هل أسلوب الحياة اليوناني الذي تظهره لنا هذه الرواية حصري أم أنه أسلوب حياة يمتد في جوهره إلى جميع أنحاء شاطئ البحر الأبيض المتوسط..؟
إنها أو على الأقل كانت كذلك ، بالتأكيد هي طريقة الحياة اليونانية وأيضا طريقة الحياة في صقلية وتونس والإسكندرية. يمكننا أن نمشي عبر حوض بحرنا بأكمله ، في الشمال والجنوب والشرق والغرب ، ونجد في كل بلد آثارا للسلوكيات المشتركة وأساليب الحياة، وسط الثقافات المختلفة. على سبيل المثال ، سنجد الطاقة للتغلب على العقبات اليومية ، أو بطريقة أخرى ، فن الطهي الذي تم استخدامه لفترة طويلة...
تتكرر المكونات الصحية هنا وهناك ، مثل الشمس التي تعطي الحياة والمشتركة مثل المطر الذي يغمر حقول الأراضي المختلفة التي تغمر نفس البحر. ستظل هذه الرواية التي تحولت لفيلم سينمائي جميل على مر الزمن يعرض ويشاهد مرات ومرات وستظل الرواية تقرأ في كل أنحاء العالم من الكبار والصغار.
فقد تم الاحتفال بهذا الفيلم لأول مرة منذ أكثر من ستون عاما، وحتى اليوم لا يزال مقنعا ويستمر في تحمل المرح والإثارة مع إثارة رد فعل غير عادي...
إنه فيلم لديه القدرة على أن يكون فنا من فنون الباليه نعم يمكنك الرقص وأنت تشاهده، بفضل المقطوعة الموسيقية الرائعة التي تعتبر فكرته السائدة استحوذت هذه المقطوعات الموسيقية على الجماهير من ثقافات مختلفة للغاية... إنها الرقصة المسماة سيرتاكي ، والتي ندين بها للملحن اليوناني المعروف (ميكيس ثيودوراكيس)
وهو فن راقص بحد ذاته، يشبه بشكل قريب فن (الدبكة) يجسد ثقافة بلدان البحر الأبيض المتوسط...لقد عرف ثيودوراكيس كيف يلتقط الطاقة الجذابة لشعبه في الفيلم ، مع حيوية الرجال والنساء الذين ولدوا في أراضي جزيرة كريت القديمة... وهو المكان الذي ولد فيه مؤلف هذه الرواية المثيرة للإعجاب وحيث وقع الحدث، عرف ثيودوراكيس بلا شك كيف يعبر عن المشاعر المسنة للرجال والنساء من العديد من أماكن البحر الأبيض المتوسط.
إنه فيلم يمكن أن نقول عنه معجزة فنية نادرة، فقد جمع بين ثلاثة من أجمل وأرق أنواع الفنون، الرواية والسينما والموسيقى، ونادرا ما نجد مثل هذا الجمع فى عمل واحد يحيا بيننا حتى كتابة هذا المقال... فيلم لديه القدرة على أن يكون عملا أدبيا خالدا كما الإلياذة والأوديسا، أو سيمفونية من سيمفونيات بيتهوفن أو باخ أو كورساكوف أو أن يكون عرض راقص من عروض الباليه، مثل باليه كسارة البندق أو بحيرة البجع...لكنها رقصة ليست تقليدية كما قد تبدو لأن ثيودوراكيس ألفها للفيلم. كان يرقص عليها، مثل زوربا العجوز (الممثل المكسيكي أنتوني كوين) والذى يمكن أن نقول عنه أن هذه الشخصية لم يستطع، أو لم يرتبط ممثل بشخصية أداها مثل ارتباط أنتوني كوين بها ولم يرتبط فيلم في الأذهان بفلسفة شخصية من شخصياته عن الحياة والحرية مثل فيلم زوربا اليوناني ، الذي يجعلك تفهم طعم السعادة و المعنى الحقيقي للحياة بشكل مفصل...
فيلم خفيف الروح يتسم بالجمال معبرا عن شغف الحياة وكيفية فن عيشها. يحمل لنا مواقف حكيمة جدا نابعة من تجارب أصحابها كما إن للفيلم ثيمة رائعة تتضمن موسيقى يونانية ذات طابع مؤثر...والأجمل أن زوربا من الشخصيات الساحرة الآسرة التي لا تستطيع الهرب من تأثيرها ولا تستطيع ألا تقع في حبها ، فهو يمثل كل ما هو حقيقي وواقعي في الحياة...إنه لا يخشى شيئا ولا يؤمن بشيء عدا نفسه ، هو ببساطة صاحب فلسفة خاصة في الخلود الجسدي والروحي في هذا العالم وليس في عالم آخر ، الخلود الذي يتحقق عن طريق الذوبان الكامل في العمل واللهو والحب والرقص حتى آخر ذرة باقية من قوة وآخر لحظة باقية من الحياة، يرافقه صديقه الشاب باسل (الممثل الإنجليزي آلان بيتس) بتكييف السرعة والخطوات والحركات مع هذا الجمال الموسيقى الخلاب ، مع إظهار أصالة الرقص الكريتي ومتعمقٱ في جذوره ، فهي تخلق تصميم رقصات موسيقية قديمة وحديثة تشكل جزءا من روح البحر الأبيض المتوسط المشتركة.
وفيما يتعلق بزوربا اليوناني ، تتبادر إلى الذهن على الفور الأوتار الموسيقية الجذابة التي يعزف عليها "السنتوري" ، وهي آلة تقليدية ، مما يخلق دوامة من المشاعر التي تأسر الراقصين...
إن زوربا هو الذي يتجاوز الشاشة ويتجدد تحت سماء مضيئة تنعكس في مياه بحرنا، وهكذا فإن الشخصية التي أنشأها أيضا الكاتب اليوناني الأشهر نيكوس كازانتزاكيس ، موجودة بالفعل على الأرض، كان عامل من عمال المناجم يُدعى جورج زوربا ، هو الذي أسر الكاتب وأثار إعجابه ، منذ مائة عام ، عندما قابله في منجم فحم بعيد عن جزيرة كريت حيث وقعت قصة حياة ومغامرات الكسيس زورباس ، التي نشرت عام ١٩٤٧... إذن الشخصية التي أنشأها الكاتب اليوناني العظيم نيكوس كازانتزاكيس، كانت موجودة "بالفعل" .
وبعد خمسة عشر عاما ، أصبحت الحكمة الموروثة والدقيقة لهذا الرجل النادر والمتناقض ، كما يقولون ، عالمية على يد يوناني آخر: مخرج الفيلم "ميكيس كاكوجيانيس". كان يعرف كيف يخلق بصريا بطريقة بسيطة وجذابة قصة تدور أحداثها في بلدة صغيرة في جزيرة كريت. في البيئة الريفية والفقيرة ، حيث تتشكل الثقافة من عادات بدائية وقاسية إلى حد ما ، والتي يتم اكتشافها بشكل غير متوقع من خلال مشاهد الزوجين الرئيسيين وتحولاتهم... ثم محاولة إنشاء مشروع تجاري سيكون كارثيا، إلى جانب العيش مع عاهرة منحلة، لعبت الممثلة الروسية الأصل "ليلى كيدروفا" التي فازت بجائزة أوسكار في هوليوود هذه الشخصية.
للقصة نغمة فاتحة ومضيئة بين الحيوية والحنين...فهي من الروايات القليلة التي تعمل على تغيير المواقف والنظرة للحياة،
فهى من الروايات القليلة التي تجبر القرّاء على اقتفاء أثرها من عالم الأدب إلى عالم السينما إلى عالم الموسيقى...غير أن ذلك الأثر الذي تتركه هو الذي يضمن لها الخلود وذيوع الصيت... ومع ذلك ، فإنها تحتوي أيضا على هالة قاتمة تقريبا لأنها تتضمن نوعا من الحكاية النقدية عن البلد نفسه ، عما كان عليه الريف اليوناني في الستينيات البعيدة عندما عرض الفيلم لأول مرة. هذه هي المشاهد القوية التي ابتكرها كازانتزاكيس وكاكوجيانيس (أولاً في الرواية ولاحقا في الفيلم) ، حول الذكورة البدائية ، غير القادرة على احترام حرية الأرملة الشابة... وقد قام الرجال بمضايقتها حتى الموت ، أمام تجاهل الشخصية الإنجليزية الأجنبية ، القادمة من الأراضي الباردة التي لم تفعل شيئٱ لإنقاذها، ليأسرنا زوربا بقوله للكاتب الإنجليزى الحائر " لماذا هناك أشخاص يموتون..؟"
فيجيبه لا اعلم فيباغته زوربا : " إذن ما الفائدة من كتبك اللعينة..؟ ما عساه إن تخبرك بحق الجحيم" فيجيبه الرجل الإنجليزى : "الكتب تخبرني معاناة الرجال وعدم قدرتهم على الإجابة على الأسئلة كأسئلتك.
إذن فهناك مفاهيم خاطئة ورغبات جنسية مكبوتة ، وأخرى..؟ اللامبالاة الأخلاقية ، التي تعبر عنها النساء اللواتي سيتحولن بلا هوادة من مشيعات حزينة ، وفقا للممارسات الجنائزية القديمة ، إلى اللصوص الجشعين الذين استولوا على كل ما يجدون في منزل الضحية المقفر الذي بكوا فيه للتو، لتظهر اليونان باللونين الأبيض والأسود... يسيطر الأسود على الثوب ، حسب تقاليد البحر الأبيض المتوسط القديمة ، والأبيض المبهر في البراءة والمتعة المعيشية...
ومع ذلك ، هذا صحيح فيما يتعلق بظلام الدراما ، مع دلالات واضحة مأخوذة من المآسي الكلاسيكية للبلاد. ليرتفعان في النهاية ، الشخصيتان المركزيتان للرواية، فتظهر لنا علاقة الصداقة بينهما والثقة المتبادلة المتزايدة في الواقع ، كانا على الشاطئ الرملي، حيث رقصت بالفعل رقصة الآلهة القديمة لأوليمبوس المختفي...
اشتهر زوربا كواحد من إبداعات الأدب التي لا تنسى حقٱ شخصية تم إنشاؤها على نطاق واسع في تقليد السير فلستاف، فى مسرحيات شكسبير وسانشوبانزا الشخصية الخيالية فى رواية دون كيشوت لسيرفانتس. لم تخف سنواته الحماسة والذهول اللذين يستجيبان لهما بكل ما تقدمه له الحياة ، سواء كان يعمل في المنجم ، أو يواجه الرهبان المجانين في دير جبلي ، أو يزين حكايات حياته ، أو يمارس الحب لتجنب الخطيئة... حياة زوربا غنية بكل الأفراح والأحزان التي تجلبها الحياة ويوقظ مثاله في الراوي فهما للمعنى الحقيقي للإنسانية.
فنجد زوربا الساخر دوما من كل شيء، خاصة الكتب حيث يقول لصاحبه الكاتب (باسل): " كتبك تلك أبصق عليها كلها، فليس كل ما هو موجود، موجودا في كتبك"، لقد استطاع الكاتب أن يجمع في الرواية شخصيتان متناقضتين فكريا هما (زوربا) والكاتب (باسل)...ولكن تجمعهما المصلحة المشتركة، لتوطد بينهما علاقة صداقة رائعة .
تناول الكتاب والفيلم حقيقة الإنسان الفرد، وذوبانه في روح الجماعة التي تقتلع جوهر بوحه الإنساني، العادات البالية، والطقوس الدينية وسطوتها وسيطرتها على الإنسان الهش والمتردد، والذي يتلظى بجحيم الشعور بالذنب...
إنها فلسفة كازانتزاكيس الذي ينتمي إلى جيل اكتوى بالحروب والثورات التي غيرت وجه العالم...لتصل لنا فلسفة زوربا بألوانها وخطوطها، "إذا أردت أن تعيش الحياة بامتلاء، فيجب أن تُحب، فاحذر أن تجرح قلب إنسان ذات يوم" ...
تناول الكاتب مفهوم الحب والرغبة واللذة القصوى، وحاول أن يشخص موقفه من المرأة كإنسان يستحق الحب والتبجيل، كما تحدث عن السعادة التي لا ندركها إلا بعد فوات الأوان، مثلما تحدث عن البؤس في الحياة أيضا، والذي يجعل الناس يحلمون، فإما أن تحقق لهم عيشا رغيدا، أو لا توقظهم من أحلامهم. هذا ما كان يوصي به رب عمله باسل. وحينما جادله الأخير بأنه يعيش حرا، رد عليه زوربا بمنطقه الحكيم:
"أنت لست حراً... فقط ربطت نفسك بحبل أطول من حبل الآخرين".
فالحرية تعني الذهاب حتى النهاية، إما الانتصار، وإما الجنون...لذلك كان زوربا مثالا للقوة الكامنة في الإنسان، والتي يستطيع من خلال استغلالها أن يروض العواصف التي تحاول إغراقه.
هذه واحدة من أعظم روايات الحياة في عصرنا ...رواية حققت شهرة دولية واسعة النطاق والاعتراف، حتى أصبحت تعد جزء من الشريعة الأدبية الحديثة، فى عالم الأدب.
(شريف الوكيل) .
إرسال تعليق