أحلام الماضي و كابوسية الحاضر في مجموعة "الجندي الأخير في جيش سقنن رع" للكاتب سمير لوبة



رؤية نقدية بقلم: كرم الصباغ

استهلال:

  تعد قصص الكاتب "سمير لوبة" في مجموعته "الجندي الأخير في جيش سقنن رع" قصصا شديدة الالتصاق بماضيها و حاضرها في الآن ذاته؛ إذ تستمد أصالتها وهويتها من ماضيها الجمعي و الذاتي، و هي في الوقت نفسه تعبر عن واقع وآلام وأحزان وهواجس وهزائم و انكسارات الإنسان . هي قصص غير تقليدية استفادت من تيارات الحداثة و ما بعد الحداثة في كتابة القصة رغم تمسكها بشروط القصة القصيرة كجنس أدبي له خصوصيته. 

عتبة العنوان:

    يطرح العنوان " الجندي الأخير في جيش سقنن رع" عددا من الأسئلة التي تتبادر إلى الذهن بشكل مباشر: من ذلك الج المعاصر ندي؟! ولماذا جيش سقنن رع بالذات؟! ولماذا اختار الكاتب تلك الحقبة من تاريخ مصر بالتحديد؟! إنها محفزات حيّة للولوج إلى نصوص المجموعة، ثم تأتي القصة الرابعة المعنونة بعنوان المجموعة ذاته لتجيب عن تلك الأسئلة، و لتلقي إلينا بطرف الخيط. فما الجند" سجاو" الذي سعى للثأر لأبيه ووطنه من أعداء استباحوا حرمة الأرض و الدم و العرض. ولقد اختار الكاتب من وجهة نظري التاريخ الفرعوني عامة، وحقبة الكفاح ضد الهكسوس خاصة؛ توقًا وشوقا إلى الجذور القديمة، حيث أسس المصريون حضارتهم الخالدة و ارتقوا بها في سنوات المدّ و الازدهار، تلك الحضارة التي صادفها فترات من الضعف والاضمحلال؛ فجاء الجواب الوطنيّ عمليا على يد "سقنن رع" أمير طيبة، الذي وحّد أمراء مصر تحت راية واحدة في وحدة و اتحاد، نحن الآن في أمس الحاجة إليها؛ فما أشبه الليلة بالبارحة، وهل أعداء اليوم إلا برابرة همجيون ديدنهم وقانونهم قانون الغاب؟! 

لقد أراد الكاتب من خلال عتبة العنوان أن يؤسس لثنائية ملؤها المواجهة بين ماضٍ تحدوه الآمال، وحاضر كابوسيّ تقبر فيه الأحلام. ولكي يبرز هذا التضاد السافر نقلنا نقلة مباغتة بين زمنين متباعدين متقابلين؛ لتكللنا الدهشة من تحول جندي جيش "سقنن رع" ذاته إلى مريض المشفى الحديث، وكأنما أراد الكاتب أن يعبر عن خيبة أمله في تحقق حلم الوحدة و الانتصار، فرتب صداما غير متوقع بين الماضي متمثلا في "سجاو" و الحاضر وما به من غلاء فاحش دلّ عليه سعر علبة سجائر ال"كليوباترا" في لفتة مشبعة بالسخرية و المرارة؛ و النتيجة التي خطط لها الكاتب هي أن يختار "سجاو" الموت بمحض إرادته، وذلك بتحسس موضع الرصاصة في رأسه. كأنما أراد الكاتب أن يقول في صرخة تحذيرية متشائمة: إنّ كل ما في هذا الحاضر المظلم إنما يعجل بالموت والنهاية لهذه الأمة العريقة؛ فلننتبه قبل فوات الأوان. 


ثنائية الضدين والخيط الرفيع الرابط بين قصص المجموعة: 

إن تلك الثنائية المتمثلة في الحنين إلى الماضي و الرسف و التخبط في أغلال الحاضر هي الخيط الرفيع الرابط بين قصص المجموعة؛ ففي قصة "صلاة العيد"، وفي قراءة محتملة كان الأب معادلا موضوعيا لتجليات الماضي بما يحمله من أنس وأمان، وكان الطفل الحالم معادلا موضوعيا للحاضر، فلا الأب عاد، و لا الطفل ظل على حاله بل استحال بغتة إلى شيخ ضعيف هرم في إحالة إلى ضعف واهتراء الحاضر، وفي إشارة إلى سرعة التحول و التقلب في العصر الآني، بينما روح الكاتب لا تزال لاتزال عالقة في الماضي تتنسم عبق الذكرى بمرارة و ألم. ثم تأتي قصة "على الهامش" لتؤكد كابوسية الواقع، وما يلقيه من ظلال ثقيلة على نفوس البشر، فها هو المهرج "حامد" يكابد الحر الغليظ ويجافيه النوم مكابدًا الأرق والقلق والاكتئاب/ أمراض العصر رغم كونه صانع البهجة ومهرج السيرك الذي لم تشفع له إنسانيته وعطاؤه في أن ينعم بالهناء والسعادة. وفي تراجيديا جلية يكابد "بلية" صفعات الأسطى/ قسوة الواقع دون ذنب اقترفه، وهو الطفل اليتيم الذي أجبرته الظروف على ترك دراسته، والذي اختار أبسط الأمنيات، أمنية لعب الكرة مع أقران الأمس؛ ليكون عقابه صفعة على وجهه تجبره على اتخاذ الرصيف الجامد أنيسًا و صاحبًا بعد أن ينفض الرفاق. 



الاحتفاء بالمهمشين: 

عمد الكاتب في مجموعته إلى أن يكون صوتًا لمن لا صوت له؛ فاختار نماذجا لشخصياته ممن ذبحهم الشقاء، وصبت عليهم الدنيا صنوف الهوان و الألم فوجدناه يصور معاناة المهرج "حامد"، وصبي الورشة "بلية"، والموظف "سلامة"، و صاحب "الأراجوز" العم "عليوة"، وعامل السينما "عماد"، ومجذوب الحارة، و حمّال وكالة الخضار، الفلاح و عامل المصنع، ولم ينس خارج هذا السياق أن يعبر عن معاناة الفنان التشكيلي، و البحار، وغيرهما ممن تبدو ظروفهم أحسن حالا.

الاتكاء على التاريخ و الأساطير: 

   اتكأ الكاتب على التاريخ و اعتمد على التناص في غير قصة فقد استدعى "بيدبا" و"دبشليم" نمل وخياشيم" و استدعى شخصية "سقنن رع" في قصة "الجندي الأخير في جيش سقنن رع"؛ كذلك لجأ إلى الأساطير الرومانية فاستدعى شخصية "أوديسيوس" وزوجته "بينلوبي" الجميلة في قصة باب البحر، محاولا إسقاط ما بهذا الماضي و ما بتلك الاساطير من إشارات و إحالات على واقعه المعيش. 

شعرية القص:

   تميزت اللغة بشكل عام بالشاعرية فقد جاءت لغة استعارية موحية تتكئ على التشبيهات المبتكرة والاستعارات اللطيفة إلا أنها لم تعق تدفق السرد فقد جاءت لغة رشيقة عذبة في متناول المتلقي العادي، فركون الكاتب إلى اللغة الاستعارية جاء تلقائيا بلا استعلاء أو تقعر.


براعة الوصف:

   لقد برع الكاتب في الوصف عن طريق رسم لوحات كلية تزدهي بالأجزاء المادية والخطوط الدالة على اللون والصوت والحركة. لوحات تنبض بالحياة تارة وتعبر عن المرارات والانكسارات والهزائم كسمة غالبة تارات. يقول الكاتب في قصة "الدنيا على جناح سلامة": "فإذا به يلمحها مع الصبية على الشاطئ وقد تزينت بالألوان، تداعبها النسمات تتراقص في دلال كلما تركوا لها الحبل على الغارب. لا تفلتها أيديهم رغم أنهم على الأرض وهي في صفحة السماء تتهادى. تحرسها الأعين، لا تحيد عنها. إن مالت، تميل القلوب معها، برباط لا ينفصم تتراقص فترقص معها أرواحهم". ويقول في قصة "أبيض و أسود ":"فإذا بعينين نجلاوين لمليحة في خمار أسود تسفران عن أنوثة طاغية تفج بهاء في الفضاء الأزرق، وهو الباحث عن الماء في صحراء أيامه". ويقول في قصة "عندما يأتي المساء":" مع صمته المعتاد يهوى السير في طرقات تتوشح سوادًا إلا من أضواء خافتة قد انعكست على مياه افترشت أرضيتها في الليالي المطيرة. يستحث الوقت المتثائب، يركب صهوة الخطى العرجاء"

التكثيف: 

اعتمد الكاتب على التكثيف الذي يعد من أهم مقومات القصة القصيرة الحديثة التي تعتمد على التكثيف البنائي و هو الاقتصاد في اللفظ و الإخفاء أكثر من البوح، وحذف الزوائد ويتضح ذلك في قصص: "صلاة العيد"، "بلية"، "من الشمس إلى الظل"، "الطائر المهاجر"، "لقاء"، "باب البحر"‘ وغيرها. و التكثيف الدلالي الذي يجعل النص مفتوحا على تأويلات عدة يتفاعل فيه المتلقي حسب رؤيته الذاتية و يتضح ذلك في قصص: "من الشمس إلى الظل"، "نمل وخياشيم"، "مقامة الشاب النحيف"، "وإنهم يزرعون الكراسي"، و "البرابرة في المدينة" وغيرها. و التكثيف السيكولوجي من خلال المونولوجات الداخلية و الصراعات النفسية وتتعدد أصوات الذات الواحدة عن طريق تفكيكها إلى مكوناتها الثلاثة الأنا و الأنا الأعلى والهو؛ فيسمع لكل مكون صوته الخاص. ويتضح ذلك في قصص "على الهامش"، "رسائل البحار السبعة"، "الدنيا على جناح سلامة"، و "أمطار في"، "أبيض و أسود"، "صلاة العيد"، وغيرها.

تنوع النهايات: 

   قلية هي الدراسات الأدبية التي اهتمت بالقفلة أو النهاية في الكتابة السردية، ومن أشهرتلك الكتب كتابي "القصة القصيرة جدا بين النظرية و التطبيق" ليوسف الحطيني و "شعرية القصة القصيرة جدا" لجاسم خلف إلياس و كتاب "البداية و النهاية في الرواية العربية" لعبد الملك أشهبون، هذا وتجدر الإشارة إلى أن "سميرلوبة" قد نوّع بين قفلات قصصه المتعددة فنجد ما يلي: 

1-القفلة السردية: 

من الطبيعي أن تكون نهاية القصة القصيرة سردية مادامت بدايتها، ومتنها سرديًا، والأصل في القصص أن تكون محكية ومسرودة ومن أمثلة النهايات المسرودة نهاية قصة "الدنيا على جناح سلامة"، حيث يقول: "يرمي القناع من النافذة، يضع الطائرة الورقية أمامه، و للمرة الأولى يطبطب عليه النوم بحنان؛ فينام هانئا" وفي نهاية قصة "الأراجوز" يقول: "انتهى العرض، ووصلت الحكاية إلى نهايتها؛ ينحني الأراجوز لتحية الفراغ، ولا يستقيم بعدها أبدا".

2-القفلة الفضائية: 

نعني بالقفلة الفضائية تلك النهاية المتعلقة بالزمان و المكان يقول في نهاية قصة "من الظل إلى الشمس": "تلتقط عيناه المرهقتان مشاهد الشارع الصاخب، وبحذر بالغ يجلس على الرصيف؛ لينتقل من الشمس إلى الظل" ويقول في نهاية قصة "الطير المهاجر": على شاطئ البحر تلتقط عدسات المصور جثة مسجاة لفظتها الأمواج بعد أن التهمت روحها، تتصدر جثة "عدنان" الصحف و المواقع، الآن وجد قلوبا تشفق و عيونا تدمع لحاله." وفي نهاية قصة "أبيض و أسود" يقول: " يمتزج الظلان ظلا واحدًا، بينما شمس الغروب تلملم أشعتها الحمراء، وإذا بكل منهما يسير في اتجاه عكس الآخر؛ فيتمزق الظلان." حيث انبنت القفلات السابقة على فضاء الشارع، و التراوح بين المكان المشمس و المكان الظليل، و القصة الثانية على فضاء البحر، والقصة الثالثة على فضاء السماء و الغروب و انعكاس الظلال على الأرض. 

3-القفلة الحواريًة:

 تستند على توظيف صيغة الحوار المبني على فعل القول بغية التعبير عن اختلاف التعبير عن وجهات النظر واستجلاء الفعل البوليفوني المتعدد أو اكتشاف الصراع الأيديولوجي كما يظهر في نهاية قصة "على الهامش" حيث يقول: " فيقدمها الطبيب إلى حامد قائلا:

- نصيحتي أن تذهب إلى ذلك العرض؛ ربما تتخلص من كآبتك، وتعود إليك ضحكتك؛ فتنام قرير العين هانيها. اعتدل حامد و هو يطأطئ رأسه متنهدا يقول: أنا المهرج نفسه. وفي نهاية قصة "نمل وخياشيم " يقول: – وماذا بعد؟ - واسفاه. ليس للنمل خياشيم. وفي نهاية قصة "لقاء" يقول: " – علام تبتسم؟ - على لقاء لم يتم." وفي نهاية قصة "سليم وعبد العليم" يقول: ياسليم، هل تسمعني؟ سليم زاعقا كفايه يا عبد العليم. ارحمني."


4-القفلة الشاعرية: 

ونقصد بها تلك النهاية ذات الطابع الشعري القائم على الصور البلاغية و المجازية و الاستعارية من خلال علاقات تكون في الغالب المشابهة كما يتضح في نهاية قصة "بلية" يقول: ربما وجد في الجماد رفيقا يلعب منه. (تشبيه بليغ و يلعب معه ترشيح للصورة) وفي نهاية قصة "طائر الكويتزال" يقول: "تطرح الأرض حجارة تزود عن أشجار الزيتون و طائر الكويتزال" (ثلاث استعارات مكنية متوالية).

5- القفلة الإنشائية: 

تنهي بجمل مبنية على تنوع أساليب الإنشاء الطلبي وغير الطلبي مقالا و مقاما وسياقا مثلما نجد في نهاية قصة "صلاة العيد": "هات يدك لأعبر بك الشارع يا حاج." وفي نهاية قصة "أمطار في يونيه" يقول: " أتمطر السماء في حزيران ، أم هي دموع الرثاء؟!" وفي نهاية قصة "قيدت ضد مجهول" يقول: هل من مجيب؟! وفي قصة نهاية قصة "فرسان ودروع" يقول: من بتر أصابعه؟! من فقأ عينيه؟! من ذا قطع لسانه؟! وماذا فعل ليستحق تلك النهاية؟!".

6-القفلة الساخرة: 

تنتهي بنهاية ساخرة تقوم على الفكاهة و السخرية و المفارقة و يتضح ذلك في نهاية قصة "على رأس الساعة" حيث يقول: " و الممثل حسن أتلة يضرب الفنان إسماعيل ياسين ببقايا جريدة مهترئة و هو يقول مين؟! سي لطفي." وفي نهاية قصة "مقامة الشاب النحيف" يقول: "وضاقت بالناس الدنيا وصعبت الأحوال، وكثرت في بلاد الغال الحمير و البغال". وفي نهاية قصة "الديوك باضت" يقول:" أمام الحظيرة صئي كتاكيت، نقيق دجاج، وصياح ديكة. يصيح الصغير أمي. الديوك باضت".

 وفي نهاية قصة "البالونة" يقول:" ألا تعرف الأستاذ عبد الرحمن أبو المكارم أستاذ ورئيس قسم اللغة العربية و له عشرات الدواوين الشعرية؛ فإذا بطفل يمر على الرصيف يلهو ببالونة، و فجأة ينبعث صوت من البالونة تسسسس." وفي نهاية قصة "شارع الحب" يقول: " ينتفض الرجل المشرد مغادرا الشارع و بصوت عال يصيح: ناس زبالة."
   


1 تعليقات

  1. شكرا جزيلا أستاذ كرم الصباغ
    لك محبتي وتقديري لشخصكم النبيل صديقي المبدع الراقي
    ممتن جدا

    ردحذف

إرسال تعليق

أحدث أقدم