موسى حوامدة: ما وددت أن أقوله عن عبدالناصر في ندوة نقابة الصحفيين 


حضرت ليلة أمس في نقابة الصحفيين المصريين حفل توقيع كتابي الدكتور عبدالحليم قنديل (حرب تحطيم الأصنام) و(عبدالناصر الأخير) وكان لدي ما أقوله أمس ولكن كثرة المتحدثين والمعلقين ونقل الندوة من قاعة إلى أخرى وحضور عبدالحكيم جمال عبدالناصر الحفل شخصيًا ربما جعلني أحجم عن الحديث كي لا أبدو مجاملًا.

وبعد خروجي من الندوة لامني الصديق محمود الشربيني، فشعرت بنوع من الندم أني لم أتحدث في الندوة وأتمنى أن يكون ما أكتبه الآن تعويضًا عن سكوتي ليلة أمس ..

 كنت أشعر بالإحباط منذ بدأ العدوان الص-هي-وني على الشعب الفلسطيني منذ عملية المقاومة والتي تم اختيار توقيتها بذكاء وربطها بحرب ال73 وحتى بتاريخ بدء عبور قناة السويس من بعض الإعلاميين في مصر مثل ابراهيم عيسى وأحمد موسى وعمرو أديب وغيرهم ومن بعض القنوات التلفزيونية العربية في تغطية الأحداث والتي انحازت للرواية الأخرى حتى وجدت د. عبدالحليم قنديل يتحدث إلى الإعلامي تامر أمين في قناة النهار وقد تمت استضافته في عدة حلقات وكان د. قنديل واضحًا صريحًا غير موارب في انحيازه للمقاو0مة الفلسطينية ومذ سمعته يقول من يقول لك ما لي ومال فلسطين كانه يقول لك مالي ومال مصر وفي كل حلقة يقدم د. عبدالحليم معلومات جديدة وحديث يدعو للتفاؤل والأمل بانتصار المقاومة رغم صعوبة الظروف التي تمر بها.

فصل د. قنديل بين جماعة الإخوان المسلمين والمقاومة أولًا ثم قال جملة عبقرية وهي أن جماعة الإخوان المسلمين والجماعات الدينية تستبسل في الدفاع حينما تشارك في المقاومة ولكنها تفشل في إدارة الدولة أي دولة ولم يتوقف كثيرًا أمام أسئلة الاعلامي تامر أمين بالانحياز للمقاومة والفصل بينها وبين جماعة الاخوان وهي الحجة التي تأخذها بعض الأنظمة العربية للوقوف ضد المقاومة بل إن بعض الدول العربية أدانت ما قامت به حم-اس 
ولدى سؤاله عن دعم إيران للمقاومة قال قنديل بوضوح نحن الذين سمحنا لإيران بالتمدد بسبب غياب المشروع القومي العربي والمنطق لا يقبل الفراغ وأن تخاذل العرب في دعم مقا-ومة الشعب الفلسطيني دفعته للبحث عن داعم آخر.
تنبأ د. عبدالحليم بفشل المشروع الصه-يوني في بلادنا - وهو الذي توقع سقوط نظام حسني مبارك عام 2005 وكانت قراءته دقيقة وصائبة واليوم في مقالاته وكتابه الجديد تحطيم الاثنام يتحدث عن انهيار الأصنام التي كان كثيرون يتوقعون صلابتها وقوتها وهو باختصار يتوقع انهيار نظام الفصل العنصري والاحتلال خلال سنوات ربما لا تزيد على الخمسة عشر عامًا.
في الكتاب الثاني عبدالناصر الأخير يقرأ مستقبل الناصرية من خلال وثائق حقيقية حصل عليها بعد هزمية حزيران أو نكسة ال67 وحتى وفاة جمال عبدالناصر وهو يقرأ هذه الوثائق بنظرة المستقبل ويكشف أن عبدالناصر نفسه كان الناقد الأول لبعض أخطائه وأخطاء الضباط الأحرار وثورتهم وحتى تفكيره بضرورة وجود حزب منافس وخطأ الاعتماد على حزب واحد.

لكني لم أكن لأتطرق إلى ذلك لو تحدثت وكنت سأروي مشاهد عشتها في بلدتنا (السموع) التي تعرضت لعدوان قبل حرب ال67 وتم تدمير البلدة وبيوتها وكيف غضب جمال عبدالناصر من تلك المعركة وطرد القوات الدولية من مضائق تيران.

لا توجد عائلة فلسطينية لم تكن تحب جمال عبدالناصر وتعلق صورته في بيتها المتواضع ورغم أن البعض يحمله هزيمة ال67 وضياع الضفة الغربية وقطاع غزة ولكن العشب الفلسطيني ظل مؤمنا بهذا الرجل لأنه صاحب مشروع تحرير وهو الذي دفع لتأسيس الثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير في الستينات هذا العشب الذي احتلت بلاده كان الأكثر حزنًا حينما توفي عبدالناصر وقام بعمل جنازات وهمية طيلة ثلاثة أيام.

وقد كتبت في الجزء الأول من سيرتي عن يوم وفاة عبدالناصر ما يلي:

يومَ وفاة جمال عبدالناصر 

صار بيتنا الجديد، في منطقة "الصفي" بعيداً عن العقد والدكانة، بل صار أبعد عن مدرسة البلد الرئيسية، وصرت أقطع مسافة طويلة جداً للذهاب من وإلى المدرسة، وفي الطريق كان لا بد من المرور من أمام دكان أبي، لكنني لا أذكر أنني كنت أذهب إليه لطلب مصروفي، وربما قضيت الصفوف الإعدادية، غالباً بلا مصروف، فإن أعطتني أمي أو عمتي شيئاً أخذت، وإن لم تعطياني ذهبت دون تردد، وأمسكت عن الأكل حتى عودتي إلى الدار، بينما كان شقيقي الأكبر، يملأ جيبه بالمصروف، ولا يقاسمني شيئاً منه، ولم أكن أسأله، او أطلب منه، أو حتى أغار منه، أو أحسده لأنه يأخذ مصروفاً.
 كانت الأجواء السياسية مشتعلة، وكان الناس يضعون آملاً على مصر، وعلى عبدالناصر، لرد الاعتبار وشن الحرب على اسرائيل، ورغم هزيمة حزيران، إلا أن الناس كانوا يعقدون عليه آملاً كبيراً، بل يحبونه ويعلقون صوره في بيوتهم، خاصة بعد أن بدأت الأخبار الواردة من الأردن، تشير إلى حصار الفدائيين في منطقة جرش، وطرد الثورة الفلسطينية نهائياً من الأردن، كنت أستمع للأخبار، في دار خالتي، وفي دكانة أبي، وفي كل مكان، فقد كان الناس يتابعون بألم ما يجري في عمان، وفي صباح يوم الثامن والعشرين من أيلول، وفي طريق ذهابي للمدرسة، سألني جار لنا، وهو أحمد علي عبدالله، صاحب البقالة التي تتوسط الطريق بين بيتنا في "الصفي" ودكانة أبي في حوش القرعان، (وين يا شيخ موسى)، ولما قلت له إلى المدرسة، قال (بدك تروح عالمدرسة وصاحبك مات)، ولا أدري لماذا فهمت فوراً أنه يقصد عبدالناصر.

 عدت مسرعًا إلى البيت، رميت حقيبتي ورجعت إلى وسط البلد، وبدأ الناس بالتجمع، وكان مشهداً تراجيدياً لا ينسى، فقد خرج أهل البلدة عن بكرة أبيهم، وهناك من قام بجلب عربة، ووضع عليها نعشاً وهمياً، ملفوفاً في بساط بلدي، وطافت الجنازة شوارع البلدة، وانتهت عند المقبرة القديمة، وتجمعت النساء، وهن يبكين، فوق القبور بحرقة لم أرها من قبل. 
  رأيت مشهداً لن يزول من ذاكرتي، فقد كان الرجال يبكون، بينما النسوة يشققن ثيابهن، ويلطمن وجوههن وهن يندبن، ويصحن ويطلقن زعيقاً مخيفاً، ويغنين غناء حزيناً، ونادرًا ما تخرج النساء في بلدتنا في الجنازة حتى لو كام المتوفى من أقرب الناس لها، ولمدة ثلاثة أيام متواصلة، ظل المشهد يتكرر، وشعرت أنهم يقيمون موسما لتشييع إله، كما كان يفعل أجدادنا قديماً، وهم يدفنون أدونيس، الذي قتله الخنزير وسال دمه فنبتت شقائق النعمان الحمراء، وظلت المظاهرات تخرج يومياً في البلدة، أما الطفل الذي كانوا يرفعونه، على أكتافهم ويهتف بالشعارات التي تبكي عبدالناصر، وتحيي عروبة مصر وفلسطين، فكان أنا.

بعد الأيام الثلاثة، بحَّ صوتيً، وفي اليوم الرابع اختفى تمامًا، ولم أعد أستطيع النطق، فقالت لي عمتي آمنة، (ضيعت صوتك يا عمتي، وشو نابك، اللي مات مات)، لكن أمي كانت متأثرة لموته جداً، وكانت تقول لن تقوم لنا قائمة، راح أبو خالد، فردت عليها عمتي، راح راح شو نسوي له، ما فلسطين كلها راحت.

نسيت القول أنني أحترم جدا عبدالحليم قنديل واعتبره صاحب موقف ورؤيا وما رأيته يوم أمس من حجم المحبين له لم يفاجئني بل أسعدني ربط ما يحدث في غ ز ة اليوم بعبدالناصر فهو لم يتخل عن فلسطين بل تعلم من حربها الكثير وكان مؤمنا أن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغيرها ولعل ما يجري اليوم وغدا سيؤكد حلم عبدالناصر ونبوءة عبد الحليم قنديل.

Post a Comment

أحدث أقدم