حكمة الجنون

بقلم: سيد لوكيل

 

ننظر دائماً إلى الجنون بوصفه تلك الحرية المعتمة التي تهدد الوجود وتبعث الفوضى في أرجائه، إنه رأس فارغ وجمجمة فاسدة، خالية من أي حس مشترك.

تلك النظرة بالتحديد، هي ما أدت إلى التاريخ المأساوي لكل ما تم التعارف عليه، ومن ثم وصمه بالجنون. ولكي نتعرف على هذا الموقف الأخلاقي والتاريخي من كل ما تم وصمهم بالجنون، نعود إلى الجذر اللغوي لكلمة جنون، فهي مشتقة من الأصل اللاتيني follies  ومنه اشتقت كلمة مجنون fol والتي تعني كيسًا أو بالونًا منفوخًا بالهواء تتقاذفه الرياح هنا وهناك. وقد رأى القدماء أن الجنون هو أسوأ مصير يمكن أن يذهب إليه الإنسان. هذا ما وصلت إليه (هيرا) الإلهة الإغريقية التي راحت تطارد هرقل، بكل ألوان الابتلاء والرزايا.

كان هرقل ابن الإله زيوس من امرأة بشرية، فحمل في روحه وجسده شيئاَ من الإلوهية، وشيئاً من البشرية، وكانت هيرا تعرف أن البشرية هي نقطة ضعفه، لكنها لم تقدر حجم القوة الحقيقية للعقل البشري، ففي كل المحن التي وضعته فيها، كان هرقل يخرج منها منتصراً، بل وأكثر قوة مما قبل، هكذا لم تجد هيرا بداً من أن تصيب هرقل في عقله، فضربته بلوثة جنون، حتى أنه قتل أبناءه دون أن يدري.

عبر تاريخ البشرية، ارتبط الجنون بالخطيئة، بوصفه عقابا ينزل من السماء على الخطاة، وهذا يفسر لنا البعد الغيبي في تصورنا للجنون، ولذلك سنسمع كثيراً من حكايات القتل والتعذيب والحرق للمجانين، فهم ممسوسون بمس من الشيطان، تتلبسهم الأرواح الشريرة، وفي هذا السياق فإن بعض العباقرة الملهمين الذين غيروا التاريخ، اتهموا بالجنون ولاقوا نفس المصير.

 إن أصحاب التفكير الجانبي، أو الاستثنائي المتمرد عن السياقات النمطية، طالما تعرضوا للقمع والملاحقة. فقد اعتقد العبرانيون أن (يهوه) إلههم الجبار، كان يرسل المرض ليعاقب به خلائقه، وماذا يكون العقاب الأمثل إلا الجنون؟ فهو أقسى أنواع العقاب الذي لا براء منه إلا بالقتل والسحق والحرق.  نقرأ في سفر الأمثال ما يلي "إذا ما سحقت معتوهًا بالهاون بين الحبوب، فإن جنونه لا يحيد عنه" (سفر الأمثال 12، 17)

ولكن عن أي جنون نتحدث؟ هل هو الخلل العقلي، أم العصاب والذي يتمثل في الأمراض النفسية المختلفة، أم الجنوح عن المسارات الفكرية النمطية والمعبدة من قبل، والذي كثيراً ما يسمى بالإبداع؟ وهل لهذا الأخير علاقة بالجنون المرضي؟ وكيف يمكن أن يتحول الجنون المرضي إلى طاقة إبداعية؟

 لكي نتعرف على الإجابة لمثل هذه الأسئلة، من الأفضل أن نراجع  بعض حالات من المبدعين الذين وصفوا بالجنون، وعانوا أمراضًا نفسية وعقلية عميقة، فبتهوفن صاحب أعظم سيمفونيات مرت على تاريخ الموسيقى كان يعاني من اضطراب نفسي خطير، يسمى اكتئاب ثنائي القطبين، وهو مرض ذهاني، حسب تقسيمات الطب النفسي الحديث، نوع من الاكتئاب الحاد الذي يسبب نوبات من الحزن العميق، أو الفرح الهيستيري غير المبرر، لكنه يزيد من الإنتاجية الإبداعية لصاحبه، كما كان الرسام الهولندي (فان جوخ) يعاني من نفس المرض، ولعل هذه المعاناة كانت محفزة لخياله الخصب، الذي جسدته لوحاته العديدة، والمتأمل للوحاته عن الطبيعة، يراها تتراوح بين حالات من الفرح، والبهجة المشمسة، والحزن القاتم على نحو ما نرى في لوحة (ليلة النجوم) التي رسمها بعد خروجه من المصحة النفسية بأسبوع واحد، كما أن الهوس الاكتئابي كان مسئولاً عن الانفعالات العاطفية التي دفعته للعكوف على رسم عمال المناجم وتصوير بؤسهم، حتى أنه باع ملابسه من أجل إطعامهم، غير أن هذه النزعة الانفعالية كلفته أذنه اليمنى، كما كلفته آلاماً مبرحة جراء المشاجرات التي كان يتورط فيها.

كما أن العالم الفيزيائي، إسحاق نيوتن، صاحب قانون الجاذبية الذي وضعنا على عتبات الفضاء الكوني، كان أيضاً ممن يعانون من الاكتئاب ثنائي القطبين، بالتأكيد هو خيال مجنون، ذلك الذي تساءل محتجاً على قانون الطبيعة البدهي (لماذا لا تسقط الأشياء إلى أعلى؟) 

 هناك أيضًا أمثلة لا حصر لها من المفكرين والمبدعين في عالمنا الحديث، حيث يرى علماء النفس أن السبب في هذا هو الحساسية المفرطة، والإدراك الحسي فوق الطبيعي الذي يتمتع به المبدعون، والعباقرة، الذين يقفون على حافة الجنون.

يرى ميشيل فوكو، أن الأذهان عند المهووسين، تتحرك بعنف، فهي قادرة على الدخول في سبل لم يسبق أبدًا تعبيدها، وأن هذه السبل الجديدة تقتضي مساراً فكرياً غريباً، وحركات مفاجئة وخارقة للعادة. ولكن هل معنى هذا أننا أمام خيار واحد بين اثنين؟ أن يكون الجنون سبيلاً للإبداع، أو نبقى أصحاء عقلاء بلا إبداع؟

فإذا كان الجنون حسب ما رآه كارل جوستاف يونج هو الغرق في هوة اللاوعي والتماهي مع صوره البدائية، مما يؤدي إلى الانفصال التام عن الواقع الخارجي وفقدان القدرة على رؤيته، ومن ثَمَّ، فقدان التفكير المنطقي المترابط، فإن الانحباس داخل الرقعة المسطحة للوعي، وأقصد هنا التفكير المنطقي فقط، هو نوع آخر من الحماقة والتحجر والانفصال عن القوى الحيوية التي تشحن الإنسان بالطاقة الحية.

 يرى كارل يونج أنه إذا سبح المرء على السطح الأملس للوعي، دون الانتباه إلى الأعماق الخفية لوجوده، والتي هي منبع الطاقة الحيوية، سوف يصاب بالجمود والتحجر، فالإنسان المكتفي بالمرئي فقط، إنسان ضجر، مختنق، قابل لانخفاض الطاقة الحيوية لديه، في أصغر الأمور وأتفهها. الوعي العقلي فقط، نوع من الصمام الذي يفصلنا عن القوة الكاملة لتيار الحياة الكامن داخلنا.

الكتاب الأحمر، هو اسم الكتاب الذي أنهاه عالم النفس الشهير كارل جوستاف يونج قبل مماته بسنوات، ثم حظر نشره. وظل هذا الحظر لخمسين عاماً بعد وفاته، حتى أفرج عنه ورثته. يعترف يونج بأنه مر بحالات من الهلوسة البصرية، رأي فيها أخيولات مرعبه، فظن أنه الفصام والذهاب إلى طريق الجنون بلا رجعة، لهذا عكف على متابعة وتسجيل ملاحظاته عن هذه الحالات، ومراقبتها.

 عالج يونج مئات المرضي النفسيين، ثم مات ولم يعرف أن كتابه الأحمر، أصبح أهم وأبرز الكتب التي صورت حالات الجنون الإبداعي، التي ذهبت به إلى الماضي السحيق، من البدائي والأسطوري، والذي لا تواتيه الجرأة على الصعود إلى منطقة الوعي، لما فيه من جنون وعبث ووحشية ولا منطقية، وحيث لا يستطيع أي إنسان أن يحدق في ذلك الرعب، إلاَّ بعد رحلة طويلة من التنقيب والبحث والسقوط أيضاً، فهو ضرورة للقيام من جديد.

 إنها ليست رحلة ترفيهية بالتأكيد، فأن تُجبر على أن ترى المرعب الذي بداخلك، هو أول مراحل الرؤية والبصيرة، هو أول خطوة من خطوات الشجاعة وصدق الروح معك.. أقول صدق الروح معك، وليس صدقك مع روحك كما التعبير الدارج، فأنت كاذب طوال الوقت، مبرر طوال الوقت، تحتال على ذاتك بكل الصور. لن تحرز شيئًا من حقيقتك، إلاَّ إذا تحليت بالشجاعة وأنصتَّ إلى روحك، فتلك العارية المتوحشة لا تكذب أبدًا وهذا بالتحديد ما فعله يونج في الكتاب الأحمر.

 يعتبر الكتاب مجموعة من الحوارات الداخلية مع الروح، والتي تجبره على إزاحة المنطق وكل حيل العقل. هكذا يبدو الجنون مقدساً، ودربا من دروب الحج الروحي عند يونج الذي تحول –هو نفسه- إلى متصوف كبير، حتى أنه كتب على باب بيته ( الله موجود) ليومئ إلى مخالفته التاريخية لأستاذه فرويد.  المغزى أن جنون يونج أوقفه على عتبات المجهول والغيبي، فانتهى به إلى الإيمان.

إن المنطقة السفلى والمجهولة في وجود الإنسان (اللاوعي) هي ظله وشرط وجوده الحي، لكن هذه الظلال، كائنات شائنة، شائهة، ومرعبة أيضاً، لكن التحديق فيها هو دال الشجاعة وسبيل المعرفة بالذات، وهذه المعرفة بالذات هي طوق النجاة، إذ عليك أن تصنعه بنفسك، لتنجو بنفسك عندما يلقيه إليك بحّار ما.    

  تلك هي المسألة. الالتحام بظلك الداخلي، هو ما ينتج المعنى الفائق ويعثر على حقيقة الحقيقة. ويؤكد هذا المعنى أيضًا د. يحيي الرخاوي، حيث يرى أن عملية تحريك وقلقلة وتنشيط ذلك المغمور في مناطق اللاوعي البعيدة، والمجهولة يهدد بتناثر وتفسخ الشخصية وهو ما نسميه الجنون، ما لم تكن هناك مسارات مفتوحة في الوعي لاستقبال هذا الغريب والشاذ، ثم العمل بعد ذلك على استيعابه، ثم الالتحام به، ومن ثمَّ إدخاله في المنظومة الكلية للشعور والتفكير.

ما يعنيه الرخاوي أن الجنون هو جزء فطري، وحي في الطبيعة الإنسانية، ونكرانه هو ما يؤدي إلى مزيد من الحماقة والجنون المطبق، فرفض الجنون يضاعف من حجمه، والاعتراف به أول خطوات تحديد مساراته، ومن ثم إدخاله في المنظومة الكلية للشعور فتنتج الشعراء والفنانين، أو إدخاله المنظومة الكلية للتفكير فتنتج العلماء والعباقرة.

طبقًا لتقسيم الدكتور يحيي الرخاوي، هناك ثلاث حالات للوعي، وهي: العادية والجنون والإبداع. ولابد للإنسان أن يتراوح بين الثلاث حالات، لأن الإفراط في العادية وحدها يؤدي إلى جمود وتحجر الشخصية التي لا تستطيع أن تضيف شيئًا للوجود، والجنون وحده هو حالة من تفسخ وتدهور الشخصية، والإبداع وحده هو ما يؤدي لتشنج الشخصية، إذن فالاكتفاء بحالة واحدة فقط، هو ما يؤدي إلى الشلل والتوقف، حتى لو كانت النتائج أعمالًا يقف عندها التاريخ.

المقصود أن المبدع يستطيع أن يبلغ السواء، دون أن يكون ثمن الإبداع جنونًا مطبقًا يطيح بشخصية المبدع كما رأينا في حالات كثيرة من المبدعين، والعادي يستطيع أن يكون مبدعُا، دون أن يُجن، فالفطرة الإنسانية تقضي بأن يتراوح الإنسان بين الثلاث حالات كما ذكرنا، هذا ما يؤدي إلى تطور الحياة وتطور البشر وتطور التاريخ.

يقول ميشيل فوكو: "جنون حكيم، ذلك الذي يقوم باستقبال جنون العقل ويستمع إليه، ويعترف له بحقوق المواطنة، ويقبل أن تتخلله قواه الحية، ومن خلال ذلك يحمي نفسه من الجنون".

الخلاصة هي أن نقبل نقصنا وخطايانا، عندئذ سنرى أنفسنا بعمق، وندرك هويتنا. 

 

 

 

 

 

 



Post a Comment

أحدث أقدم