قراءة في رواية الهامسون للكاتبة هالة البدري.
بقلم: رشا عبادة
لماذا تحلو الروايات التي أقرأها مؤخرًا!؟
ربما تلعب النوايا الطيبة دورها، وعقدة سوء حظ القارىء التي انفكت تُؤتي أُكلها-اللهم لا حسد-.
تخيل أن وشمك أمنية تتحقق بالفعل؟ تكتب على ذراعك مثلًا"يارب مليار جنية والنبي"، فيتصل بك أستاذ كفتة المحامي بعد أسبوع؛ يخبرك إن عمك الملياردير في جزيرة هندية غامضة، مات فجأة و وجدوا تحت الطوبة المبشبشة التي تسند رأسه ذهبًا وياقوتًا ومرجان!
وكأنك تهمس للكون شيئًا يتحقق.. تصنع من الجلد مقامًا تتبرك به وتتواصل من خلاله مع الرب.
( للكون وعيه الخاص، العالم كله حالة كهرومغناطيسية، علاقات هندسية).
(ربما هنالك ما هو فوق إدراكنا. قد يحقق لنا الكون ما نتمسك به بشدة ونتحمل بسببه الألم)
لا أعرف إن كان الوشم حلوًا أم منفرًا بشكل شخصي، تصيبني رؤيته بالحيرة، أجرُ عقلي في محاولة تحديد شفرته ودلالاته وتصورات عن شخصية صاحبه، وكثير من التردد لو أتيحت الفرصة، لكن شخوص الرواية يربطهم الوشم، يتفتح على أجسادهم ثم ينمو ويخبو ويثمر ويذبل ويعيد الكرة؛ لينتقل السؤال عن سره من المُندهش للمتورط وربما من الثائر للمُستكين.
العلاقة بين الألم وإثبات الذات عميقة رغم غرابتها، وكأن للوشم دون مخدر دورًا في إظهار الشجاعة وإثباتها فيصبح للانتصار على الألم لذة ونشوة.
في خلفية موازية عن محبي الوشم؛ أراهم مجموعة من المتمردين على كل ما يبدو عاديًا، الوشم جزء من الرفض، والرفض بداية ثورة والثورة يمكن أن يصنعها أفراد في أماكن متفرقة تجمعهم الطريقة ذاتها في التعبير عن الظلم أوالحُب أو الانتماء والوطنية.
لم أرَ هالة البدري ترقص؛ ربما مرة واحدة جمعتنا فيها الصدفة النسائية تمايلتْ بهدوء حبة رمان شهية لا تنفرط حباتها أبدًا، لكنها وبكامل حيوتها تخلق على جسد بنات الوشم ثورة ناعمة ترقص على كل النغمات القديمةو المعاصرة، فتبدو الصورة للبنت"هنية"بذيل الحصان وحقيبة المدرسة، عائدة من مدرستها تغني" نار نار نار وأنا قلبي قايد نار، وحبيبي فايتني في نار"، وسرعان ما تنقلب الفرحة والشقاوة لوجع وفراق يغنيه فريد الأطرش :" قدام عنيا وبعيد عليا مقسوم لغيري وهو ليا"! ثم الفرح المخلوط بالذكريات على صوت جابر العزب يغني:" خذوني يالله معاكو يا زوار النبي أنا نفسي أزور وياكم بالصلاة على النبي".
وشدو عليا التونسية" على اللي جرا من مراسيلك عاللي جرا.. بس أما تيجي وأنا أحكيلك على اللي جرا".
وصوت الناس يغنون:"قولوا لعين الشمس متحامشي لحسن غزال البر صابح ماشي".
الوشم ثراث طويل من الجذب؛ الأمنيات والدلالات والرموز..التاريخ أيضًا تراث لا يموت؛ تغوص هالة في طرقاته، ضجيج الزحام، ووسوسة الزمن ورطوبة الحواري الضيقة ومحلات الحلويات والحمص وأقفاص الخضار والفاكهة، تحملُك معها أو تخبؤك كاكاميرا صغيرة داخل السرد تتلصص على الحدوتة، فيصبح الحكي عنه ممتعًا أكثر من المشاركة فيه.
زمن الرواية يسبق ثورة يناير مباشرة، والإهداء"للورد اللي فتح في جناين مصر"، إشارة واضحة لصناع ثورة يناير بكامل طهرها وبرائتها التي امتدت بحرفية داخل الراوية لتظهر حية على أجساد بنات الوشم الأربعة"هنية، عفاف، كامليا، دميانة" اللواتي تختلف ثقافتهن وطبقاتهن الاجتماعية، والدين ومكان المنشأ وطبيعة الأسر، ونوعية الأغاني المفضلة التي لا تهدأ أبدًا في خلفية السرد،لكن يجمعهن تاريخ طويل موشوم على أجسادهن بأسماء صانعي التاريخ والأبطال الشعبيين وأنبياء الوعي وسجناء الرأى والمقاتلين في صفوفها الأولى" سليمان خاطر، إبراهيم ناصف الورداني، وسعد إدريس حلاوة.. مجنون مصر الجميل، ومبروك إسماعيل الفنان العالمي الذي يهمس للصلصال فتدب فيه الحياة. ومحمود على كمال، نجيب محفوظ، فرج فوده، خليل عبد الكريم، ملك حفني ناصف، هدى شعرواي، نوال السعدواي، سميرة موسى".
انتبهت لملامحي التي تتبدل في المرآة فيما أبحث عن أسماء بعينها على الإنترنت ويبدأ وعيٌ جديد يتشكل بالقراءة.
-الزار مسرحة للأسطورة وطقوسه شعائرية درامية راقصة، كانت في الأصل توسل من البشر للآلهة كي تدفع الأضرار عنهم.. يبدأ الزار فيهتز جسد "كامليا" وسط البخور والشموع والحنة وماء الورد والكودية تغني:" تيك تيك تيك ..تيك تيك مين.. تين على موز.. لا موز على تين".
تمتلأ الرواية بالشخصيات النسائية،بوابات عبور، وبنات أحلام ،وأرحام وأمهات و ومقهورات تحت سطوة الجهل والفقر وغجريات يمارسن حرية الحياة، لكن وعي الذكور كان فارقًا، رغم سطوة خالد البطل والباحث في الدكتوراة، أحببت "عباس ماهر"المسرحي المعارض-زوج كامليا-، نموذج الزوج المحب والمثقف المبدع صاحب المبدأ الذي تقهره قيود السلطة.
-هل كانت الجدة"قمر الزمان"راقصة غجرية؛ نفاها محمد على باشا إلى الصعيد مع الغجر، وما علاقتها بكاوتشوك هانم الراقصة التي أثارت خيال الكاتب فلوبير وذكرها في خطاباته إلى صديقته وحبيبته الشاعرة لويز كوليه؟-اقرأ الحوار المُتخيل البديع في صفحة182 بين فولبير وقمر الزمان-
الحكاية التي ينكشف سرها في الصفحة 142 لم تنتهِ، ما بين غبشة الصبح وغموض الليل تبدأ أسرارً جديدة، يتناقلها هامسون جدد..
-من يسامح مَن، الآباء الحالمون الذين استبعدوا عن عمد وشاخوا في انتظار أن يصبحوا ملوكًا، فإذا ما مات الملك وجدوا أنفسهم نسخة طبق الأصل منه أم الأجداد الذين تصالحوا مع النظام الذي سجنهم لأنه أمم ثروة الأغنياء ونصر الفقراء وبنى المصانع ونشر الثورة وحقق للمجتمع رؤيتهم له؟
-لم تستخدم هالة تعبيرات معتادة مثل "القلة المندسة الأجندات" لكنها ظهرت واضحة في الاتهامات الهشة التي وجهت لبنات الوشم-بوابات الهامسون للعبور-.
-أن يصبح جسدك وسيط ثورة بين جيلين؛ ينقل رسائل الهامسين لأجيال لا تعرف عنهم سوى حقائق مشوهة، لم تكتمل دائرة البحث عنها.
قدمت هالة البدري المنتمية لنفسها ولما تحب وثيقة بحث أدبية عن حقيقة صناع الثورة الأوائل، الرافضون والنابضون، سجناء الرأي والمفقودون.
-يتأخر ظهور البطل فينتخب الناس بطلًا يتمتع بكل الصفات والشروط التي يحلم بها الضمير الجمعي للبسطاء؛ ليحقق لهم أحلامهم وآمالهم في القضاء على الظلم والخيانة والفساد، يختار الناس الأبطال الشعبيين لينوبوا عنهم في الثأر من المجرمين العتاة والانتقام ممن أذلهم وظلمهم، معادلة أدبية شعبية لإعادة التوازن إلى الكون، وخلق نوع من الاتزان الداخلي يعيد إلى نفوس الفقراء السكينة والهدوء والطمأنينة، ويخلق خيالا عادلا بديلا لواقع ظالم وغير منصف.
كقارئة دبة كسولة تحتاج لمحفزات جاذبة تشد شعرها للبحث عن معلومة ، سجلت أسماء وتواريخ وأحداثًا لم أكن أعرف عنها سوى عناوين قصيرة ساذجة واستمتعت بذاكرة جديدة تتشكل، ربما كان هذا الهدف الأصلي من رواية هالة البدري" الهامسون" الاستمرارية يضمنها الوعي، والمتعلمون على اختلافهم في الراوية صنعوا نقاطًا فاصلة في البحث عن المعلومة كما ظهر في شخصية "عفاف".
وربما لم تزل هالة البدري كعادتها مشغولة بالكون تلضم التراث بالأساطير بالحقائق بالتاريخ وتقدم جهدًا تُحسد عليه-الله أكبر من عين اللي يقرأ ولا يصليش على النبي-
أحبُ الكون حيت تتحدث عنه هالة البدري في رواياتها، يمنحها إذن خاص بالدخول فينكشف بنعومة بين حروفها، وتبدو أسراره واضحة كالشمس وناعمة كحقيقة طيبة. تقدمه عفويًا مع مبررات التكيف والقبول فيصبح القارىء جزء كبير من كلٍ أكبر، بالونة وعي تنتفخ ثم تطير بصاحبها لزاوية رؤية جديدة لتفاصيل الحياة.
إرسال تعليق