أنت لا تعرف جدتي جيداً.
أن تكون كذاباً كبيراً.
بقلم: وحيد الطويلة
كنت في ندوة، نقرأ شهادات عن الكتابة، اقترب مني ولم أكن بارحت مكاني، قال:
شهادة فاتنة، كنت أعتقد أنك ستلقي كلمتين عن جدتك والسلام.
نظرت في عينيه بقوة وقلت بحسم: أنت لا تعرف جدتي.
جدتي إحدى بطلات رواية ألعاب الهوى، مات عنها زوجها بعد ستة أشهر فعادت لحضن أبيها، لم تنتظر سوى عدتها لتتزوج ثانية، تتعامل مع الزواج كمزحة عابرة في منطقة تعتبره ضرورة، منطقة يبدو أنها تكونت بعد أن تمت الأرض، لفظ موحشة غير دال على طبيعتها، لا كهرباء لاماء لا طريق واحداً يوصل إليها في فصل الشتاء، طقس ممطر بشراسة، لمائة يوم متعاقبة ومثلها متقطعة، منطقة وسطى ما بين الجنة والنار على غير ما أفتى نزار قباني، تختفي الحياة تماماً بعد الساعة الرابعة، تتركها لليل يرتع فيها بضراوة، يستولي على معظم الوقت، وغبش يركب الفضاء من تباشير الصباح حتى قرب منتصف النهار، كان من الطبيعي أن تسمى المنطقة باسم الغبايشة.
أرض مالحة لا تنتج غير الشعير وأخوته، والقمح والأرز بالكاد، على الطرف البعيد البائس لبحيرة لا تتعطف عليهم بخيرها من الأسماك إلا بما يكفي الحاجة أو ينقص..
قلت ليس هناك طريق واحد صالح منها وإليها، لذا فتحت أجنحتها واستقبلت المطاريد الهاربين من جرائم الثأر في الصعيد ولكل الهاربين من الحكومة وبالطبع لكل الخارجين عليها.
أرض تكدس فيها اللصوص والخائفين من كل أنحاء المحروسة، ولم تطلهم يد، لم تستطع، شيئاً فشيئاً هدأوا وتناسوا وكونوا مجتمعاً من اللصوص، صنعوا له قانوناً ولا قانون حمورابي، صنعوا أسطورتهم الخاصة بهروبهم من الدولة وكونوا دولة أخرى لا ينقصها سوى الخرافة، صنعوها بخيالهم، أكملوا أسطورتهم ثم أسندوا إليها ظهورهم وارتاحوا.
أرض خام، حين يقول لك واحد إن الذئب يدلل ابنه هناك فصدقه، يخرج الرجال ينصبون شباكهم في البعيد البعيد فوق الماء، ليصطادوا طيراً أتى للأمان والدفء فاستدفأوا به، ولم ينسوا أثناء صيدهم أن يقتلوا بعضهم البعض، وأن ينتقموا من القتل نفسه بالغرام بالحياة.
أطلق أحدهم النار عى آخر، هرع مساعد الأخير إليه، لم يحاول أن يحبس الروح التي توشك، أو يمنحه شربة ماء أخيرة قد تنقذه، بل ليفتش في جيوبه عن كفوف الحلاوة التي منعه منها وتمتع بها وحده واستدفأ بها وحده من برد كبرد جهنم.
أرض ليس بها ملاك واحد، فالملائكة لا تعيش في البرد، ليس سوى عفاريت من الجن رأوها وعاشروها أو صنعها خيالهم من جرأة الطقس.
يخرج الرجال، أعمارهم على كف عفريت أو ثأر، يتركون النساء على صفيح الشوق والتوتر، من يخرج قد لا يعود، كان لا بد من الغناء، الغناء في مواجهة الموت، غناء مشحون بالشجن، بالنداء، بصوت قصير في الأولى، وطبقة طويلة في الثانية، لكن جدتي كانت تريد الغناء للحياة، تتنظر مغنياً طريداً يأتي للمنطقة خوفاً أو طمعاً، تستضيفه لشهر أو اثنين في بيتها ليغني لها في الصباح، ويقص عليها الحكايات في أول الليل، وعندما تنتهي من صلاة الفجر تسألنا عما حكى الراوي، كلنا هربنا من غرف أهلينا لنلتحق بلحافها وحكيها الدافئ، وأنا صغير ، أنا الأصغر، أولاد وبنات عمي الأكبر يعيدون ما سمعوه يكملوه لبعضهم البعض، لا يتبق لي شيء من الحكاية، هنا أروح أحكي ما تخيلت أن الراوي قد نسيه أو ما كان يجب أن يقوله، تصفن جدتي للحظات وتقول لي وحدي: أنت كذاب.
قلت لك أنت لا تعرف جدتي.
تعرف فقط أنها تزوجت ومات زوجها سريعاً، لم يك أحد يناديها باسمها، ينادونها العروسة، وحين تزوجت ثانية يقولون العروسة، انطمس اسمها الحقيقي، غاب تحت وطأة زواجين متعاقبين، وصار اسمها جدتي عروسة.
يغيب المغن، فلا تجد أحداً سواي، استسلمت وهي تخفي ابتسامتها، لم تعد الحكاية الحقيقية تهمها، شيئاً فشيئاً صارت حكايتي هي الحقيقة نفسها.
استسلمت، كان علي تأليف الحكايات حتى يمر مغن آخر، استسلمت ثم غنت معي.
صنعت مما سبق أجواء لرواية ألعاب الهوى، ظل عزرائيل يطارد عمي عشرين عاماً، وعندما وقف على ميزان الحساب تعادلت كفتا العمل الطيب والأعمال السيئة، عاد مرة أخرى للأرض يبحث عمن يقرضه حسنة في العائلة، رفضت جدتي أن تمنحه حسنة رغم أنه قال أنه وجد أمامها سبع قفف ملآنة بالحسنات، لكنها لم تتركه يعود خالي الوفاض، قالت له اذهب لوحيد.
.. وحيد ليس عنده حسنات وربما يدخل الجنة بصعوبة إن دخل.
قالت وهي واثقة سوف يؤلف لك حكاية تمنحك حسنة إضافية.
عشرون عاماً وعزرائيل يطارد عمي، وأنا أؤلف الحكايات محاولاً البحث عن واحدة تدخله الجنة.
نام جدي في غيبوبة طويلة، لا يعيش ولا يموت، وفي قلب الغياب يستيقظ لثانية لا يفتح عينيه، لكنه ينادي فجأة على أحد أعمامي، كأنه يدعوه لعمل شيء ما، كان يجب أن يظل نائماً حتى نهاية الرواية، لكن عقلي غلب الفن وجار عليه فأيقظته في النهاية ليطرد الصراصير والفئران.
قال لي الأبنودي المفتون بألعاب الهوى: احك لي قصة الرواية الجديدة" أحمر خفيف"، قلت أي كلام مما سبق، صمت برهة وقال هل هو الشعب المصري؟
قلت نعم، كان ذلك قبل الثورة بثلاث سنوات، ولا أدري إن كانت إجابتي توافق ما في داخلي، قال: أنت تكذب؟ قلت نعم.
قال لكنه كذب جميل.
في قصيدته كان يقول: والشعر كذب الحياة، واشمعنى أنا اللي هأشذ.
حين اختلفت الحياة قليلاً كانت إذاعات سوريا ولبنان وحتى إسرائيل أقرب إلينا من إذاعاتنا، تعرفت عبرها على غناء آخر بلهجات أخرى، لم أكن أعيدها بين أقراني في القرية، سيسخرون مني على الفور، كنت أعيدها لأمي التي اكتشفت أنني أعيد تمصير بعض الكلمات حتى تفهمها، كانت تقول: جميل لكنك تكذب وتحرف أحياناً.
في تونس كان أقراني يسهرون في الفنادق برابطات عنق أنيقة وأنا هارب في الأفراح الشعبية، أسمع وأحفظ بل وأؤلف أغان على يدي، يقولون ماذا يفعل هذا المقجول المهبول، يترك جلسة الدبلوماسيين ليعيش مع الأهواش وأغاني المزود والأشياء المنحطة أو الرديئة التي لا تناسبهم، تهت وذبت في الأمثال الشعبية، كيف تكتب رواية عن بلد ليس بلدك وأنت لا تعرف الغناء والأمثال وملابس النساء وأشواقهن، كيف تكتب رواية وأنت لا تعرف كيف ترتدي النساء مشدات الصدور في هذا البلد، وأنت لا تعرف الطعام، وأنت لا تغني بنفس اللهجة.
حين ظهرت باب الليل كان السؤال على صفحة جوجل، هل هذا الكاتب مصري؟ اعتقدت طول الوقت أنه تونسي.
ساعتها أحسست أنني نجحت في اللعبة وأنني لم أزل كاذباً جيداً.
تكرر الأمر في حذاء فيلليني بنكهة أخرى للكذب، كنت أقتفي أثر الاستبداد والقمع، بدت الرواية برائحة سورية، في داخلي يقين أن الطغاة في كل أماكننا وأزماننا يلاحقون عمرنا وأنفاسنا، لكن الفقرة الأعلى في نظري هي فقرة الأسد الذي صنع جمهورية الخوف بامتياز.
كتب شاعر سوري على صفحته: لم أسمع بهذا الكاتب من قبل ولا حكى لي أحد عنه، لكنه كتب حكاية كل سوري، كل واحد منا هو مطاع بطل الرواية التي غير القمع اسمه إلى مطيع، شكراً لسوريا التي أنجبت كتاباً عظاماً مثله.
نفعتني الأغاني التي حفظتها وأنا صغير، نفعني تغييري لألفاظها وولعي بكل ما هو جميل في كل لهجة، وما يمنح المعنى دلالة واسعة، للغة رائحة، لا أمشي مع الذين يكتبون كل أعمالهم بلغة واحدة، اللغة بنت طقس العمل، هي التي تصنع رائحته، أضبطني متلبساً بجملة من قلب أغنية أو كتاب أو مسرحية أو بنت أحببتها، لا أحد يعلمك لغة بلد مثل الأغاني مثل الحب، ومثل النساء.
سألت زوجتي كاتباً تونسياً في بداية إقامتي بتونسي: هل يتحدث وحيد لغة تونسية جيدة؟
قال نعم، يتحدث التونسية بلهجة نسائية.
كتب ياسين عدنان على صفحته: متى يعود وحيد إلى أرض مصر بعد أن كتب روايتين برائحة تونسية وسورية؟
عدت بجنازة جديدة لعماد حمدي، والتي ترصد دولة المسجلين خطراً، الجناة الذين لا يتورعون عن اقتراف ذات الفعل مهما نالهم من عقاب، حاولت أن أقتفى المسافة بين دولتهم ودولة البوليس، كيف تسير العلاقة التي بها يقف كل طرف فيها في مواجهة الآخر، متى يتقاطعان، متى يتفقان علينا نحن المسالمين، كتب أحدهم لا يمكن لكاتب أن يكتب هذه الرواية إلا لو كان مسجلاً خطراً.
الكتابة كذب الحياة الجميل، وأنت لا تعرف جدتي.
قلت لها ذات المرة إن الناس يتناقلون القصص من فمك، يصدقونها بما يصنعه لسانك مهما كانت حقيقتها، لماذا لا نجعل أبي زيد الهلالي حنطي البشرة، الناس هنا لا يحترمون السود، قالت وماذا نفعل في الحكاية الأصلية؟ ، لقد وقع الغراب الأسود في قرعة أمه وهي تتوحم عليه، قلت لنجعل الغراب رمادياً حتى نخفف لون بشرة أبي زيد، صمتت قليلاً ثم قالت لا بأس هذا كذب جميل أيها الكذاب الكبير.
حين حصل ماركيز على جائزة نوبل، حاوطت بيته هوجة كبيرة من الإعلاميين، من كل بقاع العالم، ظن الأب أن مكروهاً حدث لابنه، لم يستطع أن يشق الصفوف، لكن قلبه اطمأن قليلاً من لمحة الفرح على وجوههم، سأل أقرب واحد له: ماذا حدث؟
قال: ماركيز حصل على جائزة نوبل؟
والأب الذي لا يعرف شيئاً عن الجائزة استفسر، شرح له الآخر الأمر: إنه يؤلف قصصاً بارعة، فيها من الخيال قدر ما في الواقع.
هدأ الرجل وابتسم ثم قال: نعم، نعم، لطالما كان كذاباً كبيراً.
إرسال تعليق