كتابة سحر توفيق بين اليقين واللايقين.



بقلم: صفاء عبد المنعم 



 - وإذا ترحل، وتذبل الزهرة النادرة ..
.. فمن سيفصح عن معاني الكلمات؟
وإذا أغلقت الكلمات أبوابها..
.. فمن يبوح لي بأسرار الحروف؟ -



مقدمة : 

اليقين / هو العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك. (أبن سعدي)
         وهو ظهور الشئ للقلب بحيث يصير نسبته إليه كنسبة المرئي إلى العين فلا يبقى معه شك ولا ريب.
اللايقين / هو قلة التنبؤ واحتمالات المفاجأة والشعور بالوعي وفهم القضايا والأحداث.
            وهو التقلب وعدم اليقين والتعقيد والغموض.
------ 
الزمن يمر 
- أقف أنتظر الحافلة، أراها تأتي من أعلى الطريق، أتعرف على ارقامها، تتحرك أقدامي فى مكانها بصبر نافد، وأخيراً تقف امامي، اطلع إليها، أقف أو أجلس. تقطع الطريق، .
أرقب البيوت والشخوص وإعلانات الشوارع ولافتات المتاجر، وأسمع الضجيج، والحافلة تقطع ، ارقب كل ما يعبرنا بصبر نافد.
وبعد سنوات أنظر فى المرآه، فأراني قد تغيرت. – (سحر توفيق) الهرم 1994 .
----
من خلال هذا المقطع الصغير الذي صدرت به الكاتبة مجموعة بيت العانس سوف نلاحظ أنها تاخذ موقف(المتفرج)، وهى تتأمل مرور الزمن، وتتأمل ما حولها (أرقب البيوت والشخوص...) ثم تكتشف مرور الزمن سريعا (فأراني قدتغيرت) التغير هنا ليس تغير فى موقف المتفرج ولكنه تغير فى شكل الشخصية الخارجي.
------ 
  
مدخل : ماذا تفعل بنا الدنيا؟ 

(قل هذا لمن لا يعرفك، ودعك من هذه التمثيلية السخيفة،أنتَ متعب فقط، لأنك لم تستحم منذ مدة، منذ متى لم تضع المرأة الماء على جسدك، ولم تدهنه لكَ بالطيب، ولم تدلك بدنك بيديا؟ هل أقنعتكَ بأنك عجوز خرف لا تصلح.)
هذا المدخل كتب فى نهاية مجموعة(بيت العانس) وفضلن أن يكون مدخلا لقراءة النصوص.

تمتاز كتابة سحر توفيق بهذا التساؤل المهم(من نحن كبشر، وماذا نفعل فى هذه الدنيا؟
ولماذا وجدنا ؟ هل لنا دور فى هذه الحياة؟
نلاحظ وجود النص بين الريبة والشك.
النصوص تقع بين الأغتراب والعبث وخاصة فى مجموعتي( أن تنحدر الشمس، وبيت العانس) ووجود الريبة والشك والأسئلة غير بريئة.


 قصة (كافورتان)

(عندما تحاببنا، خرجنا من المدينة المزدحمة، وعند القناة الصغيرة فى المكان البعيد، بنينا جدراناً أربعة.

كان ذلك فى الزمن البعيد، عندما كانت الأشجار أعلى قامة من الديار، وقبل أن تعلو المباني وتسدُ عين الشمس، وقبل أن تتقزم الأشجار وتصبح غريبة فى الطرقات).هكذا في البداية كانت الأشجار هى العملاقة والناس والبيوت أقزام أمامها، فهنا الكاتبة ترصد حالة البدايات اليقينية للمكان، ولكن ماذا حدث بعد ذلك عندما أمتلأ الشارع بالسكان المختلفين عن سكان البدايات؟  

(لكن المكان ضاق حولنا يوماً بعد يوم، وسكنه الناس، ونمت على جانبي الطريق مبان، ظلت تعلو وترتفع حتى أصبحت ذات ظلال كثيفة، أكثف من ظلال الشجر.) هنا اليقين الشجر تحول مع مرور الأيام وزيادة الناس إلى اللايقين لماذا؟

لأنه سوف يتحول(عبث) السكان بقطع الشجرتين بطريقة غير إنسانية لمجرد أن أصوات الطيور تزعجهم، وتتساقط أورق الشجرتين على الأرض يضايقهم (كانت الشجرتان تلقيان بالأوراق الذابلة، ولم تكن الرياح قوية بما يكفي لتذروها بسرعة، قال الساكنون : هاتان الشجرتان كثرت بقاياها). 
( شجرتا كافور عند مدخل البيت صغيرتان مثلما كنا) تزامن عمر الطفلين مع الشجرتين، رأيتهما صغيرتان قصيرتان. وجود الشجرتان والطفلان (يقين واقعي). تحكي عن تاريخ المنطقة عندما كانا صغيرين (اللايقين) لأن الأشجار لا تحكي ولا تتكلم، ولكن الأنسان هو الذي يضيف ويضع الكلام على لسان الجماد كأستشهاد لوجود حياة كانت هنا منذ البداية، فيصبح الشجرتان شاهدتان على تاريخ المنطقة، وتاريخ الطفلين الصغيرين. ولم يعد دورها فى الحياة هو الظل فقط، ولكن الكروان توارث الشجرتين جيل بعد جيل(كأن الشجرة حافظة للأسرار) هنا الحنو والجمال.

(خرجنا نقطعهما بأيدينا، ونوسدها جانب الطريق، حتى نقطع منها، يوما بعد يوم، خشباً لجلب الفء في الشتاءات الباردة) هذا ما فعله الإنسان فى الدنيا وما يفعله مع الطبية من تشوية وبتر، قطع الجمال والخضرة، حتى الكروان فقد (كان الأولاد يلعبون ويقذفون بالحجارة ويعبثون بلحاء الشجرتين، حتى أصبحنا فوجدنا إحداهما قد فقدت لحاءها كله لمسافة متر من الأرض، تلك أمضت أسابيع طويلة تعاني يوما بعد يوم. هنا الإنسان لا يستطيع أن يشعر بمعناة الأشجار وكيف هى تتألم بفقد لحاءها الذي هو بمثابة الجلد لها كحماية من الجو. 

( جربنا أن نخفي الجذ لعاري بطرق عديدة، ولم ينجح علاجنا في جعلها تعيش، تناقصت أوراقها، واثمرت بذوراً كثيرة ملأت الأرض حولها بالأوراق الذابلة المتساقطة) وهنا أشارة إلى مرور الزمن وقرب موتها بالقطع كما فعلا بشكل واقعي ( ولم يبق فى شارعنا إلا بقايا البيوت القذرة تتصاعد روائحها، وتعلو طوابقها، حتى تصبح أكبر من كل الأشجار، ولا تزروها الريح).الكاتبة تتحسر على الزمن الجميل الذي مر بسرعة وتحول اليقين الحقيقي الجميل أيام الكافورتان والكروان، إلى واقع لا يقين ليس له معنى وخالي من الجمال أيضا.



فى قصة (ثلاث أوزات وفرخ وحيد)

(أحيانا، من مكمن لا نتوقعه، يخرج لنا عفريت نعرفه، وإن لم نحتفظ به فى أذهاننا فى لحظات اللامبالاة التى تمر بنا كثيراً) هذا النص تحديداً يظهر اللايقين منذ السطر الأول فى النص فى ثلاث كلمات(لا نتوقعه، عفريت، اللامبالاة) هذا نص بديع نرى من خلاله تغير المجتمع والناس والزمن.
ونتعرف على التحول الخطير فى المجتمع منذ بداية السبيعينيات.
( وقف ثلاث فتيات يرتدين العباءات السوداء الرخيصة الثمن المستوردة من بلاد البترول، التى تستوردها بدورها من بلدان الشرق الأقصى، التى نمت أسرع من بلداننا) فى هذا المقطع يظهر اليقين فى (ثلاث فتيات) هنا ظهور الفتايات ووجودهن شئ واقعي وملموس ومدرك عكس المقطع السابق الذى كانت تتوقعه.
رغم الزي الغريب تقول الراوية / الكاتبة : أن تاريخ اللبس لا تتغير الحركة مهما تغير الزي، ستظل حركة حبكة الزي على الجسد مثل الملاية اللف، العباية ( رغم الزي الغريب فقد كانت كل منهن تمسك بجانب ثوبها وتلمه إلي صدرها مثلما كانت تفعل مع الملاءة اللف فى الغالب أسلافهن منذ أجيال قليلة رؤسهن حاسرة لم تكن تلك العباءات لتغطيها أصلآ) ولكن فى لحظة (عبث) تم تحويل العبث الوجودي ( فأنا اظن أن الأنتماء إلى احياء معينة نعيش فيها لفترة طويلة يكسبنا طابعاً أقرب غلى التماثل او التشابه فى الطباع وربما الأخلاق إلى حد ما) هنا الكاتبة شبهت النساء بالجواري فى العصورالسابقة ثم تشابههن فى التماثل من الملبس إلى الحركات والكلمات، فقررت أن تركب الاسم حسب تصرف الشخصية فقررت أن تطلق على النساء اسماء (سنيه، نبوية، هنيه ) – أنها اسماء متوازنة، لتدل على ما بينهن من علاقة أحاول فهمها - هنا الكاتبة أضافت اسم كل واحدة منهن حسب تصرفاتها وطريقة تفكيرها فهى تريد أن تحول اللايقين إلى يقين، وتسمي الولد(عبود) على اسم موقف شهير فى القاهرة (موقف عبود) يقول عبود ضاحكاً : أنا ساقع يا بت؟ دانا سُخن قوي!!
سوف تقوم نبوية بتهديد سنية وهنية بما يحدث مع صبي الموقف ( والله لاقول للمعلمة على المياعة دي كلها، تعالى يا واد أنتَ هنا ) وسوف تقوم بجذب يد الولد الصغير حوده ليجلس غلى جوارها في سكون وهدوء.
المَعَلمة الغائبة لا توجد كياقين واضح وممكن رؤيته ولكنها توجد من خلال تهيد كل واحدة منهن للآخرى
(والنبي قول للمعلمة) حتى السائق سوف يقوم بتهديد البنات بدوره ويقول( والله هقول للمعلمة)
المعلمة (الغائبة) لا يقين لأن لا وجود لها، ربما تكون هى قواده أو معلمة قهوة، فنحن لا نعرف ما هو دور الملعمة فى النص، وما السلطة التى تملكها كى يتم تهديد البنات لبعضهن البعض بها، وتدخل السائق فى الحوار واستخدام أداة القوة الاموجودة (المعلمة) فى الضغط على النساء أيضا( والله العظيم أن ما انتهيتوا لاكون انا اللي قايل للمعلمة.) العجيب فى هذا المشهد أن الولد الصغير هو ابن سنيه ثم تمرد على امه وأرتمى فى حضن هنية، وهو يتصرف كأنه دلوعة النساء، المؤكد أن هذا الصبي (حوده) ملكية عامة لهن جميعا، رغم انه أبن واحدة فقط.


قصة (السنترال الآلي)

(وقف أمام تمثال رمسيس النائم هناك، وقدماه مبتورتانوعند باب المتحف تقف نفرتاري، صغيرة، بديعة تتفجر بالحيوية، عيناها أحلى من عيني بائعة الفجل التى أغرم بها في شبابه، شفتاها تنمان عن المكر، رغبة فى البراءة، ولكن هيهات) في هذا المقطع المبدئي من النص هو بوابة ثرية لمعرفة ما تريد الكاتبة أن تغوث فى اليقين واللايقين عبر الزمن البعيد، الذى قد يبعد عنا ألاف السنين، اليقين هنا ثمثال رمسيس، ميدان رمسيس، وهو، وبائعة الفجل الغائبة، اللايقين قدميه المبتورتان، المكر، البراءة. عندنا فرج وجرجس وأهل القرية ( كان الوجوم يخيم على القرية منذ بداية السيل، لقد أصيب أهل القرية جميعاً بوجه أو بآخر، صعق الماس الكربي ثلاثة من أبناء القرية قبل أن تنقطع الكهرباء تماماً ويسود الظلام الدامس)هنا تحول اليقين (ثلاثة أبناء) غلى اللايقين حيث أنهم صعقوا بالماس الكهربائي الذى لا يرى.. وهمهم الرجال بحمد غير واضح الكلمات.


في قصة (ربابة .. آبا علي) 

(ماذا يخفي كل عجوز فى جعبته من سحر يجعلنا نصغي؟ هل هو تلك الوصفة الساحرة المسماة بالخبرة؟ هل وصل هؤلاء العواجيز الساحرين إلي مستوى المعرفة الكاملة؟ لا يمكن أن يكون هذا هو الأمر، فلا يصل أحد أبداً الي هذا الحد المخيف، لكنه ما يحملون من تاريخ وأقاصيص قديمة، التاريخ هذا هو السحر الخاص والخالص.) نلاحظ وجود اليقين في - عجوز، جعبة، الخبرة، المعرفة - ، واللايقين في – سحر، الوصفة، المخيف، اقاصيص قديمة،التاريخ.

اليقين :هو وجود الجد محمد والجد علي، والبستاني وابنه والجوزة والحشيش والدخان.
اللايقين : في حكاية القرموط الذي اصطاده الجد علي وكان ( رأسه عند البيت وذيله مازال في الترعة) ورد الجد محمد عليه (بأنهم في ضرب النحاسين ظلوا يصنعون حلة لمدة ثلاث سنوات لطبخ القرموط الذي قمت بصيده) كل واحد منهما يحاول أن يسيطر بالأسطورة المصنوعة(اللايقين) والتي يحكيها الجد محمد والجد علي فاللايقين واضح واللعب بينهما يحاول كل منهما السيطرة وأن يعلي على خرافة الآخر وأن يحاول أن يجعلها يقين واقعي خاصة عند ذكر حي النحاسين الذين ظلوا لمدة ثلاث سنوات يصنعون حلة نحاس كبيرة لطبخ هذا القرموط الخرافي الذي ليس له وجود.(يقول آبا محمد : طيب، ألا تذكر يوم اصطدت القرموط؟)
(كنتواقفا عند الجسر، وكانت معي سنارة كبيرة عندما شاهدت ذلك القرموط، كان طوله يصل إلى مكان بعيد، لقد مر امامي وظل يمر وأنا مذهول فلم أر ذيله منذ رايت رأسه إلا عند الظهر) يا مهول.
أكان بهذا الطول؟
هل رأى أحدكم مثل هذا؟

(كان طوله ونحن نجره بحيث انه عندما وصلنا إلى بيتنا كان ذيل القرموط لا يزال عند الترعة).
ثم بعد ذلك يظل السجال بين آبا علي وآبا محمد وكل منهما يحاول أن يكشف خرافة وتهويل الاخر فيما قاله، أى ان كل منهما يحاول أثبات اليقين فى كلامه، واللايقين فى كلام الآخر.
ثم يتطرق الحوار إلى سيرة الأجداد ويذكرون الجدة (مقطفة).

وأسطورتها بشكل فنتازي وهى التى قامت بضرب الرجل (رجل الهجانة) بعدما أعتدي عليها فى السوق وأنتصرت. ( دخلت جدتي مقطفة إلي السوق وكانت تبيع ثمار المشمش التى تأتى بها من شجرتها التى زرعتها بيديها فى حقل أبيها، كانت جدتي هذه من المهابة حتى أن الرجال كانوا يقفون لها ... جاء الهجانة إلي السوق وهى جالسة .. وقف الجندى على رأسها وقال لها : هاتى هذا المشمش يا امرأة . .. المرأة هو انت يا أبن الكلب. .. رفع السوط ونزل به على ظهرها، .. أمسكت ساقه بكلتى يديها وشدته من فوق الجمل فأوقعته أرضا)) 
أنتصار الجدة على رجل الهجانة الذى أهانها وضربها بالكرباج، فأصبحت بعد ذلك أسطورة لكل الرجال، وقامت بحبس زوجها داخل الصندوق لأنها عرفت أنه وشى بها عند الحكومة للقبض عليها.

أنتصرت على الرجل (يقين واقعي) أوقعته من فوق الجمل فى السوق.و كذلك أخيها الذي كان يرقبها عن بعد. واليقين أيضاً ضرب الرجل للجدة مقطفة بالكرباج فى السوق.
لكن اللايقين ويحمل صيغة المبالغة هو أنها قامت بجذبه من فوق الجمل وأوقعته على الأرض (تتشبث بقدمه وهو بقوة رجل الهجانة) وفعلت ما لم يفعله الرجال (الأنتصار) وتنتصر لضعف الرجال الذين كانوا يخافون من رجال الهجانة، ثم يدخل الرجال السوق وينتصرون لرجولتهم المنهارة.



قصة (وجه الزمن)

(مبنى المدرسة القديم يلوح لي، الأشجار المتساقطة الأوراق تحيط به، صوت الخطوات تزدحم حولى اسمع صباح الخير من عدة أتجاهات، أصوات مختلفة المعلمون .. مدير شئون العاملين بجهامته المعروفة، أقدم له أول كل شهر ست علب من السجائر، ومع ذلك يتجهم ويضع خطاً أحمر مكان اسمى إذا تأخرت لدقائق قليلة .. أسرع أحد المعلمين اإليه : قلت لك يا أستاذ يحيى أن تهتم بوضع الحصص الاأخيرة فى جدولى اأنا لا أحب أن أصل البيت قبل زوجتى .. وانتبه بعض المعلمين والمعلمات لوصوله فأجتمعوا حوله كلهم يصيح بمطالبه التى لم تتحقق نظر مدير المدرسة إلي الجميع مستاء.)

لحظة توزيع جدول الحصص على المدرسين من أصعب اللحظات اليقينية لأن كل مدرس يريد أن يتم تفصيل جدول خاص به ويرضى عنه كي يعمل (اليقين الجدول)، (اللايقين هو تفصيل جدول خاص لكل واحد) يلاحظ من عمل مدرساً أن هذا اليوم يكون هو الأسوء فى تاريخ المدرسة والمدرسين، ومن وضع الجدول لن يرضى عنه الجميع مهما حاول قدر جهده.
كان يضع خطا أحمر تحت اسمي (يقين)
تشتري له 6 علب سجائر كل أول شهر (لايقين) لأن لا أحد يعرف هذه الحقيقة.

(شقت الصمت صرخة غريبة، ودق الجرس بلا موعد، كان ذلك يوماً مختلفاً رغم كل شئ أختفى الصمت مرة أخرى، ومرة أخرى تلوث الجو بالضجيج، الهمسات حينا والاصوات المترددة حينا آخر .. لم يفعل الطبيب شيئا سوى أن كتب له حقنه مهدئة .. وضعت الدواء فى الحقنة وأدخلت الأبرة فى ذراعه .. كان الوريد هارباً .. أى شئ فعل الدواء به لا أدرى، أعرف الوريد الهارب، أعرفه تماماً)من خلال هذا المقطع نعرف ان كارثة يقينيه قد حدثت، الأستاذ يحيى متعباً. وبعد أن عاد من المستشفى تقول الحكيمة العاملة بالمدرسة. أعرف الوريد الهارب (يقين) أعرف مكانه تماما.. تاكيد القين (المعرفة).
كيف تقولون أنه مات وأنا السبب فى موته (لايقين).

تأكد الممرضة على شطارتها وأنها تعرف مكان الوريد بالضبط، فكيف تقولون أنها السبب المباشر فى وفاته. ( قال الاأستاذ عبد الله : هى أعمار، وهذا ما كتبه الله له، هل نعترض على مشيئة الله .. إكرام الميت دفنه). حقيقة يجب دفن الميت (يقين) أى إن كانت أسباب الوفاة، والتعجيل بالدفن هو الأهم. من وجهة نظر المدير.

الصراعات والجدول والحضور والأنصراف (عبث) من وجهة نظر المدرسين ولا أهمية له.رأيت وجه الزمن طاف بعقلي ساخراً ليس له حقيقة يحيى لا يحيا (عبث) الحياة وعبثية الأشياء المحيطة بنا والتناحر والشجار جعل الحياة عبثية وشبه مستحيلة فالمدرس مات فى لحظة واحدة وترك الجدول والحضور والأنصراف والمدرسة والحياة بما فيها.

فكلمة (يحيى لا يحيا) التى أطلقتها المدرسة هنا توضح وجهة نظر الكاتبة على أن الحياة لا تساوي شيئاً حتى التناحر والشجار فيما بيننا لا يساوي لحظة الموت المهيبة، لأنها هى الحقيقة الماثلة أمام أعيننا الآن وبوضوح. واسم يحيى وهو المدرس الذى كان يتحكم فى كل شئ له دلالة ومغزى على عدم الوجود اللحظي و الذي ترك الدنيا مثلما دخلها.

تمتاز كتابة سحر توفيق فى مجموعاتها ورواياتها بطرح الأسئلة (الوجودية) ومحاولة التعرف على إجابات شافية لهذه الحياة العبثية وهى تجيد طرح السؤال بشكل دائم (لماذا نحيا؟)
وأنها لا تأتي بالإجابات الجاهزة ، فهى تراقب تغير الزمان والمكان وأحوال الناس فى ظل رؤية وجودية وتحاول أعادة طرحها أكثر من مرة وبأكثر من طريقة.
لأن الكاتبة لها عين ناقدة لهذه الحياة.
فى رواية (طعم الزيتون)
هل ينظر الموتى؟
وهل يعرفون؟

نرى الحكيم هنا في مقدمة الرواية هو صاحب اليقين (لم يحدث من قبل أني ضيعت الكلمات) ثم يتحول هذا الحكيم وبارادته إلى اللايقين ( ولكن فى هذه المرة ضيعتها عن عمد ، وعن سبق إصرار وترصد.)

أي ان الحكيم قرر أن يتغير وبارادته هو ( تتراءى لي اشباحا فى أوقات كثيرة تلومني، تنظر لي بحزن وعتاب، وأحيانا باتهام صارخ، حتى أفقد مقاومتي ولا مبالاتي، فاحاول أن استعيدها، اتذكرها، لكنها بكبرياء الجريح تأبى على ذاكرتي..)

نرى فى هذا المدخل الهام من رواية (طعم الزيتون) أن الكاتبة تطرح فكرة ( اليقين واللايقين) داخل كتابتها بشكل واضح وصريح، وكأنها تعرف ماذا سوف تقول وتناقش مع تكتبه عن طريق ( الرجل الحكيم) ربما يكون الزمن! فيأخذ النص إلى صراع الداخلي بين الحكيم واشباحه التى تلومه.

(صراع النفس مع ذاتها) صراع داخلي.
يقول الحكيم في موقع آخر(ثم مدفوعة بغريزة الأنتقام تحاول تعذيبي، فتلقي غلى خاطري بواحدة منها ، واحدة فقط، وتنسل الباقيات هاربات، محختفيات فى غابة معقدة متشابكة من الذكريات اللانهائية، (عبثاً) أحاول مطاردتها، فهى تختفي جميعا خلف جذوع الأشجار الضخمة، او الأعشاب الشائكة، أو بين الوريقات الكثيفة، وخرج لي نفس الكلمة، نفس الكلمة لا غير، وكأنها لسانها)

نلاحظ فى هذا المقطع ظهور وأختفاء الكلمات وكأنها تلعب لعبة (الغميضة) مع الحكيم، وتراوغ، وتتوارى خلف الأشجار وا لعشاب والوريقات، من هنا نلاحظ أن تحول الحكيم باراادته من(اليقين غلى اللايقين) أصبح يتلقى تهديداً ومراوغة .

مستمرة من الكلمات والأختفاء فى غابة معقدة، ويمكن أن يتم فك رمزية الغابة إلى الحياة نفسها التى تمتلئ بالشك وقلة اليقين ولعبة المراوغة مهما حاولنا القبض عليها ومعرفتها والسيطرة عليها بشكل كامل.
ولأن من طبع الحياة التجدد والأستمرارية فالحكيم يحاول جاهداً معها (أبحث عنها بين ثنايا الذاكرة) نلاحظ أن الكاتبة ذكرت كلمة (اليقين) بوضوح أيضا.

النساء نوعان.

(امرأة تخطو إلى دارك فيدخل الخير بدخلوها، وامراة لو دخلت ارا كانت شؤما على اهلها، خربتها وضيعت من فيها ، فاتخذوا لأنفسكم قدم الخير) وإذا عرفت امرأتك قدم خير فلا تتركها.

- صفاء عبد المنعم -   
--------------------------------------------------------------------------------------------------- 
المصادر 
-------------

ان تنحدر الشمس (قصص قصيرة) مختارات فصول الهيئة العامة للكتاب 1984 
 رحلة السمان (رواية) دار ميريت للنشر والتوزيع 2005
بيت العانس (قصص قصيرة) صدرت عن الدار للنشر والتوزيع 2006
طعم الزيتون (رواية) ابداعات التفرغ المجلس الاعلى للثقافة 2011

Post a Comment

أحدث أقدم