عن العشق  والموت والوطن

بقلم: سيد الوكيل

 


نهضت فكرة (فرويد) عن ارتباط الحب بالحرب متأثرة بالأساطير الإغريقية، وبالتحديد أسطورة (حرب طروادة) عندما تمكن (باريس) من اختطاف (هيلين) زوجة ملك اسبرطة، وهرب بها إلى طروادة، فقامت بينهما حرب طاحنة، مشفوعة برحلة تيه (أوديسا) للناجين من الموت.

لم يكن في الأمر أي حب بين (باريس وهيلين) كان اختطاف واغتصاب. فباريس إله الحرب، هو رمز القوة الغاشمة التي تخلو من أي عاطفة، بقدر ما ترغب في تأكيد ذاتها فحسب، وتلبية رغبات الجسد بأي ثمن. في اعتقادي أن الحب نقيض الحرب، ففي الحرب كره وفناء، وفى الحب حياة وعيش.

 معنى هذا أن الحب يقاوم الموت، لهذا لم يهزني شعار للمقاومة قدر أغنية فيروز (بحبك يا لبنان)  شعار بسيط وعميق يفسر لماذا يضحى الناس بأرواحهم من أجل أوطانهم، لا لشيء إلا لأنه قدم لهم كل قصص الحب التي عاشوها، أعنى الحب في كل صوره ، فأن تحب الله ، وأن تحب بيتك ، وعملك ، وأصدقائك ، وفاتنة الحي .. كل هذا يعنى أنك تحب زمانك ومكانك. ويعنى أنك مستعد أن تضحى بحياتك من أجل وطنك. ونحن عندما نقرأ قصص العشاق العظام الذين ضحوا بحياتهم مثل رميو وجولييت، لا نغضب عليهم، بل نحسدهم ونتمنى أن نكون مثلهم  لدينا ما نحبه ونضحي بأنفسنا من أجله، ونطلق على ضحايا الحب (شهداء الغرام) والشهادة أعلى المنازل التي يحصل عليها الإنسان  في الوجدان الديني، وهى الوحيدة التي تنزع عن الإنسان صفة الموت، وتمنحه الخلود عندما تحتسبه عند الله حيا يرزق.

والكلام عن الحب وقصصه معنى رافق كل الحضارات وتجلى في كل الثقافات، وفى الثقافة العربية فإن أخطر وأهم وثائق الحب وقصصه قدمها لنا ابن السراج من بغداد في نهاية القرن الرابع الهجري، ممثلا في كتابه الشهير ( مصارع العشاق) ليجعله مصدراً رئيساً لأخبار وقصص العشق العربي بل الكوني المتنوع في درجاته واتجاهاته.  فهناك الحب الإلهي والحب بين البشر والحيوان والطير بل وفى مملكة النبات، وهكذا لم يترك ابن السراج صورة من صور الحب إلا وقد أورد لها قصصاً وأخباراً، حتى أنه لم يتحرج أن يخبرنا عن عشاق الغلمان وشعرهم الماجن ، رغم موقفه ـ وهو شيخ فقيه ـ وموقف الإسلام المحرم لهذا النوع من العلاقات المثلية، إذ يبدو أن هذه الظاهرة ترتبط بأوضاع اجتماعية مركبة، وكانت بغداد في عصره، في قمة النضج الثقافي بما يسمح بالكلام عنها ومناقشتها.

أما الإستراتيجية الفكرية التي تبناها ابن السراج في مؤلفه هذا، هي أن الحب لا يبلغ منتهاه إلا بالموت، الموت بوصفه شهادة من أجل الحب، وهكذا فموت المحبين حياة لهم.  وللموت حباً صور عدة ، منها التغير، فهناك عشاق كانوا ماجنين، ثم عشقوا، وصدوا عن كل وصل إلا مع أحبتهم حتى لو كانوا متخيلين، فماتت شهواتهم وتغيرت نزعاتهم، بمعنى أن الحب سبيل للتسامي بالغريزة، فالحب الشهوي درجة بدائية منه، وينتهي بقضاء الشهوة. وثمة حالات من الحب وصفها ابن السراج شعراً ونثراً وإخباراً وسرداً، دونما تنظير أو تحليل أو تصنيف وكأن هدفه هو حشد الروايات بهدف التسلية والإمتاع لتقر في أعماقنا ونحبها فنعرف قدر الحب، وفى أفضل الأحوال لاتخاذ العظة، والتأثر بأسمى صور العشق. أعنى العشق الإلهي على نحو ما حدثنا بأخبار عن رابعة العدوية ورياح القيسي والشبلي وذي النون المصري وغيرهم من كبار الزهاد والمتصوفة .

الدرس الأول من ابن السراج هو: أن العظة والتعليم لا يتعارضان مع التسلية والإمتاع، ففيهما مؤانسة. لهذا كان الكتاب مقصداً ومرجعاً  للباحثين وشرّاح التراث، وأنا شخصياً لم أتردد أن اقرأ كتابين لابن السراج في شهر واحد، فعن دار قباء صدر كتاب جديد بنفس عنوان كتاب ابن السراج الأصلى  " مصارع العشاق" للناقد والمبدع الدكتور محمد حسن عبدا لله، يعتبر الكتاب إعادة تنسيق لقصص الحب التي وردت في كتاب ابن السراج، فأفضى هذا إلى اكتشاف روابط  وعلامات ودلالات جديدة يمكن للقارئ أن يستنتجها بنفسه، فيشعر بعمق العلاقة العاطفية بينه وبين الكتاب، ويدرك المعنى الواسع للحب.

  وعن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة صدر كتاب " مستويات العشق وآليات السرد فى مصارع العشاق " ، وهو رسالة دكتوراه للباحث عماد حمدي، وفيه جهد ملحوظ فى ترتيب وتبويب وتصنيف الكتاب الأصل بحيث يكّون منظومة معرفية متكاملة عن مفهوم الحب وصوره وتجلياته عند العرب، ومن ثم فهو يعمل على ما فات ابن السراج، أي جانب التعليقات النظرية والتحليلات الثقافية، التي أهملها ابن السراج ، وهذا جهد علمي محترم بلا شك ، لكن المقارنة بين كتاب عماد حمدي وأستاذه محمد حسن عبد الله أكدت لي ما كنت اعتقده دائماً، أي أن حاجتنا إلى الأسلوب الإبداعي في استقراء التراث أهم من حاجتنا إل الأسلوب العلمي، ولدى أسباب عدة لهذا الزعم ، منها أن التناول العلمي أحياناً،  يهدر السياقات الجمالية والفنية في التراث لصالح الدقة والمنهجية، كما أن المقاربات التحليلية تصادر على وعى الملتقى، وتعيق تذوقه للنص التراثي في نسقه الثقافي .

 ولحسن الحظ لم يحدث هذا كثيراً في رسالة عماد حمدي فاحتفظت بقيمتها المعرفية ، لكن لمسة المبدع عند محمد حسن عبدا لله كانت واضحة في كتابه، فهو ينهج نهجاً شديد البساطة وعميق التأثير في نفس الوقت، إذ يعود للكتاب الأصل، ليخلصه من سلاسل الرواة، وما هو زائد عن الحاجة من أخبار ونوادر وأشعار وتعليقات، صارت عبئاً على القارئ المعاصر، ولاسيما أن كثيراً منها متشابه ومكرر إلى حد الملل، ثم ينتهي إلى جوهر الحكاية، وصياغتها في أسلوب سردي إبداعي ، ينهض على نفس المفهوم الذي كان ينهض عليه السرد العربي القديم، محافظاً على روحه التراثية، وهو أسلوب استخلصه من كتاب تراثي آخر للتنوخي وهو (الفرج بعد الشدة) فحركة السرد تتراوح بين مد وجذر، إذ تأخذ الحكاية في التعقد لتصل إلى ذروة يبدأ بعدها ارتخاء التوتر السردي وصولاً إلى الحل، الذي يحدث الراحة الشعورية، والإشباع الجمالي للقارئ .

ومن ثم فلا غرابة أن يقول المؤلف في مقدمته،  إنما يقدمه ـ أي الكتاب ـ للقارئ العام وللمبدعين الذين يخاطبون الوسائل الفنية الحديثة في مقاربة التراث، ثم أنه يعيد تصنيف الكتاب وترتيبه على أساس فني، ويمنح فصوله عناوين فنية مثل: " شعراء عشاق،  خلفاء عشاق، عشاق الصوفية ..الخ " .

ولعل هذه المعالجة تمنح القارئ فرصة اختبار النصوص المسرودة عبر السياقات الثقافية والحضارية في عصرها، فتفيدنا قصص (خلفاء عشاق) عن الجوانب الإنسانية في حياة حكام لا نعرف عنهم سوى مكرهم السياسي وبأسهم العسكري، كما توقفنا قصص (عشاق الصوفية) عن موقف الإسلام الصحيح من المرأة، فهي ليست دائماً قرين الشيطان أو رمز الغواية كما تصورها التوراة، وإلا لما حظيت رابعة العدوية بهذه المكانة فا مجال العشق الإلهي .

وهكذا.. فإلى جانب المتعة الفنية التي يحققها لنا الكتاب ننال قدراً عميقاً من المعرفة التاريخية المتنوعة التي يجليها لنا محمد حسن عبد الله بثقافته الموسوعية، وتجعل الكتاب استكمالاً لمشروع كبير، قدم لنا من قبل عدة كتب مثل معالجته لكتاب الفرج بعد الشدة، وكذا كتابه الشهير ( تراث الحب عند العرب).  

صحيح أن كتاب ابن السراج لم يذكر شيئاً عن حب الوطن كما نفهمه الآن، ليس  فقط  لأن مفهوم المواطنة والوطنية لم يكن واضحاً في ثقافة العرب كما هو الآن، فالبيئة الطبيعة، والتكوين القبلي وصراعاته فرض عليهم الترحال والتنقل بحثاً عن المكان، وعندما يعثر أحدهم على المكان، تتأجج مشاعر النوستالجيا عندما يرى أطلاله فينشد شعراً فيه.

قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل     بسَقْط اللوى بين الدَّخول فحومل

وقوفاً  بها  صاحبي  عليّ  مطيهم      يقولون : لا  تهلك  أسى و تحمل

ففاضت دموع العين مني صبابة.     على النحر حتى بلّ دمعي محملي

 

 كان حب الوطن ذائباً في المكان وفي الوجدان، حتى أصبح الوقوف على الطلل هو القاسم المشترك بين أكثر شعراء الجاهليةـ قبيل تكوين الدولة الإسلامية، بحيث لا يمكن عزله والنظر إليه كموضوع شعري مستقل عن حب الديار وعشق الحبيبة، ليصبح كلاهما رمزاً دالا على الآخر. وهو ما نراه بوضوح عند قيس بن الملوح:

 

أمرُ على الديارِ، ديار ليلى...... أقبل ذا الجدار وذا الجدارَ

وما حب الديار شغفن قلبي...... ولكن حب من سكن الديار

 

هكذا.. معظم شعراء العرب يبدءون بالنسيب، وتذاكر الأهل والأوطان وملاعب الصبا ومرابع الأحبة، ليبدو الوطن هو المعادل المكاني للشعر والحب معاً.

 


Post a Comment

أحدث أقدم