فينك يا مجدي

 

 تشوف حفلات الشعر أم تذاكر 




بقلم: يسري حسان



أقر أنا الموقع ادناه، او اعلاه، على حسب توضيب الصفحة ومزاج المخرج، أن الوحيد الذي كنت أتجنبه في بداية دخولي الوسط الأدبي، هو مجدي الجابري، أقول لك الحق، كنت أخاف منه، مع إني في تلك المرحلة البائسة من حياتي لم أكن أخشى سوى الله سبحانه وتعالى، والعسكرى أبو صفارة.

كنت فاتحا صدري على آخره، ولا يهمني شئ أو أحد، لكني عند مجدي الجابري كنت ألم نفسي وأقصر الشر وأبتعد عنه.

لم يكن مجدي الجابري فتوة ولا حاجة، لكن مظهره الخارجي كان يوحى بالجدية الزائدة عن اللزوم، وأنا عمري ما حبيت الجد ولا الجدية ولا اللزوم، كنت أعرف مكانته كشاعر مجرب، وكذلك ثقافته العميقة، فإذا أضفنا إلى المكانة والثقافة تلك الجدية البادية على وجهه فهذا كفيل بتجنبه والتشطر على شعراء آخرين ما زالوا في بداياتهم الأولى، خاصة أنني كنت، وما زلت طبعا مجرد شاعر على باب الله.

لا أذكر المناسبة التى اقتربت فيها من مجدي الجابري، لكني أقتربت وخلاص واللي حصل حصل، أكتشفت أنه هو الآخر كان يأخذ موقفاً مني، كنت قريباً من شاعر وناقد يقيم ندوة اسبوعية، وكان هو يستهين بتجربة الرجل ومكانته، وبالمرة استهان بالمحيطين به وسخر منهم سراً وعلانية، لكن سخريته لم تصلني وإلا كنت حرمت شعر العامية من غلإضافات المهمة التى قدمها إليه.

المهم أنني أكتشفت فى مجدي الجابري إنساناً في غاية الطيبة والبساطة والجمال، لكنه عند الشعر لا يعرف أباه، فهو حاد جداً تجاه أي شعر ردئ، وربما تجاه أي شعر يخالف ما يكتب، لكنه بمرور الوقت أمتلك قدراً من المرونة ساعده على تقبل تجارب الآخرين، بشرط أن تكون تجار حقيقة، أما موقفه من الشعر الردئ فقد ظل كما هو، وإن لم يجرح مقترفيه، يعنى لم يكن فجاً فى تعامله مع الشعراء الكسر والنص نص، تعامل إنساني فقط، أما الشعر فلا وألف لا.
لم أضبط، ولم يضبط غيري، مجدي الجابري متورطاً فى كتابة دراسة أو مقال عن شاعر أي كلام، لم يكن من اولئك الذين يمشون أحوالهم ويسترزقون من الكابة، لو فعلها لسكن في المهندسين بدلا من أرض اللواء، مجرد أمتار قليلة كان يمكنه عبور مزلقان أرض اللواء ليكون فى المهندسين مباشرة، لكنه لم يفعلها وترك زوجته صفاء عبد المنعم وابنتيه هاميس ومي في شقة على المحارة، اجتهدت صفاء الجميلة بعد ذلك ودهنتها بلاستيك ومازالت تقيم فيها هى وابنتاها، ففيها رائحة مجدي الجابري مازالت، ثم تجيب منين أصلا وقد كافحت واجتهدت حتى ربت ابنتيها أحسن تربية، لم يكن أحد يتصور أن تمتلك صفاء هذه المحبة وكل هذا الوفاء والأخلاص والكفاح، ترك مجدي الجابري هاميس ومي قطعتي لحم كما يقولون وتكفلت صفاء بكل شئ، حتى تخرجت هاميس الجميلة في كلية العلوم، وهى تشارك الآن بالتمثيل فى اعمال مسرحية، ودخلت الجميلة مي كلية العلاج الطبيعي .. بسم الله ما شاء الله.. من حقك أن تفرح يا مجدي كما فرحنا جميعاً.لم يكن مجدي الجابري مهموماً بشئ سوى الكتابة والقراءة، لم ينشغل بسبسبة شعره أو كى ملابسه أو العياقة بأى شكل من الأشكال، مع إنه كان مؤهلاً لذلك، مجدي كان وسيماً والله،
لكنه لم يهتم بمظهره أبداً، وصرف اهتمامه كله إلى الشعر.

ديوانه الأول"أغسطس"أصدره في طبعة بسيطة وفقيرة عن دار مصرية، وهى دار محترمة وجادة لا أعرف مصيرها الآن تقريباً فى مائة نسخة وكان الله يحب الناشرين رغم أنه ديوان يمثل – فى رأي فتحاً جديداً فى شعر العامية، ستتون صفحة فقط، وسبع قصائد فتح بها مجدي الجابري قوسه الأول على الشعر الجديد، وأقول لك إن القوس لم يغلق بعد رغم رحيل مجدي، لآن أثره ما زال ممتداً حتى الآن، شعر مجدي الجابري حى وطازج ومؤثر حتى وقتنا هذا.

أما ديوانه"بالظبط وكأنه حصل" والذي مثل نقلة نوعية ومهمة وتاريخية في مسيرة شعر العامية، فهو ديوان فقير جداً – من حيث الشكل طبعاً- عبارة عن صفحة وصفحة، يعني كل الصفحات اليمين فاضية بغير سوء، والشمال مليانة شعراً عفياً ومغامراً ومجنوناً، ليس الأمر منظرة طبعاً أن يكتب فى صفحة ويترك أخرى، لكنها الظروف الضنك يا أخي، وعدم حماس المؤسسة الرسمية لنشر مثل هذا الشعر وقتها، اضطر مجدي إلى تصوير الديوان وتطبيقه كيفما أتفق وعمل غلاف أصفر عليه رسماية صغيرة، أعده محمد المزوععي، وكان الله يحب المتواضعين.

أهداني مجدي هذا الديوان قائلاً : "كتابة فقيرة..زز ربما.. لكن ثمة حياة أفضل فلنكتشفها" واندهشت من جرأته وقوته وعنفوانة.. وأعترف أنه أسهم في تغيير مسار الكثير من الشعراء، وكنت قرأت قصائد الديوان قبل صدورها فى كتاب.

شوف.. إذا كان من أنحرافه أو نقله فى شعر العامية بعد جاهين وحداد، فهى مسجلة فى الشهر افبداعي- وليس العقاري – باسم مجدي الجابري، مجدي الجابري هو صاحب توكيلها ، ولن أقول لك إن أبناء جيله تأثروا به أو قلدوه، كانت هناك أفكار وتصورات مشتركة حول الشعر الذي يجب أن نكتبه، بعد حرب الخليج الثانية وتغير العالم من حولنا، فبعد قعدة طويلة في قاعة منف بالعجوزة قدم خلالها كل منا تصوراته حول هذا الشعر، كانت تصورات وافكار مجدي الجابري هى الأكثر قوة ووضوحاً وإقناعاً، رأى بعد سقوط الكتلة الشرقية وسقوط الكثير من الأفكار التى اقتنع الكثيرون بها، ضرورة إعادة النظر في دور الشعر والشاعر ونظرته إلى العالم يعني : 

أنا قلبي طير خير
إن ما غناش يموت.
آه يا حلاوتك يا نسيم شهر توت.

هذا الشعر، الذي كتبه عمنا وأستاذنا وقدوتنا صلاح جاهين، جميل وعظيم، لكنه من وجهة نظر مجدي لا يعبر عن لحظتنا بارتباكاتها وكوارثها.. لازم ندور على منطقة أخرى، وعلى كل واحد أن يكتشف منطقته بنفسه، وقد كان.
ولعلك تلاحظ عدم وجود تشابهات مزعجه بيين شعراء ذلك الجيل الذين أكملوا طريقهم، فقد كان العدد في الليمون، ولم يستمر أو لم يقدم جديداً ومغايراً سوى عدد محدود جداً كان مجدي الجابري على رأسهم بالطبع.

تستطيع ان تقول وأنتَ مرتاح البال والخاطر أن مجدي الجابري كان "رائد ثقة"لجيل الثمانينيات فى شعر العامية، الجميع استفاد من افكاره وتجربته ومغامراته، وتشجع وغامر، منهم من نجح ومنهم من قضى نحبه، وظل مجدي الجابري حتى بعد رحيله في مكانته العالية التى لا يطاولها أحد.

رببما لأن مجدي الجابري كان واخد المسألة بجدية، لم ينشغل سوى بالكتابة والتجريب، كانت الأمسيات الشعرية بالنسبة له أشبه بالديناصورات التى انقرضت، المنبر – منبر الأمسية – كان يستفزه، وكان يقول انتهت مرحلة الشعر المنبري خلاص، كان يفضل جلسات القراءة والنقاش والذي منه..فينك يا مجدي تشوف الحفلات الشعرية أم تذاكر؟!


Post a Comment

أحدث أقدم