ثنائية الروح والجسد


بقلم: شريف الوكيل

في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" حدد عميد الأدب العربي طه حسين بعض أبعاد الإنسان المثقف كرجل علم ومعرفة، تحتم عليه الظروف التاريخية التي يعيشها في بلد كالمجتمع المصري في النصف الأول من القرن العشرين، أن يتخذ موقفا سياسياً عاما يضع المثقف دائما في منطقة الوعي أو الوجدان القلق أو المعذب...

 ولكن ورغم تغيير السمات والأشكال الخاصة للإنسان المثقف، إلا أن المضمون العام للمثقف ليس مجرد إنسان علم ومعرفة وحسب، بل لابد له أن يمتلك بالإضافة إلى ما سبق من صفات يقظة الملكات كلها والحواس،بمعنى أن تكون له شخصية إنسانية متكاملة . ومن هنا يصدق رأي مفكرنا الكبير توفيق الحكيم أن المثقف هو صاحب الإحساس والتذوق، وممثل ليقظة الملكات كلها، أي أنه فنان وأديب أيضا ...وعادة ما يمثل الفن والأدب موقفا حضاريا عاماً، فكان للمفكر والأديب في روايته"الرباط المقدس" موقفا من قضية خاصة جدا، وهى قضية العلاقة بين الفن والواقع بصفة عامة والعلاقة بين الواقع والفن الروائي بصف خاصة . يصور لنا توفيق الحكيم في روايته التي كتبها عام ١٩٤٤حياة إنسان مثقف" مفكر وفنان" يعيش وسط المدينة، والرباط المقدس ليس هو رباط الزوجية كما قد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، بل هو الرباط الذي يربط المفكر والفنان بقيمه المعنوية والجمالية ، وهذا ما يؤكد عليه الكاتب في الكثير من مشاهد الرواية...

فالرباط المقدس تعتبر رواية رومانسية تطرح بطريقتها الخاصة قضية الالتزام من ناحية المفكرين والكتاب بقيمهم ومثلهم العليا بصفة عامة، وقضية العلاقة بين الفن والواقع بصفة خاصة ... 

ولا يشير توفيق الحكيم إلى هذا المغزى للرباط المقدس، إلا في نهاية الفصل الأخير من الرواية، وذلك عندما نسمعه يقول على لسان راهب الفكر(إن التضحية في سبيل الواجب لذة، والحرمان في سبيل الشرف لذة، إن الحياة بغير القيم المعنوية هي حياة تافهة لا معنى لها، وماذا يكون الفارق بين راهب الفكر وثور في حقل إذا فقد اللذات الروحية، ولم يكن له غير لذات الأنسجة والذرات... كلا إن الروح في حياتنا القصيرة ليست مصدر شقاق وشغب وشقاء فتلك مزاعم الجسد...

ولكنها منبع سعادة من نوع آخر...ولو آمنت المرأة بأن كبح جماح النفس من أجل واجب الزوجية يمنحها من السعادة الروحية، ما يعوض عليها ملذات البدن...

لما استهانت برباطها المقدس لحظة واحدة، فكيف إذن براهب الفكر وهو الذي يعيش للجمال الفكري، ويبصر بنور الروح، أن يستهين برباطه المقدس الذي يربطه بقيمه المعنوية ) . هذا هو المغزى الذي خرج به المفكر في الرواية من تجربته القاسية مع امرأة"لعوب" ذات ملامح نفسية تتفق مع الملامح النفسية لسيدة عصرية من طراز أوربي زائف، هي الحياة الاجتماعية والسياسية بأكملها في أواخر الثلاثينيات بمصر... وما هذا الفضول الذي دفع الفتاة إلى قراءة رواية{تاييس} كلها في ليال ثلاث، والى مطالعة كتبه بهذا التحسس والنشاط..؟ أتراها أرادت بعد ذلك النفوذ إلى حقيقة شخصيته هو في أعماق كتبه إذا كان هذا ما رمت إليه فما الدافع . وعندما تقدمت هذه السيدة الطائشة لتقول لراهب الفكر"كيف تستطيع فتاة طائشة مثلي إن تصلح أمرها ليرتفع شأنها في عين زوجها..؟ أهنالك أمل في أن فكري يكون في مستوى فكره..؟ أليس لمثلي أمل في اجتياز أعتاب هذه المنطقة السامية المقدسة، التي تسمونها منطقة الفكر...وهل كتب على إلى الأبد أن أبقى خارجها أتطلع إليها..؟ لتسكت الفتاة، وتترك راهب الفكر واقفا في شبه ذهول، تدوي في إذنه عباراتها الباكية ليدرك لأول مرة في حياته ،أن رجل الأدب له رسالة تماثل رسالة رجل الدين...لطالما كتب يصف هذا التماثل، ولكنه لم يوقن أن الأمر حقيقة واقعية إلا اليوم... ومن هنا يمكننا أن نرى في الرباط المقدس المفكر والفنان وهو منهمك في مناقشة قضية ذات خيوط رفيعة جدا، وهى مدى علاقة الفن الروائي بمقاييسه وقوانينه في الشكل أو المضمون، بالواقع الاجتماعي والنفسي، من خلال عرضه للقضية يتجسد في علاقة فكرية وأدبية بين سيدة تعيش بالقاهرة إبان الثلاثينيات، وتحمل الكثير من معالم المرأة الغربية العصرية، وبين أديب وراهب فكر، لا يقف أمام هذه المرأة العصرية موقف الأديب أو المفكر المصري أو العربي بل موقف المفكر والأديب على نسق راهب الفكر، من النموذج الذي قدمه الكاتب الفرنسي"أناتول فرانس" في روايته التي تسير على نهج فني روائي غاية في الأناقة وإن كان مضمونها التاريخي أو الأسطوري غاية في البساطة، من حيث تكراره وانتشاره على مر العصور والأزمان . ليتذكر راهب الفكر في رواية الحكيم، كارثة راهب "تاييس" ومأساته كلما جاءته السيدة المصرية العصرية، للتحدث في شئون الفكر والأدب...أو عندما تعرض عليه بعض إنتاجها الروائي، خاصة وهو الإنتاج الذي يسجله الكاتب داخل نطاق روايته تحت عنوان (الكراسة الحمراء) ليكون بمثابة قصة داخل القصة الأساسية للرباط المقدس... ومرة أخرى طافت برأسه صورة راهب تاييس.

 إن تلك الغانية اللعوب جاءت الراهب تجر وراءها كل ماضيها الغارق في الضلالة والزيغ، وطرقت باب صومعته تلتمس أن يكشف لها عن نور الحق...أتراه قد أبى عليها وردها يائسة...لا...ليس من حق راهب أن يصد إنسانٱ عن نور الله. هو أيضا ذلك الخادم من خدام الفكر، والراهب المنقطع لنشر نوره بأي حق يزرع اليأس في قلب من يريد وجهه..؟ وهنا أيضا أدرك أن عليه واجبا آخر، غير واجب الخلق والتأليف، نعم... عليه أن يمد يده على قدر الإمكان لتلك النفوس المسكينة العمياء فيفتح نوافذها رويدا رويدا لنور الفكر الدافق.

 ولكن موقف المفكر والأديب في الرباط المقدس تجاه هذه الفتاة يذكرنا على الفور لموقف "همام" تجاه "سارة" في رواية العقاد، فهو مجرد موقف فكري تأملي، يدور بين الشكوك والقطيعة، أيضا وهي عناوين موجودة على رأس فصول الحكيم كذلك وعلى الرغم من اختلاف المصائر لكل من الأديب والمفكر، ثم لمصير الفتاة المتباين في الرباط المقدس، عن مصير تاييس، فهي لم تبلغ مراتب القديسات، كما لن يتحول راهب الفكر في العصر الحديث بنصر في رواية الحكيم، إلى مثقف زائغ البصر عن رسالته تجاه شعبه ومجتمعه، إلا أنه لن يستطيع الاستمرار في أداء هذه الرسالة نظرا للظروف المحيطة به من ناحية، ولطبيعة تكوينه الفكري والعقلي والنفسي من ناحية أخرى.

 وهكذا يعالج الحكيم في الرباط المقدس قضية الرباط الفني بين الأديب وحقائق الحياة ، فعادة ما يرى الأديب الحياة من خلال خياله، وأن وظيفة هذا الخيال هو خلق الحقائق من غمام الأوهام...

تلك هي موهبة الكاتب الكبرى إن يخلق من مادة ذهنه دنيا أخرى مماثلة للأولى، مستعينا في ذلك بكثير من التأملات المجردة والتي تخرج الفنان عادة من الوجود الحقيقي لتقذف به إلى منطقة اللاوعي. ليشترك الأخوة الثلاثة، عز الدين ذو الفقار منتجا ومحمود ذو الفقار مخرجا وصلاح ذو الفقار ممثلا في تحويل فكرة الحكيم من المقروء إلى المرئي ليقدما لنا الرواية فيلما عام ١٩٦٠، من خلال سيناريو وضعه وبسطه الكاتب يوسف جوهر.

. (شريف الوكيل)

Post a Comment

أحدث أقدم