كف مريم

(قصة قصيرة)


بقلم: عبير حسني 

حاولت أن أستجمع الكلمات من مكامن عقلي، أن أنشر الأمن بمدينتي الخائفة، ولكني لم أستطع أن أطلق ساقي للحياة ...
حقائب الوهم أحكمت أقفالها دون أن تسمح لأملي الأخير بالدخول اليها،
صليت صلاة التائبين، جفت دموعي ولكن عاندني اليقين ...
جمعت تمائم الأجداد وهرولت أعلقها على أشجار شاخصة وقد تملصت منها رقاب الآمال الوليدة.
غادرت عيادة الطبيب منشقة عن الوعي،
تأمل نتيجة فحوصاتي الأخيرة قائلا: انت مؤمنة وقوية.
قاطعته بضيق متى أبدأ العلاج؟
قال: بعد يومين نراك أيتها المقاتلة ،،
تابعت: سأكون هنا في الموعد إن تمهل بي القدر ...استأذن الآن لأعد أسلحتي المعتادة.
ابتسم لتفهمه اضطرابي الذي فضحه تهكمي الواضح.

لا أعرف كيف تمكنت من قيادة سيارتي الى خارج البلدة، أشباح رمادية تترصدني ...تحاول أسري، ابتسامة ابني تحاربها ببسالة وهو يحاول إمساك يدي...ولكني وللمرة الأولى لم أستطع منحه كفي،
هل أسلم يدي للمرض المتربص؟   بدوت مستسلمة، حقا تحاوزت معركة مشابهة منذ سنوات ولكني الأن ضعيفة ...أسلحتي باتت عتيقة، قوتي أصبحت خائرة وعنفوان المرض متعجرف لن يرحمني.

جاء اتصال زوجي " ماذا أخبرك الطبيب "؟
يا ليته كان بجانبي، ليته ذهب للطبيب ليعرف حالة مرضي بنفسه، ليته أخفى علىّ حقيقة الوحش الذي يحاول التهامي مبكرا ...ليت وليت...
ضحكت ساخرة: حمدا لله سأبدأ القتال قريبا لا تقلق، حاول أن تنجز عملك بنجاح وعد إلينا أنا وولدك بحاجة اليك،
وانتهت المكالمة بعدما وعدني بمحاولة العودة لأرض الوطن في أقرب وقت كالعادة.

لم أدري كيف قادتني الطريق الى تلك الضاحية الهادئة، وإذا بمنزل من طابق واحد قابع بين شجيرات التين، وصوت ينادي من بين الشجيرات 
" مريم " 
تأملت الفتاة التي ظهرت من العدم تهرول، تحمل بيدها سلة كبيرة من الجريد، راقبتها مشدوهة، تتبعت خطوات الفتاة بين الشجيرات حتى وصلت لفناء واسع.
وإذا بشاب يجلس أمام آلة بدائية لصنع الفخار، يديه تلامس قطعته بحرفية ونعومة ليس لها مثيل، لم ينتبه لوجودي، واصلت أصابعه حفر خطوط وأشكال جميلة جعلت من الطين الخرساء تحفة تكاد تنطق بالجمال 
" بماذا أساعدك سيدتي " قالتها الفتاة لتخرجني من المعنى الخالي الذي تملكني، سحبتني نظرتها لهذا الخلاء الكبير بعيدا عن أعماق عقلي المتناثر الأشلاء ...أدركت المكان ولكني تائهة عن الزمان ..
سألتها" ماذا تصنعون "؟ أجابت: نصنع الفخار من الطين.
ـ أنت مريم؟
أجابت: كيف لك بمعرفة اسمي؟
لم أعطها انطباعا جيدا بغموض حضوري وعدم إجابتي لسؤالها 
أنقدني صوت الشاب يقول بود: أتودين التعرف على أعمالنا سيدتي؟
كان سؤاله طوق النجاة الذي تشبثت به، لأحاول الوصول لعالم الواقع الذي التفه الضباب، وتاه عني " أتمنى ذلك " قلتها وأنا أنظر بعيونها، تقدمت تسبقني لحافة الخلاء وأشارت لخيمة رمادية، دخلت وراءها وإذا بأرفف تحوي مجموعة من التحف ...نعم التحف، ليست مجرد منحوتات شعبية أو أواني تقليدية من الطين،
وكان لبعضها لمسة فنان لم تخفى على عيوني،
لاحظت " مريم " ارتباكي ورعشة يدي، فحملت إحدى الأواني الفخارية المتراصة بعناية، كانت بديعة جدا، فأبديت موافقتي لاختيارها وأشرت لأحدي القطع التي لم أعرف ماهيتها، فقالت إنها تستخدم لطهي الطعام.
الفتاة تملك تلك النظرة المتحدية في ذكاء، المهاجمة في ثبات، اخترقت شتاتي المتخاذل بقوة، من أين لها بتلك الورود اليانعة حول عالمها الفقير المتهالك، كيف لها بترويض هذا اليأس الجامح بعالمها !!!

انتبهت الى امرأة عجوز وقد تدثرت من رأسها حتى أخمص قدميها برداء أسود تجلس بمقابلة الشاب، صامتة ...متأملة ...تشبه خزان يمتلئ بمياه المطر، يجمع قطراته في صبر عجيب.
لمحت شمس ما بعد الظهيرة ترتعد بكبد السماء، وتزيح الضباب عن زماني المفقود بروية ...

ـ " إنها جدتي " ...وهذا أخي، قالت مريم
التي حملت عني الفخاريات، واقتربت من الشاب قائلة: سوف تشتري السيدة هذه وتلك.
ابتسم بهدوء، وطلب منها مرافقتي، تخطيت الكتل الطينية وبقع المستنقعات الترابية الحمراء، وعبرنا شجيرات التين ...
ـ " مريم ألا تذهبين الي المدرسة؟ "
ـ بالطبع، فأنا أدرس بمدرسة زراعية.
ـ كيف هذا؟ من أين لك بالوقت!
تابعت قائلة: هذا أخي ولقد أصيب بمرض نادر أقعده عن الحركة إلا أنه يصر على العمل، وجدتي عجوزكما ترين لا تقوى على خدمتنا، بعدما توفي والدي ولحقت به أمي منذ عامين ...
أخي لم يكمل دراسته الجامعية بعد وفاة والدي، أما أنا فأساعده نهارا وأدرس ليلا" للحصول على شهادة تؤهلني لزراعة الورود، وتصديرها أيضا. .
انتابتني الدهشة لحديثها الواثق، وجدية ملامحها وقوة لهجتها، توقفت أمام سيارتي أحمل عنها الفخاريات، مدت كفها الصغير تصافحني مودعة، شعرت بجموع من الفراشات المبتهجة تمرح بأعماقي.
 كنت كمن مر بغابة مخيفة مترامية الأطراف متشابكة الأغصان، ليظهر هذا الممرالآمن من العدم.
  أفكاري تتقافز وتتراص وسط الشجيرات ورائحة الطين تلتصق بها لتجذبها بعيدا" عن عقلي.

استقبلتني الشوارع المزدحمة بثورة عارمة، حملت عن روحي خدوش الإنهزام، وكدمات اليأس، وتلقفت عصا أتكأ عليها لعبور أخر كتلة صخرية اعترضت نهر همتي.

أغلقت باب غرفتي، وطل نور من كوة بإحدى الفخاريات يعكس طيف قمر يتملل بالسماء منتظرا لقراري ...
حملت حزمة من الحطب واعتليت جبل السكينة، غادرت أخيرا كنف وادي الرهبة والخوف الذي حاصرني.
هاتفت الطبيب قائلة " سأحضر غدا في الموعد المحدد "
وخيل لي أن ابتسامة " مريم " الواثقة ترتسم بالفخاريات.    

Post a Comment

أحدث أقدم