القصة بين الصورة واللوحة 
قراءة فى مجموعة ( مفترق طرق ) 
للكاتب الكبير سمير فوزى 


بقلم: زكريا صبح

بنفس روائى ومفردات العالم الكبير للرواية يكتب الاستاذ سمير فوزى عالمه القصصى ، وربما بدا ذلك واضحا لمن قراء روايات مثل بيت ياجورى ، او الشبراوية او العكاز حيث تكاد جميعها ان تكون فى بيئة واحدة وابطال متشابهون ، لكنه بحنكة الكاتب استطاع ان يعيد الاستعانة بهذه المفردات _ اتكلم هنا عن المكان ،الزمان ، الشخوص ، القضايا _
اقول استطاع الاستعانة بهذه المفردات لخلق عوالم جديدة  
مفترق طرق لم تبعد عن ذلك كثيرا فهى تكاد ان تكون احداثها فى شبرا او محيطها  
وتكاد تكون هذه الشخصيات التقينا بها قبل ذلك فى رواية بيت يا جورى مثلا ، فهنا نرى البيوت متواضعة الهيئة التى تلاعب بها الزلزال فكادت تسقط ، ونرى الطرقات الضيقة وسوق الخضار ، والجيران وحالات التحرش والخيانة ، وفقر الفكر المستشرى ، والاحباطات المتتالية للابطال  
يبقي ان نتابع الكاتب اثناء عرضه الشيق وادائه الرشيق اثناء الكتابة كما نتابع لاعب كرة ماهر يلعب فى الحيز الضيق مدة ٩٠ دقيقة مع اللاعبين انفسهم والكرة ذاتها والمرمى الذى يحرص اللاعب على اصابته بالاهداف ، هو ذاته اللاعب الذى يتعامل مع هذه المفردات ويبهر الناظرين اليه بأدائه الرائع ، وكذا يفعل معنا السيد سمير فوزى حيث يتعامل مع مفرداته مرارا وفى كل مرة ينتزع منا اهات الاعجاب ، 

*** فى نحو خمس عشرة قصة تمثل خمس عشرة لمسة من لاعب ماهر يتوسط الكاتب ملعبه مسددا كرته فى مرمى العقول والقلوب وربما استطعنا بعد مشاهدة هذا العرض الشيق ان نرصد عددا من السمات العامة فى هذا العمل 

اولا _ نحن امام كاتب لديه عين واعية وكاميرا حاضرة تستطيع التقاط الصورة من الزاوية التى تجعلنا نتأملها مع الكاتب فى هدوء وترو ، وهذه الزاوية الصغيرة تفتح على عالم كبير يناقش من خلاله قضايا ويرسم لنا شخصيات ويبثنا فيها احزان و ينقل لنا نقلا فنيا جوانب مختلفة من واقع مجتمع فقير ومحبط استشرت فيه الرذائل وتفحش فيه الفساد 

ثانيا _ سنلاحظ ان الرجل يتصدر معظم قصص المجموعة باستثناء قصة او اثنتين تصدرت المرأة فيهما المشهد وكانت فى بؤرة الاحداث وخاصة فى قصة ( ضوء هزيل يرتعش ) حيث الام هى البطلة الرئيسة وابنتها التى جلبت لها العار هى بطلة تقف على الدرجة ذاتها من الاهمية مع الام كبطلة اولى ، ويظهر الرجل هنا باعتباره هامشا على المتن 

ثالثا _ يبدو الرجل فى معظم القصص رجل جاوز الستين او يقترب منها ، ويظهر محبطا من العالم المحيط به فهو مثلا فى القصة الرئيسة والتى حملت المجموعة عنوانها ( مفترق طرق ) يبدو مفجوعا فى ابنائه الذين باعوا البيت القديم لامرأة سيئة السمعة ، يبدو فاقد الهوية المعنوية بعد فقدانه الهوية المادية ، يعانى من الغربة لسنين طويلة ثم من الغربة فى وطنه وبين اهله لذا لم يكن غريبا ان يكون عنوان القصة مفترق طرق ، حيث المتاهة وضياع معالم الطريق 

** ومن مظاهر احباط الرجل ضياع الحبيبة التى التقاها فى ( عيادة رمد ) بعد سنين طويلة لكنها لم تنتبه له ربما لضعف بصرها وربما لضعف نفسها التى اتسمت بالتمرد والسعى وراء المادى والمالى على حساب المعنوى  

** وقريبا من ذلك نرى ذلك الرجل الذى اصبح نزيل بيته دائما لضعف صحته واكتفى بمشاهدة العالم من خلف نافذة البيت بينما امرأته تبدو باحثة عن المتعة ، وهذا ليس اكثر من استنتاج رسم لنا الكاتب طريقه عندما القى الينا بلفتة بسيطة مفادها حرص تلك المرأة على دس قميص نوم احمر فى حقيبتها ، 

** ويبدو محبطا فى قصص مبعثرة كثيرة مثل قصة صورة جماعية ، وملامح مفقودة ، وممر خلفى وغيرها من القصص 

رابعا _ الكاتب لديه من الخبرات ما يجعله يقلص عالمه الروائى الى عوالم قصصية مكتنزة البناء مكثفة الكلمات جيدة من حيث زواية التقاط الصورة واشد ما يلفت الانتباه فى حرصه على روح القصة القصيرة افتتانه بالرمز ، فما من قصة الا وكان الرمز حاضرا وبقوة ، فالكاتب قد يجعل من قصته فى مجملها رمزا وقد نكتفى منه بذلك فما بالنا بكاتب يتلاعب بالرمز كمنسق زهور حيث يضع الرموز فى نصوصه كنجوم زاهرة نستدل بها فى رحلة هادئة   
فهو مثلا بجعل من اللوحات المعلقة رمزا ويجعل من المكتوب على اللافتات رمزا ويجعل من اهنزاز اللوحة او الصورة رمزا وعلى ذكر امر اللافتات احب ان ( الفت) نظر القارئ الى ما يلى  
١ - حضور اللوحة او الصورة او اللافتة كان امرا لافتا بحق فمثلا  
فى القصة الاولى عيادة رمد نتأمل مع الكتاب هذه اللوحات المعلقة التى تخبرنا بتاريخ صاحب العيادة والشهادات التى حصل عليهل 

٢-فى قصة حبل تائك وحضور رمز ذوبان الحبل وايضا حضور الساعة المعلقة بهذا الحبل التائك الذى كان معادلا موضوعيا لضعف الرجل وانهزامه  

٣ _ ظهور اللافتة فى قصة مفترق طرق ، وهذه اللافتة تشير الى طريقين اما الى طريق البيت القديم او الى طريق العالم الجديد حيث يعيش ابن البطل المحامى الذى باع بيت والده 

٤ _ فى قصة ملامح مفقودة حيث تهتز اللوحة المكتوب فوقها اسم والد البطل من شدة الهواء وهطول الامطار فى اشارة الى اهتزاز داخلى للاسرة كلها

٥ _ فى قصة ممر خلفى حيث صورة معلقة للسيدة العذراء فى اشارة لديانة موظفة الشهر العقارى 

٦_ حضور الصورة او اللوحة كان متضمنا فى القصص فما بالك اذا جاء عنوانا لقصص اخرى مثل 
صورة تهتز وصورة جماعية  
قصتان كان عنوانهما الصورة او اللوحة ومن خلالهما يسرد لنا الكاتب الحكاية ، 

ربما كان فيما طرحنا الكفاية لاثبات اثر الصورة او اللوحة او اللافتة فى هذه النصوص بما لها من رمزية واشارة ولذا لم يكن غريبا ان يكون عنوان مقالى ( القصة بين الصورة واللوحة ) 

** خامسا 
حرص الكاتب على اختيار اسماء ابطاله بعناية  
فمثلا فى قصة عيادة رمد رأينا ان اسم البطلة حورية بما يحمله الاسم من دلالات الجمال 
وفى قصة صورة جماعية كان اسم البطل حسن بما له من رمزية الحسن وجمال الهيئة 
وفى قصة مفترق طرق اسم البطل يحي عامر وفيه دلالة على الحياة وعامر فيه دلالة على العمارة وقد كان البطل يبحث عن بيته 
وفى قصة حجرة مظلمة نجد اسم البطل ضياء بما له من هالة نورانية حيث كان مصليا فاعلا للخير 
وهكذا يمضى الكاتب فى حرصه الشديد على اختياره اسماء ابطاله 

** اتسمت اللغة بايقاع هادئ ليس فيه سرعة او عجلة او اندفاع ، وربما كان ذلك مناسبا لايقاع الحياة الرتيب الهادئ الذى يسلم ابطاله للموت او للقهر او الاحباط او االظلم او ضياع الهوية  

** كنت وما زلت ابحث عن سؤال مؤداه كيف تقترن المتعة بالحزن ؟

ولم ازل ابحث عنه ، وكنت اتذكره كلما انتهيت من قراءة قصة من هذه القصص ، كيف انتزع الكاتب من نفسى اهات المتعة والاعجاب بأدئه اللغوى والسردى ورسم عالمه ووصف ابطاله ورمزية المفردات ، اقول كيف انتزع منى هذا الاعجاب وجعلنى فى لحظات ممتعة حال القراءة وفى الوقت ذاته زرع شجرة للحزن و ساق سحابة للدموع فور انتهاء القراءة ، الحزن على اوضاع الابطال والبكاء لاجل نهاياتهم المأساوية 

فما بين حزنى على موت الحفيد فى قصة حجرة مظلمة والبكاء من اجل جده المكلوم و بكائى على الفتاة التى وقعت فى فخ الخطيئة واضطرار اهلها تزويجها لرجل من قلب الصعيد رافضا ان يتصل بها احد من اسرتها ما بين هذه الحال وتلك لم تزل مرارة الحزن عالقة بالحلق لم تغادره.

Post a Comment

أحدث أقدم