حول قصيدة (الكَتَّانة) من ديوان (غياب حر)
للشاعر عاطف عبد العزيز
أولاً القصيدة :
الكَتَّانة
في نَهارٍ مثلِ هذا، طويلٍ ومُنقسِمٍ
على نفسِه،
وقفتُ أتلفَّتُ في مَمَرٍّ يعِجُّ بالمسافرين،
على ذراعي مِعطفٌ رماديٌّ، وفي جَيْبي
عقدٌ للعملِ،
وبطاقةُ سفَرٍ
إلى البلدِ الإفريقي البعيد.
أخبروني وقتَها، بأن النِّساءَ هناكَ
يمشينَ في الأسواقِ عَرَايا
.. فانبسطتُ،
بيدَ أنَّ أحدًا أطلقَ النَّارَ على الرَّئيس،
كي ينبطِحَ الرَّجُلُ بكرشِهِ الضَّخْمِ متفاديًا
من الرَّصاصة،
لينجوَ،
وتضطَّربَ بي الحال.
هكذا كُتِبَ عليَّ أن أعودَ أدراجي
ومعي حقائبي،
من أجلِ أن ألتقيكِ في المسَاءِ صُدفةً،
وينموَ بيننا السِرُّ الذي سوف يُشبهُ خيطًا دقيقًا
من الحَرير،
لا .. بلْ من الكَتَّان.
سِرُّنا كانَ ضئيلًا
.. غامضًا،
أقربَ ما يكونُ إلى تَعثُّرِ خُفٍّ منزليٍّ
.. في سَجَّادةٍ.
حتى إن رِعدةً خفيَّةً كانت تسري كلما التقتْ
عيونُنا
في غفلةِ الرِّفاق،
أنظُرُ أنا خَجِلًا إلى شيءٍ في حِجْري،
وتلجئينَ أنتِ إلى كَتِفِ فتاكِ القَوِيِّ
ذي الشَّعرِ اللامع،
الشَّعرِ الذي عادةً ما يُميِّزُ الأذكياءَ
الـمُتعجِّلِين.
ليلتَها،
بانَ الفتَى كما لو أنه يعرفُ عنِّي كُلَّ شيء
.. كلَّ شيء،
وإلَّا لماذا ظَلَّ يمنحُني ابتسامتَه المُشْفِقةَ
طَوالَ الليل؟!
تعرفِينَ أنتِ
أن الأيَّامَ ليس لها غيرُ أن تمضِي
إلى غايتِها،
تعرفِينَ أيضًا، أن النِّسيانَ فنٌّ قدِيمٌ
قِدَمَ الحمَاقةِ ذاتِها،
فنٌّ لا يعرفُ مسالِكَه إلا قُدامى الزَّبائِن
في خَمَّارِة الفشَلِ العاطِفيّْ.
ومثلما نسِيتُ إفريقيا، وما وعدَتْنِي بِه
مِن أثدائِها المكشوفة،
أمكنني نسيانُ مشروعِنا السِّرِّيِّ
الذي ارتعشَ برعمُهُ –خُلسةً- ذاتَ مساء،
وسطَ غيمةٍ من دُخانِ السَّجائِر،
كي يتكفَّلَ بقلبي من يومهِا نِسوةٌ ضائعات،
لم يكن ينقُصُهنَّ الذَّكاءُ،
أو التَّفاهةُ،
أو التَّعجُّل.
أيضًا، بدتِ الأيامُ على الناحيةِ الأخرى
وكأنها قد تكفَّلَت بِك،
ومشتْ بالمَحبَّاتِ النَّيِّئةِ إلى بحر الظلمات،
إذ فَرَّ الذَّكِيُّ بكَتِفيْهِ العريضَتَيْنِ
من الماضِي
إلى امرأةٍ أخرى منسوجةٍ من القَزِّ
الذي لا هوَ ماضٍ
ولا هو مستقبلٌ،
كي تنكفئي على ما تبقَّى من كَتَّانِكِ المنسُول،
تمامًا
مثلَ قِطَّةٍ تفْحَصُ فِراءها.
الآنَ،
وفي بلدٍ بعيدٍ يهطِلُ فيهِ المطَرُ مُشْمسًا،
صِرْتِ تَقطَعينَ الطَّرِيقَ من البيْتِ
إلى العَمَل،
ثم من العَمَلِ إلي البيْت،
مثلَ جِنِّيَّةٍ خرجتْ للتَّوِّ من التقاءِ بحريْن،
أحدُهما خمرٌ،
والآخَرُ .. عذْبٌ فُرات.
بِتِّ امرأةً وحيدةً،
لها ابنةٌ مُراهِقةٌ لم تزلْ تتلمَّسُ طريقَها
إلى المُواعَدات،
لديها سِنْجَابةٌ، وشُرفةٌ تُطِلُّ على الزُّقَاق.
وها أنتِ
تكتبينَ شِعرًا لا يخْلُو من الأخطَاءِ،
تلك التي تجعلُهُ أعمقَ إيجاعًا،
وأكثرَ لياقةً بالحيَاةِ
التِي هي أخطاءٌ،
فوقَ أخطاءٍ،
تحتَ أخطاء.
أما عني،
فصِرتُ رَجُلًا يحُوزُ مُكعَّبًا من الطُّمأنينة،
يُقلِّبُهُ بين أصابعِهِ قَلِقًا كُلَّ ليلةٍ،
ثُم يُعيدُه إلى رفِّ الأيقونات.
صارت عندي عائلةٌ لها حنانٌ مُعتَّقٌ
يُذكِّرُني بقِنينةِ العِطْرِ التي جاءتْنِي
ذاتَ يومٍ
كهديَّةٍ من صديقي الهنديّْ.
كتَبَ إليَّ الرَّجُلُ مرةً يُحذِّرُني:
«في دولابِكَ الآنَ لَغَمٌ يا عاطِف،
أجل .. لديكَ عِطْرٌ مسحُورٌ، لا يُؤمَنُ
لهُ جَانِب».
العِطْرُ،
كانَ يحمِلُ –بالفعلِ- رائِحةَ فردوْسٍ مفقود،
كلما نزعْتُ عنْهُ السِّدادَ،
اضطَرَبَ النَّاسُ من حوْلي لذَّةً،
والتهبَ حَلقِي،
ثُمَّ لا يلبثُ أن ينقسِمَ على نفْسِهِ النَّهار.
رِعْدةٌ خفِيَّةٌ
لم تزلْ تسري بينَنا يا سيِّدةَ الأخطاء،
وكأنَّها غَدْرَةُ العِطْرِ المسْحُور.
أُحسُّها كلّما آويْتُ إلى حِضنِكِ
في اللقاءِ
أو في الفراق،
إذ تضغطينَ ظَهْري إليكِ بكفٍّ مبسوطةٍ،
حتَّى أنخرِطَ فى النَّحِيب،
بينما تقِفُ سِنجابَتُكِ على مقربةٍ تتأمَّلُنا،
كمِزْقتَيْنِ .. من الكَتَّان.
يوليو 2018
ثانياً : القراءة
بقلم: أمجد ريان
نص متمرد على الكتابة التقليدية ، وأحد أوجه هذا التمرد نظرته للحقائق الواقعية من حولنا . والمعروف عنها ــــ في الفكر التقليدي ــــ أنها ثابتة وساكنة و مستقرة ، ولكن كتابة الشاعر تنظر للحقائق الواقعية على أنها متذبذبة ومتقطعة وغير مستقرة .
وفي قصائد الحب السابقة يكون الحبيب والحبيبة محددان واضحان والشعراء يشعلون المعاني حول قضية الحب ، ويطرحون فكرة الحب القوي الراسخ المستقر . لكن في قصيدة (الكَتَّانة) حقيقة الحب : هشة وعابرة ومتحركة ومتغيرة ومتذبذبة ، تغيب وتحضر كما لوكانت دوامة متحركة . قضية الحب في هذا النص محض صدفة عابرة وممزقة ومتحركة ، بدأت قصة الحب صدفة في أثناء عودة بطل النص من سفر بعيد :
(هكذا كُتِبَ عليَّ أن أعودَ أدراجي / ومعي حقائبي، / من أجلِ أن ألتقيكِ في المسَاءِ صُدفةً، / وينموَ بيننا السِرُّ الذي سوف يُشبهُ خيطًا دقيقًا من الحَرير، / لا .. بلْ من الكَتَّان. / سِرُّنا كانَ ضئيلًا / .. غامضًا) .
ويبدو إن السر بين الحبيبين بسيط عابر ، مثل خيط دقيق ضعيف من الكتان ، وليس رباطاً وثيقاً ، والحب هنا لا يحتاج حماسة أو إصراراً مثلما يكون غالباً في قصائد الحب) ، فالحب هنا مسألة ضعيفة وعابرة ، (أقربَ ما يكونُ إلى تَعثُّرِ خُفٍّ منزليٍّ .. في سَجَّادةٍ) .
ثم تنهار المحبة أكثر وأكثر ، فالحبيبة تلجأ لحبيب غيره ، وتخلص له لدرجة أنها تحكي له أسرار علاقتها به : ( ليلتَها، / بانَ الفتَى كما لو أنه يعرفُ عنِّي كُلَّ شيء / .. كلَّ شيء، وإلَّا لماذا ظَلَّ يمنحُني ابتسامتَه المُشْفِقةَ / طَوالَ الليل؟!)
و تُصرب المحبة بعد ذلك بخنجر أشد : فليست المسألة مجرد مقاطعة ، بل فشل عاطفي ، ونسيان ، بل يترك بطل النص الحبيبة ويلجأ إلى نساء أخريات تافهات ومتعجلات .
وفي مقطع تال : الحبيب الجديد نفسه ، يترك الحببة ، ويفر إلى امرأة اخرى : (إذ فَرَّ الذَّكِيُّ بكَتِفيْهِ العريضَتَيْنِ / من الماضِي / إلى امرأةٍ أخرى منسوجةٍ من القَزِّ / الذي لا هوَ ماضٍ / ولا هو مستقبلٌ ، كي تنكفئي على ما تبقَّى من كَتَّانِكِ المنسُول، / تمامًا / مثلَ قِطَّةٍ تفْحَصُ فِراءها). لقد أحب بطل النص إمرأة أخرى ، وهي أحبت رجلاً آخر ، وهذا الرجل الآخر أحب امرأة مختلفة ، وبذلك تكون العلاقات كلها قد وصلت إلى قمة التمزق والانفراط والخلل .
وتلي هذا مقاطع تتأمل انتهاء العلاقة تماماً : صارت الحبيبة في وضع مختلف للغاية ، وكأنها لم تمر بهذه العلاقة ، بعد أن تحرك الحب واختفى : وكأننا بإزاء قصيدة جديدة عن امرأة مختلفة :
(بِتِّ امرأةً وحيدةً، لها ابنةٌ مُراهِقةٌ لم تزلْ تتلمَّسُ طريقَها / إلى المُواعَدات، / لديها سِنْجَابةٌ، وشُرفةٌ تُطِلُّ على الزُّقَاق. / وها أنتِ / تكتبينَ شِعرًا لا يخْلُو من الأخطَاءِ، / تلك التي تجعلُهُ أعمقَ إيجاعًا، / وأكثرَ لياقةً بالحيَاةِ / التِي هي أخطاءٌ، / فوقَ أخطاءٍ، / تحتَ أخطاء).
الحبيبة الناسية المنسية ، صارت امرأة غارقة في الحياة وتطرح القصيدة ملامح حياتها الجديدة ، ومن هذه الملامح أنها صارت منشغلة بكتابة شعر مليء بالأخطاء ــ شعر يرمز للحياة ، لأن الحياة نفسها : ليست سوى مجموعة من الأخطاء ، والعلاقة بين الحبيبين منذ البداية ليست سوى خطأ كبير .
أما الحبيب ، بطل النص فقد صار يعيش أجواء مختلفة في حياة قلقة عبثية لا معنى لها : (أما عني ، / فصِرتُ رَجُلًا يحُوزُ مُكعَّبًا من الطُّمأنينة، / يُقلِّبُهُ بين أصابعِهِ قَلِقًا كُلَّ ليلةٍ، / ثُم يُعيدُه إلى رفِّ الأيقونات).
والنص نفسه ، ينسى حالة الحب ، ويهتم بمعطيات تفصيلية هامشية : يهتم بقنينة العطر التي أهداها صديق هندي لبطل النص ، وهذا الصديق لا علاقة له بالدراما الشعرية الأساسيىة في النص ، وتهتم القصيدة بقضية "العطر" ، وتجعلها كما لو كانت قضية أساسية يتم الاهتمام الكبير بها . ومنطق هذه الكتابة أنها تقدم القضايا الجانبية إلى جوار القضايا المركزية ، لأن هذه هي طبيعة الحياة نفسها ، طبيعة التجاور بين تفاصيل لا نهاية لها ، أو معطيات متباينة بين الصعر والكبر .
وتظل ذكرى الحب القديم ماثلة ، ولكنها ضعيفة للغاية ، وبالرغم من انتهاء حالة الحب ، لكن الشاعر يتذكر الحبيبة كطيف خفيف بعيد ، و يتذكر العناق الذي كان ، كان في البداية عناقاً حقيقياً ، ولكنه الآن يمارسه فيما يشبه حالة من الوهم ، لأن أصلاً كل شيء ليس سوى وهم ، بل إن الحقائق الواقعية المحيطة بنا كلها ، ليست سوى وهم ، وكل شيء يتبدل ، ويتحرك ويتغير بلا توقف ولم تعد للذهن القدرة على الاطمئنان إلى شيء ثابت .
يحدث الآن تعجيل متواصل للتبادلات ، وتحولات الوجود ، والحقيقة أصبحت أكثر تعقيدًا وأقل ثباتًا . وتلك ملامح من فكر "ما بعد الحداثة" ، وباقي الملامح تتعلق باللاحسم ، بما يعنيه من التعددية والفقدان الشديد لليقين الوجودي ، وبذلك يمكن أن تصل بنا المسألة إلى التفكيك ، والهدم ، وتجسيد التفاصيل الجانبية الصغيرة للتعبير عن ذات الشاعر وعن تجربته وخبراته الواقع .
إرسال تعليق