حين يبوح النخيل للدكتورة وعالمة الفيزياء هدى النعيمي
بقلم: عبير العطار
- "أعطاني الفرصة لأحكي حكاية نخلة من هذه البلاد. نخلة راقبت، واختزنت الأحداث والمنعطفات بما حملته، بدأت بتحية العلم في الصباح، وقرأت حكمة اليوم في الطابور الصباحي. نخلة انتظرت حتى أنبأتها حكمة السنين بأن وقت البوح قد آن أوانه"
في كتابها حين يبوح النخيل تتشابه حياة هدى النعيمي كرة الزئبق تلك التى لم تذكرها بتلقائية
_ بل تحدثت عنه كمادة لها أهميتها ومخاطرها في أكثر من 36 موضعا من كتابها_ إنها تشابهها في ثقل قوام العلوم التى نهلتها على مر العمروفي حركتها الدؤوبة المتدحرجة والتى تأخذنا ابتداءً من حصة العلوم حتى اعتلائها منصة القاعة الكبيرة في مبنى الأًمم المتحدة في العاصمة الكينية نيروبي.
تقول(فنقطة الزئبق صنعت من نفسها كرة صغيرة. وظلَّت المعلمة تتابعها بقلم رصاص وورقة حتى استطاعت إعادة بعض منها إلى القارورة، وما تبقى من الكرة الصغيرة التصق بسوارها الذهبي)
ذكرتني حين كنت أذهب لجامعة القاهرة وانا متفاخرة بأنني أدرس في جامعة عريقة وألبستني أمي ست أساور من الذهب وحين دخلت أول مختبر حدث لي ما حدث للمعلمة مع الفارق أن المعلمة كانت تدرك خطورة ما حدث بعد التصاق الزئبق أما أنا فكنت أجهل ذلك وهذا ما استدعى والدتي كي تعلمني الدرس الأول في الحفاظ على قيمة الأشياء حين حرمتني منهم.
- درست وأنجزت ،ناضلت من أجل نفسها وصحتها ووطنها وأهلها ..قاومت المرض ،تعالجت ورفعت راية بلادها خفاقة في منابر دولية كثيرة ثم فضلت بعد مجموعاتها القصصية البوح بسيرتها الذاتية كنخلة أصلها ثابت وشامخة في السماء ..تمنح الكون ثمارها من العلوم لبناء العقل كما يجود التمر بكل عناصره المفيدة لبناء جسد الانسان.
- كيف ارتبط صوت عبد الحليم حافظ بالنجاح- مغني الجيل وقتها، وأغنيته وحياة قلبي وأفراحه..أهمية الأغنية مهما تجاهلنا دورها إلا أنها حقيقة واقعة تحدث أثرا ايجابيا في النفس والفرح .. ولو انفردنا بأنفسنا نستنتج كم التردي الذي وصلت اليه الأغنية العربية وانتفاء أهدافها السابقة من فن . وهو نفسه ما ينطبق على فن السينما والمسرح.
- قد نتشابه في فكرة التحصيل الدراسي والشكل العام لطريقة التدريس ومواده لدراستي في دولة خليجية ونتشابه في حبنا لسلسلة"الشياطين الثلاثة عشر" أو "روايات عبير"،
- "لم تكن مادة التاريخ إلزامية في تخصصي، لكني كنت شغوفة بالبحث عن إجابات، لأسئلة كثيرة تدور في رأسي، ولم أجد أن المناهج الدراسية في المدرسة كافية للإجابة عنها،" ربما نفس الأسئلة أو غيرها كانت تدور في رأسي وأعتقد أن العقل الإنساني تتوالد فيه الأسئلة ويتمنى لو أن هناك إجابات ناجعة تؤكد أوتنفي ما يعاركه من أفكار.
- عرجت الدكتور هدى على الرئيس جمال عبد الناصر،د فاروق الباز والسوري الدكتور سعيد الحفار خبير اليونيسكو في علوم البيئة ومن الشعراء عمر بن ابي ربيعة ،ايليا أبي ماضي وغيرهما ،والعالمة الشهيرة ماري كوري البردوني و الموسيقار الإيطالي فيردي.. على ساحات وميادين ك ميدان التحرير في القاهرة، الباستيل في باريس و ترافلجار في لندن وساحة تايم سكوير.
- تقول د هدى في ص27 "أحسسنا أنا وزميلتي أننا نملك العالم، وأننا سنعدِّل كل الأوضاع المقلوبة إن وجدت، " كيف بدأت العلاقات الحقيقية من خلال الاختلاط بزملاء وزميلات العمل بالمستشفى؟ لم تأت الرياح بما اشتهت السفن بل مزيد من الأسئلة ومزيد من نهل العلم وتقوية اللغة والتجارب والحروب الخفية والروتين القاتل مما استدعى د هدى لتغيير هذا الواقع فنظرة المرأة الابداعية تبدأ منذ الصغر وهي لا تحب النمطية بل سعت للتطوير لأنها طبيعة المبدع الحقيقي الذي لا يستطيع العيش بنمطية وتقليد لا بد من الابتكار والتحسين من أجل ارتقاء أفضل.
- "ومهما ادعينا أن الناس معادن، وبأن بعضهم من ذهب لن تغيره الأيام فإذا صادف وجود كرة من الزئبق في طريقهم، فلن تكون النتائج مضمونة،(ص3)"
البيئة الخليجية هي البيئة الوحيدة التى بامكانك أن تجد الثقافات جميعها فيه،ولو قرانا السيرة سنجد أن الدكتورة تعرفت على جنسيات متعددة بثقافات غريبة عنها مثل فوزي وابنته العليلة والتى جعلها راهبة لاعتقاده الا احد سيتزوج من ابنته،سجادة الباكستانية البوذية التى خرجت بطفلها دون تسمية لطقوس بلادها في اختيار اسم جديد يحدده تاريخ الميلاد ورجل الدين خاصتهم وكارمن الانجليزية الشقراء التى فرت دون وداع حين دقت طبول الحرب في الخليج وشخصيات أخرى ملفتة كثيرة
- حدثتنا عن الدروز والإسماعيلية والبهائية والقاديانية وهو غوص في بحر لا نهائي من الاختلاف في العقائد مهما حاولنا أن نحصرها أو ندرك صحتها،علاقة الصداقة مع نعيمة وخلطتها العجيبة من لهجتها الاردنية لجنسيتها الايرانية لديانتها البهائية.
- الدكتور لافاندر واهتمامه بالبيئة الصحراوية وجمالها وهنا نقطة توقف ،فالغرب يعلمون كيف يرون الجمال ويستمتعون به على عكسنا نحن لا نرى الجمال كما ينبغي لنا،عنصرية المهندس الألماني مارك وما ترسخ في اللاوعي عنده عن قدرة عربية على انجاز المعضلات وحل الأمور المستعصية
- "كلمات العمَّة نورة لم تفارقني، وقد فارقت الحياة منذ سنوات عدة، لكنها علَّمتني أن للانتظار حلاوة يجب أن نقطفها" ص 32
كيف يكون السكون والجمود في الحياة مرعبا إلا من وقع خطوات قريب او حبيب سياتي لسماعنا وهذا ما حدث بينها وبين العمة نورا حتى غادرت الدنيا.
- البشر كالمحطات في الحياة لكل منهم محطة صعود ومحطة هبوط..لست المتحكم في محطات الصعود لكن يسمح لك أحيانا أن تتعجل لتصل محطة هبوط أحدهم .لفتني كثيرا وأثر بي حادثة العالمل سيد وإن لم أخالط شخصيته ب درامية صادمة وهو الذي زرع الكلى في قطر ثم عاد لمصر ليبيع الادوية ويكسبالمال غير عابيء بصحته ويتزوج بأخرى زارهم مرة بالعروس وحين عاد خائبا يحاول النجاة رجع مع أم أولاده وأرى أنها حادثة بالإمكان بناء عليها رواية كاملة
- عائشة صديقة الطفولة و بدرية كانتا أول حاصلتين على شهادة البكالوريوس في التمريض في قطر وشغفهن في العلم حتى حصلن على الدكتوراة.أما فصل من القاهرة إلى مونبلييه ففيلم طويل بذكريات عبقة لاينفع معها كتابة تعقيبا عليها بل وجب قراءتها بنفس اللغة السلسة التى تتحلى بها الكتورة هدى والتى تكشف لك عن قصص المغتربات والتى من الصعب أن يعرفها أى مجرب ولم أستغرب حكاية أم ربيع التى تحولت من عاملة إلى صاحبة أملاك!
- في فرنسا وعلاقة أوربا بوجود المغتربين من شمال أفريقيا خاصة المغرب والجزائر وكيف تعارفت بزينب الجزائرية وتداخلت في قضاياها والدكتور الفرنسي مونيه المشرف على الرسالة ،تناقضية العلاقات
وفي نفس الوقت الحفاظ على العادات والتقاليد والأصالة رغم الغربة وبسلالة السرد عرفتنا عن الفروقات بين الطعام الفرنسي والطعام الخليجي الذي تعده ودور الأب في تهوين أيام الغربة لتنقضي بصورة أفضل.
- في موضوع الغزو على الكويت وكيف اقتنصت الفرصة للحديث عنها بحرفية فاشكرها لأني استطعت التعرف على ما كان يحدث خارج اطار أرض المعركة وأنا التى كنت في خضم وجودي داخل الكويت بشهورها السبعة وعاصرت القصف الجوي والدخول البري عدا قصص يندى لها الجبين فيما فعله العربي بأخيه العربي.فالحرب نحن والضياع!
- لوبحثنا عن نموذج نكتبه عن صراع الرجل والمرأة لن نجد أوى من قصة سلوى وزوجها السوري الذي علق شماعة خيبته في عدم حصوله على الجنسية بأن دمر حياة اسرة بكاملها من أجل أن ينتقم.وهناك أكثر من سلوى يواجهن نفس المصير في دول متعددة.
- "تعود مثقلة بكرم الضيافة والترحاب الشديد" أحيانا الكرم الزائد والاهتمام الزائد يفسد العلاقات وهو ما حدا بكاتبتنا الى فعله مع بعض الشخصيات.
- العلاقة مع مصركانت عميقة جدا فالمجتمع المصري يختلف كثيرا عن بقية الدول في كونها استطاعت أن تنتهج برنامجا حياتيا لا يمكن قولبته فكما تستطيع حضور الندوات تستطيع الذهاب للسينما..للغناء وللاستمتاع بالاجواء المتنوعة فيها..للسفر داخل المدن الساحلية المختلفة مما منحها خبرات جديدة بالاضافة الى علمها وحبها للأدب.
- رحلة العلاج في نيوريوك ولفتني جدا الترابط العائلي والعلاقة الرائعة مع الزوج والعائلة والتى اسرت قلبي معها وهي تحكي تفاصيلها بقدر الخوف والوجع الذي صاحبني معها وهي تتحدث عن مراحل العلاج والعمليات الجراحية.
- "عادت خرزة الزئبق في التدحرج عائدة إلى مكانها القديم، من دون أن أساعدها. وعادت بي من مركز عبد السلام في إيطاليا،"
لقد طافت د هدى بعلمها لتجوب آسيا الشرقية..اليابان وكوريا ..أفريقيا
أمريكا وأوربا (فرنسا وايطاليا) ولو لم تكن قد كتبت على الكتاب أنه سيرة ذاتية لاعتبرته من أدب الرحلات المتميز لخصوصية الشخصية التى تكتب وخصوصية العقل العلمي المتأمل للحياة ..والخبرة في تطويع الحروف لتسجل حكايات عن خطورة الاشعاع وحوادثه منذ واقعة هيروشيما حتى السنوات الأخيرة من واقعة فوكوشيما وتشرنوبيل.
أخيرا تقول د هدى:
"الكتاب اليوم بين أيديكم للقراءة والاستظلال بسعف نخلة شذبها الزمن، وزارتها الفصول وبلَّلتها الأمطار لتزودها بسرِّ البقاء والعطاء، إنها النخلة المتقشفة المكتفية بزخات مطر قد يزورها في الشتاء، لتعطي ثمارها لعام أو لأعوام، إنها النخلة التي وددت لو أنني أشبهها في ظلِّها وسعفها وثمرها، إنها رمز للعطاء."
أتمنى لها التوفيق ومتابعة المزيد من أعمالها الشيقة فنادرا ما يجد الإنسان في رحلة ذاتية أو سيرة كل هذا التشويق والذي تمنيت ألا ينتهي.
إرسال تعليق