كوبري الليمون، بقلم سيد صابر
قصة قصيرة
سيد صابر
السادسة صباحا ... انفاس الصباح تعانق انفاس الناس ونظراتهم الناعسة تحلق في خيالات بعضهم البعض ... طالبات بزي مدرسي وعامل نظافة كسول يتثاءب ويحرك مكنسته بكسل علي أرض الرصيف المبتل ويتفحص رواد محطة المترو ... محطة مترو المرج ... اول الخط ... واول مترو ... يندفع هو بين الحشود ليقفز الي دهاليزه وجلس في أول كرسي قابله ... وضع ما يحمله بجانبه ... شنطة ملابس ومجموعة كتب وأكياس تفوح منها رائحة اكل طازج ... طبخ للتو ... تحرك المترو وتحركت معه أشواقه ... اليوم سيشاهده ... سيحتضنه ويتنسم عبقه ... سيطمئن عليه ... آخر زيارة كان شاحب رغم ابتسامته الكاذبة ..
وقف المترو في محطة عزبة النخل لتتسارع الاقدام لتلحق كرسي للجلوس أو موطئ قدم للوقوف ... وصل عين شمس وقد أصبحت عربة المترو علبة سردين ... الركاب بها مرصوصين ... الجالسين متقابلين والواقفين متمايلين من هزهزة المترو ... وكلهم في حالة وجوم وكأن علي روؤسهم الطير ... قطع سكونهم أحد البائعين الصاعدين من محطة الزيتون ... بائع بائس نائم قرر أن يصحي ركاب لازالوا متدثرين في أحلامهم ... حزام جلد طبيعي بس بخمسين جنيه .. شوف يا استاذ .. بص يابيه ... ويشعل ولاعته في أحدي الأحزمة ليثبت لهم أنه جلد طبيعي ... ورفع صوته وهتف بصوت جهوري ... طب عشان ساعة صوبحية وعاوزين نسترزق لا بخمسين ولا بأربعين ... الاتنين بثلاثين يا افندية .. مين قال هات ... مين قال جاي ...
وصل المترو محطة حمامات القبة وهنا دق قلبه وازدادت أنفاسه وشرع يتلفت من شباك المترو ... لعله يراها ... يلمحها ... وما أن تيقن من وقوف المترو في حمامات القبة الا وهو يهب واقفا ... كعادته دائما فهو ما أن يمر من هناك إلا ويقف منتصبا وعينيه ترنو الى ما خلف نوافذه ليصل إلي محطة كوبري القبة ... أكثر من ثلاثين عاما ما من مرة يركب المترو ويمر من كوبري القبة الا وتصيبه حالة من الشجن المنقوش بالشغف ... الشغف بها وبذكراها ... الشجن لرؤيتها وسماع صوتها ...
كانوا يخرجون معا من الجامعة ليوصلها بيتها في كوبري القبة ... محطة كوبري الليمون خلف محطة مصر ... يأخذها من يديها ويقفزان في المترو بعد يوم طويل ... مناوشات وخناقات وخصام وصلح .. ضحكة وبسمة وغنوة ... يصلا مترو القبة ... تودعه وهي تبتسم علي وعد الا تمتطي كعب عالي غدا ...
- ماهو انت بتبقي اطول مني ... شكلي بيبقي انتيكة وانا ماشي معاك ... فتضحك هي واعدة اياه أن لاتفعل ذلك غدا وتطبطب علي كتفه برفق وتختفي وسط زحام محطة كوبري القبة ... يقطع شروده وتخطف عنيه سيدة هائلة .. ضخمة ... طويلة .. ممتلئة متشحة بالسواد من رأسها حتي قدميها ...تنكب علي وجهها علي باب المترو ومعها فتاة صغيرة فلتت من يدها ... وتبعثرت محتويات شنطتها من طعام وكتب واختلطت الفراخ مع صحيح البخاري وانسكبت الشوربة علي نحن والحضارة الغربية وشرب ابو الاعلي المودودي من شوربة البتلو المصرية وضاعت ملامح معالم في الطريق بعد أن غرقت في حلة الملوخية ... انتفض ومعه ركاب المترو ليساعدوها ... تقف متمتمة بالثناء والشكر لهم ... من خلف نقابها الذي غطى عينيها من وقع سقوطها ... ضبطت هندامها وأصلحت نقابها وطلب هو من احد الجالسين أن يترك لها كرسيه ... جلست و قد وسعت حدقتي عينيها وازداد لمعانهما وهي تتأمله وتسمع أوامره لمساعدتها علي الجلوس ... هو ... معقول .. هو سمير سالم ... سمير .. غزا الشيب مفرقه واحدودبت ظهره ... نظارته تحرس أنفه وعينيه لازالت كما هي وان كانت ازدادت ضيقا" ... وقلت بريقا" ... انكسرت حدة شعاعهما .. وحل محلها سكون ودعة ... كانت تخاف أن تبحر في عينيه لما فيهما من لمعان ... قوامه لازال كما هو .. امتلئ قليلا .. ابتسمت فقد أصبح له كرش ...
شعر بالتعب من وقفته ... اجلسه أحد الصبية وجلس مقابلها يداعب الفتاة الصغيرة ويسئلها ...
- انت في سنة كام
خجلت الفتاة وصمتت باسمة ... وهنا هي توقفت عن مسح ماعلق بمعالم في الطريق من ملوخية ومالت عليها هامسة
- قولي لجدو انا في KJ1
ونظرت في عينيه ... وقع صوتها علي مسامعه ليتسلل الي وجدانه وهو بين المصدق والملتاع .. وتوجه لها هامسا
- هي حفيدتك ؟
فتمتمت ضاحكة
- بنت ابني ياسي الاوستاز
تراجع ... وكأنه يتذوق صوتها ... وسرعان ما نظر في عينيها العسليتان و أطلق زفرة طويلة هامسا"
-مش ممكن ... مش ممكن ... نبيلة كامل ... نبيلة ... نبيلة
ابتسمت هي وهزت رأسها مأمنة علي زفرات صدره العميقة الطويلة
- انت فين من زمان يابلبلة ... وليه لابسة كده ... كنت متأكد اننا هنتقابل ... رايحة فين
- سجن طرة ... ابني كان في ابو زعبل ونقلوه طرة ورايحة اشوفه قبل نقله وادي النطرون ...
مادت به الارض وهي تقص علي مسامعه قصة ابنها ... كأنها تتحدث عن ابنه ... فهو أيضا في زيارة له قبل نقله وادي النطرون ... وافاق علي صوتها وهي تهتف ...
-انت اخبارك ايه .. معاك ولاد .. كام ولد وكام بنت ... انت كنت مسافر ... بتشتغل ايه ... بتشوف حد من شلة الجامعة ...
- معي ولد وبنت .. انت ابنك محبوس في ايه ...
- ابدا راح يستلم جثمان أبوه بعد فض النهضة قبضوا عليه ...
- النهضة ... النهضة
- اه النهضة ...
واطرق في الأرض صامتا ...
- ابنك بيشتغل ايه ... بنتك اتجوزت ...
- ابني بيشتغل نفس عمل ابنك ... مسجون في طره ...
خبطت صدرها بكفها واقتربت منه هامسة ... ابنك اخوان ... طب ازاي وانت شيوعي ... هو انت شيوعي ولا ناصري والنبي ما اعرف انت كنت ايه بالظبط ايام الجامعة ..
- ابني اشتراكيبن ثوريين ... واتحبس بعد تيران وصنافير ...
- شوفت ما احنا ياما قلنا لكم .. بس انتم مش بتسمعوا الكلام ...
فضحك هو ومال عليها ... بت يانبيلة ... انا سمسم وانت بلبلة ... اصحي وفوقي .. مين بدل حالك كده ... وبعدين هو مش انت تركتني عشان تتجوزي ابن جيرانكم ظابط المخابرات عماد .. ايواا انا فاكر كان اسمه عماد ...
رنت عينيها بعيدا ومصمصت شفتيها وكأنها تستحلب ماتبقي من ذكريات بعيدة .. بعيدة ...وهمست ... انت فاكر هو كان أكبر مني بخمستاشر سنة ... هو كان مفهم بابا أنه مطلق وبعدين اخويا الدكتور مصطفي اكتشف أنه رجع لمراته ... كنا كتبنا الكتاب ... بابا أصر اني أطلق منه ... حاول عماد بكل الطرق واشتري لي ذهب كثير واشتري باسمي شقة إلا أن انا رفضت وبابا أصر علي طلاقي ... رجعت دورت عليك وسئلت عنك ... وعرفت انك اتجوزت وسافرت ونسيتني ... بصراحة من حقك تنساني ... اتجوزت ابن عمي المهندس محمود يونس الله يرحمه ... وسافرت معاه انا كمان السعودية ...
قطع المترو محطات تحت الارض ولوحت الشمس وجه ووجهها ... وبعد أن لاحظ اهتمام الركاب وانصاتهم لحديثهما ... همس لها
- الدنيا صغيرة اووووي ... ثلاثين سنة بدور عليك .. ثلاثين سنة كان نفسي اسمع خبر عنك ... كان نفسي اشوفك ... ولما اشوفك ماشوفش حاجة
هزت رأسها بأسي وحنق وقلبت شفتيها ورفعت النقاب لتمسح دمعة حارة انسدلت علي خديها ليري وجهها ... كما هو ... نفس الاستدارة والأنف الفرعوني وعينيها العسليتان وخدودها الوردية وشفتيها القرمزياتان ... ورنت بعينيها بعيدا شاردة وهمست بخفوت وكأنها تخاطب نفسها ...
- تشوف ايه ... أرملة لمهندس كان كل عمله تزويد الاعتصام بالطعام ... ودفع ثمن غالي لذلك ... وام لمسجون اذوب كل يوم عندما اري احفادي يسئلون عن ابوهم ...
اطرق هو ولفهما صمت مطبق أراد أن يخفف حدته فهتف ...
- لن يسمحوا بدخول الكتب لهم ... ديه كتب مصيبة
- قلت له اكثر من عشر مرات أن تلك الكتب لن تتدخل لك ...
- تاخدي تجربي يمكن يسمحوا بكتبي تدخل انا معي نسختين من كل كتاب لعادل ابني واصدقائه ...
- كتب ايه
- يوتوبيا وسر الغرفة 207 لاحمد خالد توفيق والحفيد وام العروسة لعبد الحميد جودة السحار والشارع الجديد لمحمد عبد الحليم عبدالله ... ومد يديه بالنسخ ... اخذتها متمتمة بالثناء وعينيها تنظر في عينيه ... وجدت شبابها ... ضحكتها ... أجندتها الفوشية ... الضفيرة الحائرة ...
أما هو لازالت رائحة المسك تعبق اجوائه كلما همست .. ونزق الشباب يلف جوارحه مع كل إيماءة ... يراها ... غرة شعرها ... ضحكتها وقفاشتها ... مكانه المحجوز بجوارها في المدرج ... رحلات القناطر من ماسبيروا ... حفلات الكلية .. يديهما المتشابكتان ... الدبلة الفضة ... الضحكة الصافية ... كلمته الأثرة التي كان يسكبها في أذنيها ...في الحب .. في الحب تثور بحار وتسقط قلاع ويحتل وجدان وترفرف رايات وتنسحب اهات وتتنادي ضحكات وبسمات وتتعمق ندوب وبصمات وتغفو وتنهض ظنون .. وتتأرجح اماني وتلوح ذكريات ..
كيف للقلوب أن تتحمل كل هذا ..
وصل القطار الي وجهته ... طرة ...
يفترقا ... ينتظمان في طوبيرين احدهم للنسوة والآخر للرجال ... يصلان صالة الاستقبال ... ينتظران كلا علي كنبة حجرية بعيد عن الآخر ويبتسمان كلما التقت العينان ... يخرج ابنها وتهرول نحوه تحتضنه بشوق ولهفة ويخرج ابنه يرتمي في حضنه ويخرجا ما معهما من طعام ... تلاحظ هي ويلاحظ هو أن ابنائهم زميلان في نفس العنبر ... لا بل صديقان ... فهم يتبادلان الاكل والنكات ... نظرت له مندهشة وهو يشعر بالسعادة ... فانطلقا هي وهو بجملة واحدة ... بكرا احلي يا ولاد ... بكرا احلي يا ولاد
إرسال تعليق