حياة عادية في شعر
محمد صالح
بقلم: سيد الوكيل
حياة عادية في شعر محمد صالح. بقلم: سيد الوكيل |
يعتبر محمد صالح رحمه الله من المجددين في
الشعر والمحافظين على قيمة الابتكار فيه، وبرغم انتمائه للجيل الوسط بين الستينات
والسبعينات، إلا أنه انحاز لكتابة قصيدة النثر وأبدع فيها، وصار من أهم أصواتها
المتميزين في مصر والعالم العربي، ومن أعماله الشعرية الشهيرة، الوطن الجمر، وخط
الزوال، وصيد الفراشات، وحياة عادية.
( جريدة اليوم السابع)
القصيدة الجديدة تأتى كاستجابة للتغيرات التي يفرضها الواقع ،مع اعتبار أن النثرية ليست مجرد إجراء شكلي ولكنه
تعبير عن تغير جوهري في طريقة إدراكنا للعالم ووعينا به، فيظهر في سلوكنا اليومي
وممارستنا لفعل الحياة، ويشمل ذلك تصوراتنا عن ما هو ثقافة أو معرفة. فقصيدة النثر
، لا تستهدف نسف الإيقاع فحسب، بقدر ما هي مجاوزة للرؤى النبوية القديمة، فعلى
الرغم من حضور المتخيل فيها، فهي لا تنفصل عن الواقع المعاش، لهذا أنا شخصيا أفضل استخدام مصطلح القصيدة الجديدة،
لنعكس ذلك الفارق بين طريقتين لرؤية العالم، وليس بين طريقتين لتوزيع الإيقاع .
والسؤال الذي يطرح تحدياً على كتَاب القصيدة الجديدة
هو.. (إذا كان العالم مفككا على هذا النحو، فهل تكون الكتابة مجرد
نوع من المواكبة أو الانعكاس لهذا التفكك
أم هي فعل مقاومة له؟)
والإجابة المقترحة هي.. إن عوامل التفكيك تستهدف الحياة الإنسانية
وتدفعها نحو التشظي والذوبان بين دروب ومؤسسات الحياة المعاصرة المعقدة التي تحولت
إلى سلطات أكثر هيمنة من السلطات التقليدية، سواء الكبرى مثل الدين والسياسة، أو
الصغرى مثل المؤسسة الأسرية المتمثلة في سلطة الأب.
هكذا لم يعد الشاعر الجديد في
صراع مع السلطات التقليدية كما كان من قبل، واستمر حتى منتصف سبعينيات القرن
الماضي، حيث تحمل أسئلة الميتافيزيقا والفلسفة نزوعاً تمردياَ لم يعد يظهر في
القصيدة الجديدة، ليحل بدلا عنه نوع من الاستغراق في تفاصيل الحياة اليومية.
وعليه فنحن في حاجة إلى وعى جديد لا يستمد وجوده من أي سلطات ليكون
بالضرورة وعياً مقاوماً، وقائماً – في نفس الوقت - على المفردات البسيطة والعادية
وليس على المقولات الكبرى التي تتشبه أو تستمد وجودها من السماء. فالشكل المستقر
سلطة ، واللغة المعجمية سلطة، والموضوعات المعتمدة سلطة، والقصيدة الجديدة تصبح
مقاومة عندما تسعى إلى تجاهل هذه السلطات، وفى المقابل تعتني بما هو عادى ويومي
ومعاش، أي إنها تسعى لدعم الحياة الإنسانية.
وتقف تجربة (محمد صالح ) الشعرية على هذه النقطة من الوعي
بالواقع، أما أسلحة المقاومة، فهي في غاية البساطة و العادية، هذه البساطة التي
تجعلها في نظر السلطويين سطحية وتافهة، إنها أسلحة من قبيل إنعاش الذاكرة، والعناية
بالعوالم الشخصانية المحدودة مثل عالم الطفولة، والعلاقات الأسرية الصغيرة ،
والعلاقات العابرة، في الطرقات والباصات العامة والمقاهي، إنه عالم صغير محدود،
ولكنه محمل بالرهافة والعذوبة، ومغلف بالعاطفة الحية التي لا تبلغ حد الانفعال
بقدر ما هي درجة من الوهج، ولا تبلغ شأو الفلسفة بقدر ما هي درجة من التأمل، ولا تنزل
إلى مستوى الحيادية المجردة وإنما إلى مستوى العادية المحتشدة بالحياة، فهي عالم
مكتف بما هو موجود ومتاح وبلا طموح فوقي أو سلطوي.
وسنرى في إحدى قصائده أن الأب الذي كان يُنظر إليه كرمز للسلطة
التقليدية، ليس في الحقيقة سوى واحد من صور المتغير الحضاري. كان في الماضي رجلاً
بسيطاً يصنع حاجياته بنفسه، لكن عالمه الصغير يتحول في وعي الفتى المراهق إلى
ميراث ثقيل لا يقوى على تحمل وجوده، فنعبث به، وندمره دون أن ندرى أننا بذلك ندمر
الإنسان الكامن فينا.. يقول محمد صالح: في ديوانه ( حياة عادية )
كانت هذه القوالب الحجرية على سطح دارنا
حتى قبل أن اصعد إليه للمرة الأولى وأراها هناك.
وكانت غريبة على أشياء الدار بهيئتها تلك المصمتة الملساء.
ولم تكن تعنى أحداً.
حتى أنني أتلفتها في مراهقتي.
في أول محاولة لرفع الأثقال.
فلم أكن أعرف أنها لأبى.
أو أنه كان يلبد عليها أغطية الرأس التي كانت تستهوي الرجال .
فهذا ما عرفته بعدما بعنا الدار.
ولو أردت الاحتفاظ بأبي ..لاحتفظت بهذه الأحجار.
إرسال تعليق