الأسبوع الأخير لهالة كوثرانى
بقلم: سيد الوكيل
الأسبوع الأخير لهالة كوثرانى
بقلم: سيد الوكيل
ذات مرة قرأت خبراً عن انتشار جراحات التجميل في لبنان، واعتبرها كاتب الخبر أنها ظاهرة غريبة على المجتمع العربى، ولكنى اعتبرتها جزءً من هوية الشعب اللبنانى، ومنسجماً مع طبيعته التي لخصتها المطربة فيروز في اغنيتها: (سألوني شو صاير ببلد العيد، مزروعة عالداير نار وبواريد. قلتلن بلدنا عم يخلق جديد) فلبنان على الرغم من الصراعات التي تدور حوله وداخله، شعب يتمتع بإرادة الحياة، وهذه الإرادة هي سر استمراريته، وتجدده، فمهما كانت التحديات فادحة، والنكبات مؤلمة، فإنه قادراً على أن يبدأ من جديد. ومهما كان حجم الألم والقبح المحيط به، فإنه قادر على تتويج الحياة بالجمال. هذه هي الروح التي ألهمت الرعيل الأول من الفنانين، والمثقفين اللبنانيين، شعراء، ومبدعين، ومسرحيين، وإعلاميين، هاجروا إلى بلدان أخرى، ليمنحوها عطاء معرفياً سواء في الأمريكتين، أو في بلاد عربية على رأسها مصر التي أكدت هويتها بوصفها مكاناً حاضنا، فأفادت من هذه الهجرات الداخلية، لرواد لم يشعروا بالغربة في مصر، بقدر ما حققوا من عطاء ثقافي متميز في مجالات عدة، أمثال: يعوقب صنوع، وأبو خليل القباني في مجال المسرح، فضلا عن الشقيقين: سليم وبشارة تكلا في مجال الصحافة، وجورجي زيدان مؤسس مجلة الهلال..الخ
بطلة الرواية تقرر فجأة أن تترك بيروت لتبدأ من جديد في مكان أخر.. في دبي، عندما شعرت أن حياتها في بيروت قد توقفت، وأنها لم تعد قادرة علي تحمل الأوجاع التي سببتها لبيروت حروب أبيها وجيله. علينا هنا ملاحظة هذا الربط العفوي بين أوجاع بيروت وأوجاعها، الآن عليها أن تمضي أسبوعاً أخيراً في بيروت قبل أن تغادر، إنه زمن الرواية كلها، لكنه وفقاً للإسترجاعات يغطي أعوامها الثلاثة والثلاثين، محتشدة بإخفاقات التواصل مع خطيبها، موت الأحبة والأصدقاء، وأزمة اقتصادية خانقة خلفتها سنوات الحرب، هذه الحرب التي مازالت تحتفظ ببعض صورها لتأتى مشتبكة بسنوات الطفولة.. الطفولة التي ينبغي أن تكون سعيدة وبريئة، ولكنها لم تكن أبداً خالصة علي هذا النحو المثالي، هكذا تتجاور صورة العصفور وصورة الدم: (بعدما طالبت بكاميرا وحصلت عليها، صورت شرفة المطبخ في بيتنا، حيث وقفت لأتلصص علي موت المقاتل ودمه الذي لوّن خزانات المياه.. صورت الشرفة، والعصفور في قفصه في المطبخ).
سنرى أن للصورة تشكلات متعددة وناضجة في هذه الرواية، إنه نضج يتطور مع الشخصية، ومع حركة السرد التي تعتني كثيراً بالمشهديات البصرية، تلك التي تومض متجاوزة تراتبية الزمان، إنها تومض في الذاكرة عادة، تستضيئ بالمكان (بيروت) وتضيئ معها جوانب مظلمة في الذات الساردة، فآلية التداعي الحر هي منطلق السرد في الرواية، حتى لتبدو الرواية كلها شحنة سردية واحدة بلا فواصل من أي نوع، لا تقنية ولا شكلية ولا نفسية. إنها حالة واحدة سديمية من الإقامة وكأنها علقت في الزمان والمكان: "ولدت في بيروت، وأقول إننى أتوق الآن إلى مغادرتها. وبعد أن أتوق، أحاول أن أغادرها، ثم أصارع نفسي من أجل أن اغادرها، لكننى أبقى في غرفتي، والأسبوع الأخير يتحول إلى الشهر الأخير، والأسابيع الأخيرة متشابهة، وليلى لم تمت بعد، لكنها ستموت. وبيروت ستتغير، وبين بيروت وبيروت لا تتغير غرفتى ولا أتغير أنا فيها " .
سيفيدنا المقطع الأخير في التعرف علي الطاقة الشعورية التي تحتشد بها الذات الساردة، إنها ذات خارجة لتوها من تجربة حرب، ومتجهة لتوها إلى حرب أخري وهكذا، بين بيروت وبيروت وبين حرب وحرب، لا شئ يتغير ـ إن التغير الملموس الذي تطرحه الذات الساردة علي نفسها هو البدء من جديد.
ستنفصل بطلة الرواية عن خطيبها، وتنهي اللعبة التي تواطأ عليها الحميع، وتستقيل من عملها المتواضع غير نادمة، وسوف تسهر مع الأصدقاء لتودعهم، ولكي تخلّص روحها تماماً، ولا تصبح عالقة في المكان، ستموت صديقتها ليلى المريضة طوال زمن الرواية. ستموت قبل أن يجيء الأسبوع الأخير لتتمكن من مغادرة بيروت بقلب مستريح، وسوف تلتقط الصور الأخيرة، وتملي عينيها وقلبها بكل التفاصيل التي سوف تكون ذخيرتها في الغربة، ثم: " يجب أن أكتب كي تنجح خطتي في اختراع مكان لي.. مكان أستطيع أن أقول إنه مكاني، وإنني أنتمي إليه " .
صحيح أن الرواية تنتهي في سطورها الأخيرة بصعود البطلة سلم الطائرة، ثم شعورها بخفة مباغتة عندما تطير وتحلق فوق بيروت، لكن المفارقات الزمنية التي تجيدها هالة كوثرانى، والمتقابلات الشعورية التي تنسجها بمهارة عبر لغة شديدة الإيحاء، والبناء الترجيعي الغنائي الذي يجعل من الرواية أنشوده تراجيدية في علاقة الإنسان بالمكان، كل هذه المهارات والإمكانات الجمالية لروائية تكتب كما تتنفس، وضعتنا أمام نص مفتوح الدلالة متعدد المعاني، حتى ليمكن قرا ءة النص عبر أكثر من مسار: الحرب، الفقد، إرادة الحياة، الاغتراب.. وإذا كانت السطور الأخيرة تنتهي بخفة الرحيل والخلاص من علاقة معقدة مع بيروت، فإن السطور الأولى لاتخلوا من هواجس الاغتراب، ولواعج الحنين، وكأنما تقول إن مفارقة لبنان ليست سوى سبيلاً لعود ة أخيرة، وفرصة للبدء من جديد:
" في الغربة نموت أيضاً، نعيش لصباح ينتهي سريعاً، ونحتمل أوقات الظهيرة قبل أن يأتي الانهيار مساء، حين نشتاق إلى أهلنا، وشوارع تغيرت ولم نغيرها في الصور، في الذاكرة، وفي البطاقات البريدية المنقرضة " .
في الرواية طابع سير ذاتي يجعلنا نرى توحداً بين بطلة الرواية وكاتبتها، وفي الرواية ـ التي صدرت قبل شهور من دار الساقي ـ نبوءة، أو قل هاجساً بحرب جديدة، من غير أن تندمل جراح الحروب السابقة، فبين حرب وحرب تظل بيروت عالقة في سماء من نار وبواريد، هذا هو الشعور الذي صدرته لنا نهاية الرواية بمشهد الطائرة وهي تحلق بركابها في سماء بيروت، إنه مشهد يعكس في إحدى معانية، مجموعة من المصائر المعالقة. فهل حطت بطلة هالة كوثراني في دبي، أم مازالت عالقة في سماء لبنان؟
إرسال تعليق