لارا - مجموعة قصصية لأشرف الصباغ
بقلم: شريف العصفوري
من حيث الشكل ، تشبه "لارا" المجموعة "أبواب مادلين" من حيث كونها متوالية قصصية يعاود ابطال القصة الاولى الظهور فيما يليها من المجموعة دون أن يمنعوا غيرهم من الابطال الظهور أو الاختفاء ، كما أن كتابة الصباغ لها مميزاتها الخاصة ، من حيث الالمام بالقريحة الشعبية المصرية و بالمقابل المام مماثل بالقريحة الروسية، يتبدى ذلك في اللغة و الصور الجمالية و التشبيهات و الأمثال و الحكمات الشعبية . نوعية السارد في المجموعات القصصية أو روايات الصباغ هي لمثقف متابع للمذاهب الادبية و الفنية و السياسية، و اشتباك دائم مع قضايا الواقع الآني الملحة و أسئلة الوطنية و القومية، و الصدقية الانسانية في التعاطف و التنابذ، و روح ساخرة تجعل من تناقضات الواقع هي منابع طرفات ساخرة تخلع القلب من مكانه من شدة الضحك ، بينما العقل مجذوب تماما لمنطق الموقف المقلوب أو المعدول بالخطأ.
هذه المجموعة تتنوع بين القصيرة ٥٠٠كلمة و +٣٠٠٠كلمة و ان كانت غالبية قصص المجموعة تناهز +٢٠٠٠ كلمة، بعض القصص أتى بمقاطع سردية مرقمة ١،٢،٣ . لكن المجموعة المكونة من ١١ قصة كلها تحدث في فضاء روسي و ان يسكنه عرب ( مصري و سوري و عراقي و قليلا فلسطيني أردني) ، مضافا لهم روسي و طاجيكي.
لكن الافكار او بالاحرى الدلالات لهذه النصوص يتعرض لطيف شاسع من الافكار ، بدء من علاقة النخب العربية المثقفة بالصراع الايديولوجي بين الشرق و الغرب ، و بخاصة حالة الاستلاب لقدامى المبعوثين العرب ( الشيوعيين في الغالب) في نوستالجيا انحيازات للاتحاد السوفييتي "الراحل" و نجله الراهن روسيا في قصة اللكمة. في القصة التالية "شارع أربات مع قليل من الفودكا و الكائنات الروسية" تشريح فريد لشخصية المتثاقف و الاديب "المفروض بالعافية". القصة الثالثة "توابيت الدهشة" تتناول ملاحظات حول الحالة الفنية الموسيقية و الادبية في روسيا الراهنة بين تجاذبات السياسة و الانتقاد الحاد للاوضاع السياسية القائمة في روسيا الآن. "يوم ممطر" استعراض حميم لحالة الجدل و التماثل بين الاقلية الارمينية في روسيا و المسيحية في مصر في قالب أدبي بديع يمزج بين الطقس الروسي المتقلب بين السطوع و الغيم الطقسي و الدفئ و البرد الفردي الانساني في قضايا التعايش أو الاحتراب بين الاغلبية و الاقلية في تاريخ البشرية الدموي حول تلك القضية.
في القصة التالية"جرافيتي" جرى تشبيك التعبير بالرسم على الحوائط بالعلاقة بين الفن و مقاومة الاستبداد ، و الذاتية بين مواجهة السحق القطعاني للانسان بالدعاوي الوطنية او الدين ، و من خلال القصة داخل القصة، و خاصة قصة الجندي "لوسيان" التي تناولها الادب و السينما من حيث رمزيتها في مواجهة الامتثال وفي هذه الحالة الانضباط العسكري ، الصوري و الشكلي و السطحي، و الثمن الذي تدفعه البشرية في هذه المعضلة الاشكالية .
في "زرائب الحظ" يتسع مدى التناول للقضايا الشائكة و الملحة من الامتزاج في الحياة الروسية و الثقافة للمهاجرين العرب ، حتى منطقتي الاثيرة في العلاقة بين الثقافة و الرؤية السياسية و العمارة و التخطيط العمراني للمدن ، و شرحا مثيرا للعمارة الاوروبية الروسية التاريخية في العهد القيصري ، ثم العمارة الستالينية ثم عمارة العهد الخرتشوفي ، فاخيرا العمارة في عهد بريجينيف و اثر العمارة الخارجية و الداخلية على روح الانسان ، لتكتمل دائرة القهر و التزييف الفني و السياسي الخارج من النظام السياسي و العائد اليه ، تعرضت في روايتي موجزا لآثار "جدانوف" و تحديد معايير الفن الواقعي الاشتراكي ، فتعرض الصباغ لتلك المعضلة معرفيا و أدبيا .
النص مشبع و ممتلئ بالصياغات الادبية الروسية و انتقال دائم لاستعراض مفاهيم و طرائق الادب الروسي الكلاسيكي (تولستوي و ديستويفسكي و بوشكين و آخرين ) و في بداية العهد البلشفي (جوركي)، قصة " لارا" و مقاطع كثيرة في قصص عن رواية دكتور جيفاجو لباسترناك.
الموقف العام لمتابعي الصباغ يظهر بوضوح بدون رتوش ساخرا من زوال منطق الدعاية السوفيتية الرسمية ، الخالي من الروح و الفعالية ، و يختص بالسخرية لهؤلاء الذين مازالوا يتعاملون بالخطاب السياسي الزاعق و الفارغ من المضمون في "نواحينا" ! موقف الصباغ منحاز للانسانية و للانفتاح على الثقافة و الانسانية ، و موقف ناقد بشدة و بحذر للحرب و الاستسهال و التبسيط في روسيا اليوم ، لكن هذا الموقف يسبق مجلدات في مناقضة منطق الهيمنة الفكرية و التدليس السياسي ، و عبثية الآلة السياسية و الاعلامية غربا و شرقا، موقف لا يأتي إلا من مثقف كبير و أمين في العرض و الانحياز.
قصة "الطيور" شاعرية و عذوبة دفينة أحيانا جلية اغلب الوقت في مناقضة فلسفة الحرب و القتل بواسطة انتقال رشيق بين الباليه و الموسيقى لخانشتوريان ، ليكتمل لدي التعلق و الشغف ، ادوات الصباغ العديدة من العلم و الخبرة في الحياة و التنقل بين الثقافات و الاثنيات و المعايشة المعاصرة و الانحياز للانسانية و للحرية و للجمال و للفن . و كراهية القوالب الجامدة و العقول الصلدة المتحجرة ، مع روح وثابة للاستمتاع بالحياة و استقبال تعدديتها بالفكرة و الجملة و الصورة و بالأخص بالسخرية .
كتابة أشرف الصباغ ستثير الوجع لهؤلاء المولعين بالقولبة و التجمد الفكري و الانحيازات القطعانية و المصرين على تسطيح الفن و تجريده من فعاليته و حيويته بالسطحية و جماليات الجماد. انا من متابعي أشرف الصباغ على وسائط التواصل الاجتماعي و من قارئي أدبه الروسي/العربي و استمتعت جدا بالمجموعة القصصية "لارا" و أظنها أكثر ما قرأت إلحاحا في تناول أسئلة الساعة على مستويات عديدة في الفن و السياسة و العمارة و الجمال.
أحببت جدا جرافيتي و زرائب الحظ و الطيور ، مجموعة رائعة و نزهة عقلية بديعة .
إرسال تعليق