ألفريد فرج.. الحالم بالعدل

سيد الوكيل

ألفرد فرج.. الحالم بالعدل

ألفريد فرج.. الحالم بالعدل


عندما بنى المصرى القديم المقابر، وشيد الأهرامات ، وسجل على جدرانها أعماله ، لم يكن ذلك مجرد رغبة فى تخليد نفسه ، بقدر ما هو إيمان بيوم يبعثون ، ومن ثم زود المقابر بوثائق عن الأعمال الخيرة والعظيمة التى قام بها ، ووضع بجوارها رسوماً لماعت ربة العدل التى تقف بميزانها الشهير ، وهكذا ، كان حلم العدل يؤرق المصرى القديم ، وهو نفس الحلم الذى استمر معه حتى الآن ، وكما عبر عنه المصرى القديم فى أدبياته من مثل حكاية الفلاح الفصيح ، عبر عنه الأدباء المعاصرون مثل ثروت أباظة فى شيئ من الخوف و، ونجيب فى الحرافيش ، وبهاء طاهر فى أنا الملك جئت ، كما عبر عنه عدد كبير من كتاب المسرح ، وتناولوا قضية العدل فى بعض أعمالهم ، غير أن ألفريد فرج ، كان ولازال المسرحي الذى كرس جل أعماله بحثاً عن العدل ، حتى فى أعماله التى لم تجعل العدل موضوعاً مباشراً لها ، كان الحلم بالعدل قابعاً فى خلفية الأحداث ، فاستحق ألفريد فرج بجدارة لقب الحالم بالعدل .

والحالم بالعدل هو عنوان الكتاب الذى ألفه ذكى محمد عبد الله ، وأصدرته سلسة كتابات نقدية بعد وفاة ألفريد فرج ببضع شهور ، يقدم الكتاب بانوراما شائقة عن مسرح ألفريد فرج فى أسلوب سلس يخلو من الديباجات الأكاديمية  ، والتعقيدات المنهجية فيأتى عميقا على قدر سلاسته ، وإلى جانب الوقفات النقدية المبدعة التى يتناول بها المؤلف عدداً كبيراً من مسرحيات ألفريد فرج ، يتضمن الكتاب مقدمة طويلة ، تأتى بمثابة درس بليغ فى المسرح عموماً ومسرح ألفريد فرج خصوصاً ، فضلاً عن نبذة ( موسعة ) عن حياتة الشخصية والفنية .

ولد ألفريد فرج فى قرية صغيرة من قرى محافظة الشرقية ( 1929) لأبوين مسيحيين ، ثم قادته ظروف عمل الأب ، إلى التنقل بين الإسكندرية وقريته ، وبذلك جمع الابن بين ثقافتى المدينة والقرية ، ومنذ صباه وجد بغيته فى مكتبة أبيه الذى كان مثقاً يسارياً ، متعدد المشارف ، فحوت مكتبته أشهر كتب الأدب الأجنبية ، إلى جانب نفائس التراث العربى والإسلامى ، هكذا تكونت ثقافة ألفريد فرج بلا حدود جغرافية أو زمنية أو عقائدية ، فأصبح نموذجاً فريداً للمثقف التفاعلى ، وهو مصطلح حديث أرتبط بثقافة الميديا ،  ونتيجة ذلك جاء مسرح ألفريد فرج فريداً فى وعيه الدرامي ، ومتميزاً فى شكله الذى تأثر كثيراً بالتراث العربى والثقافة الشعبية .

فى عام 1955 ، انتقل ألفريد فرج إلى القاهرة متفرغاً للمسرح ، كانت القاهرة آنذاك تحتدم بتيارات ثقافية مختلفة بعضها راديكالى وبعضها ليبرالى ، إذ لم تكن ثورة يوليو قد نجحت ـ بعد ـ  فى تدجين الوعى العام ، وبعد أقل من عام على وجوده فى القاهرة جاء العدوان الثلاثى على مصر ، الحدث الذى أظهر تحالفاً نوعياً بين تلك التيارات التى كانت بالأمس متصارعة ، وفى هذا المناخ ، وعلى هدير المدافع وأزيز الطائرات ، كتب ألفريد فرج أولى مسرحياته ( صوت مصر ) والحقيقة أنها عكست صوت الفريد فرج الانفعالى الذى كان متأثراً بالظرف السياسى ، وإذا كانت المسرحية تقوم على ثيمة بسيطة ، متأثرة ببيت الدمية لإبسن ، إلا أنها منحت ألفريد فرج شهادة ميلاده كأحد أهم وأبرز كتاب المسرح السياسى العربى .

لكن براعة ألفريد المسرحى ظهرت بعد ذلك بقليل فى مسرحيتيه ( حلاق بغداد وبقبق الكسلان ) اللتين استوحاهما من ألف ليلة وليلة ، وكتبهما فى المعتقل ، فأكدتا نزوعه السياسى ، وميزتاه بالشكل التراثى الذى استمر معه فى ( الزير سالم ـ سليمان الحلبى ـ رسائل قاضى أشبيلية ـ على جناح التبريزى ) وغير ذلك كتب عدداً من المسرحيات التى عالجت بعض القضايا الاجتماعية ، ولم يكن الهم السياسى غائباً عنها فى كل الأحوال مثل : عسكر وحرامية ، التى تناولت ظاهرة التلاعب والفساد فى الجمعيات التعاونية ووجهت نقداً ساخراً لتجربة الاتحاد الاشتراكي، كما كتب ( الزيارة ) التى استلهما من حادثة محمود سليمان السفاح الشهير فى الستينيات، والذى استلهم منها نجيب محفوظ رائعته اللص والكلاب ، وفضلا عن كل هذا كتب الفريد فرج رائعته ( النار والزيتون ) التى اعتبرها محمود أمين العالم مسرحية تدخل مباشرة فى صلب الموضوع السياسى

تميز مسرحه بطاقة تجريبية مدهشة، يقول عنها مؤلف الكتاب ( جرب ألفريد فرج أشكالاً مسرحية عديدة ، فتمرد على الشكل التقليدى ، وحاول تحديث تقاليده العنيدة بهدف تطويره لمسايرة تطور المجتمع وتطلعه إلى الأحسن والأرقى ، فقدم مزيجاً من المسرح الوثائقى والبريختى " النار والزيتون " و" عودة الأرض " ، وظهر تأثير لويجى بيراندللو واضحاً فى مسرحية " زواج على ورقة طلاق "  وقدم لنا مسرح اللامعقول فى " الغريب ـ 1975 " و" العين السحرية ـ 1977 ، وجاءت قمة مسرحه العبثى فى " الشخص ـ 1989 " وكان التجريب فيها أكثر إيغالاً ولا معقولية فلم يتقبلها الجمهور).

والحقيقة أن الفريد فرج قد جرب الإخفاق مع الجماهير من قبل، فلم تكن مؤهلة مسرحيا للتفاعل مع هذا المستوى من التجريب الذي يرقى للعالمية، لهذا قنع بتقديم عروضه من خلال مسرح الدولة والمسرح التجريبى ، حيث يطمئن إلى جمهور من النخبة المثقفة ، والمرة الوحيدة التى جرب حظه مع المسرح الخاص ، قدم مسرحيته " على جناح التبريزى " تحت عنوان تجارى هو (أثنين فى قفة ) لكن جمهور المسرح الخاص لم يتقبلها فأعاد عرضها من جديد على مسرح الطليعة بعنوانها الأصلى، وبعد أن اجتث منها كل المشاهد التى كتبها نزولاً على رغبة جمهور المسرح الخاص ومنتجية. هكذا يعاني كل مبدع يسبق عصرة.    

وإذا كانت قضية الشكل المسرحى قد شغلت ألفريد فرج وأثرت فى معظم كتاباته وتجاربه، فإن قضية المضمون كانت دائماً تؤرقه ، كانت قضيته الأساسية هى العدل ..العدل المطلق، فهو يرفض التناقض بين العدل والقانون..أو بين العدل والتقاليد ..فأبو الفضول هو مبعوث العناية الإلهية لإنقاذ المحبين وإنصاف المظلومين فى حلاق بغداد ، وسليمان الحلبى يأتى من الشام لتحقيق العدل فى مصر عندما يقتل كليبر رمز العسف والجور ، ولكنه فى النهاية يقدم لمحاكمة غير عادلة ، والزير سالم يضيع حياته من أجل تحقيق العدل ، ثم نكتشف أن حلمه بالعدل كان هو المستحيل بعينه ، وعلى جناح التبريزى يكاد يفقد رأسه من أجل فكرة مثالية عن العدل الاجتماعى ، بإعادة توزيع الثروة وتحقيق المساواة بين الحاكم والمحكوم، وقاضى أشبيلية يؤكد لنا أن القاضى لا يحكم بالعدل ، إنما يحكم بالقانون ، والقانون من صنع السلطان ،

وعلى الرغم من أن الفريد كتب مسرحه نثراً ، إلا أن النقاد يجمعون على أنه شاعر المسرح المصرى ، فمسرحه بمثابة الضمير الحى واليقظ ، الذى استطاع أن يعبر عن الشخصية المصرية ، وبحثها الدائم القديم عن العدل.

وربما لأن ألفريد فرج لم يعرض مسرحياته على خشبة المسارح الخاصة ، كان نصيبه من الشهرة والجماهيرية ، أقل كثيراً من معاصريه, وربما لهذا السبب ،ذاق هو نفسه مرارة الظلم ، والإحساس بالإهمال فترة من حياته ، حتى أنقذته جائزة الدولة التقديرية  فى أواخر عمره.

فى حوار أجرته الصحفية ( نور الهدى عبد المنعم ) ـ مجلة الثقافة الجديدة  ـ مع ألفريد فرج قبل رحيله ، وفى مناسبة حصوله على جائزة الدولة التقديرية ، قال ألفريد فرج مشيراً إلى نزعة التجريب فى مسرحه  : " أرجو أن أكون مستحقاً لها ، لكن أستطيع أن أقول أننى كتبت للمسرح مسرحيات بالعامية والفصحى ، ومسرحيات تاريخية ، وأضفت مشاهد مسرحية غير مألوفة حتى فى المسرح العالمى ، مثل ملعب التنس ، قارب النيل ، المراكب التى تلتقى فى البحر فى ( الطيب والشرير ) ، فأنا أخرجت المسرح من الصالون ، من الكنب والكراسى إلى البحر وسفن الركاب والحمام التركى والسيارات ، حاولت أجعل المسرح ينافس ويماثل ويدخل مع التلفزيون والسينما فى ميدان واحد ، وهذا يوجد نوعاً من السحر المسرحى ، وكنت حريصاً على ذلك منذ موت الفرعون ، وحلاق بغداد ، وعلى جناح التبريزى ، ورحلة إلى الصين ، فتتبعت وسبقت كاميرا السينما ، فلابد من تحديث المسرح ، فلا يكون مخنوقاً فى ديكور واحد تقليدى ، فأنا دائماً مع تحديث المسرح والخروج به من التقليدى إلى آفاق جديدة "

Post a Comment

أحدث أقدم