أرجوحة على وتد...
في قراءة الشعر الحديث
الشاعر: عاطف عبد العزيز
أرجوحة على وتد
طالما كانت علاقتى بالشعر هكذا ، أرجوحة على وتد، كلما مالت يمينا عادت
لليسار ، فلم تكن لى قضية مع اتجاه واحد من اتجاهات الشعرية الحديثة . فقط أطارد
أقواس القزح كلما لاحت فى الأفق . طبيعة حرة فى التلقى، لاتنشغل سوى بالجمال .
سواء كان ذلك فى قصيدة نثر أو تفعيلة، ولا تثنينى ذائقتى السردية ، حتى عن معانقة
عمود الشعر .
هذه متعة لا يشعر بها سوى متلق حر . غير منحاز . يدرك قيمة التعدد
والتجاور فى المشهد الشعرى المعاصر . لهذا
، كلما فتشت فى ذاكرتى ، وجدت ومضات متباينة تتأرجح على وتد . فأترك ذاتى لها ،
حتى لا أعرف ، ذات اليمين من ذات اليسار
.
عاطف عبد العزيز
يطرح الشاعر ( عاطف عبد العزيز )
نموذجاً ناضجاً ومتوازناً لقصيدة النثر الجديدة ، فهو على الرغم وعيه بمعطياتها
الجمالية والفلسفية ، واشتراكه مع كتابها في نفس الملامح والسمات التي يجدونها
مميزة لخطاب شعري جديد ، إلا إنه لا ينساق كثيراً للتنازل عن القيم الجمالية
والفنية لمجرد تحقيق شروط الكتابة الجديدة ، فهو مثلاً لا يتعامل مع الجسد عبر
مفاهيم ايروتيكية مفرطة ، وإنما يرشدها ليرقي بها إلي مستوى التأمل العميق، ليصبح
الجسد عنده ، واحداً من المعطيات التي تجسد أزمة الإنسان ، وليس مجرد وسيلة لتحقيق
لذة رخيصة، يقول في قصيدة (بردية) ولنلاحظ عنوان القصيدة الذي يتشاكل مع التراث،
وتقاليد المعارضات القديمة:
(( كأن الوقت ـ يا بني ـ كان ممهداً
/ لخطيئة عظيمة
/ فما الذي يملكه المساكين أمثالنا
/ ضيقوا الشرايين
/ الممعودون
/ الذين ديست شهواتهم في صمت
/ بينما
/ يُثاب الآخرون على ما يرفلون فيه )) .
وفي قصيدة ( لا أحد يخسر ) يجعل من العلاقات الجسدية وسيلة لاكتشاف الذات،
والوقوف على خصائص خافية فيها .. يقول :
(( و اللاتي ينصتن إلى جسده شغوفات
/ وهو ينتج سيرته في كل مرة
/ بشكل مغاير
/
بشكل يدهشه شخصياً )) .
ويمثل ديوانه الأخير (كمن يتهيأ للنوم
) إضافة حقيقية في سبيل ترسيخ قيم القصيدة
الجديدة ، وهو جهد يمكن ملاحظته منذ صدور ديوانه الأول في نهاية الثمانينيات
(ذاكرة الظل ) .
والاشتغال الذاكراتي الحميم (النوستالجيا ) هو واحد من
السمات كثيرة الدوران في القصيدة الجديدة، وتضمن الذاكرة الشخصية ، أدنى قدر من
تماسك الذات ، وحمايتها من الاندياح تماماً في عالم تكتنفه الفوضى ، وتستبد به
آليات المحو و التشويه للخصوصيات الفردية، ولكنها ذاكرة تقف عند حدود (
النوستالجيا ) ، كمجرد تحنان إلي الماضي القريب من تاريخ الشخصية يؤكد فرادتها
ويدعم وجودها ، إنها ذاكرة لا تهتم كثيراً للماضي البعيد ، فليس ثمة استلهام
للأساطير، أو تناصات مع تراث ما ، فالماضي البعيد لا يخص الذات الآنية ، أي أن
التحنان للماضي يتعلق بما له القدرة على التأثير و الامتداد في الآني ويسهم في
تشكيله على نحو ما .
ومن ناحية أخري فإن التعامل مع الماضي لا يصل إلى حد تقديسه كمصدر للعظة
والعبرة على نحو ما كان يفعل الشاعر القديم في وقفته وتوقيف صاحبيه أمام الطلل؛ فاستلهام
الماضي لا يعنى الالتزام بماضويته، وفي هذا يقول:
في قصيدة الحفل
(( سينشأ وهم شائع إذن
/ لازم للتبصر
/ ومدعاة لاستعادة ما مضى
/ على هيئة جديدة
/ لن تكون سيئة بحال
)).
وتحرك قصيدة ( عاطف عبد العزيز) مفهوم
الواقع ليكون أكثر اتساقاً مع المستجدات التي فرضتها قيم ما بعد الحداثة، فنتيجة
لتغيير هذا الواقع ، يتغير عدد كبير من العلاقات التي ترتبط بهذا الواقع أ صلاً ،
وتنشأ عن ذلك مفاهيم جديدة للزمان ، والمكان ، والأشياء ، فيصبح أكثر انسجاماً مع
مفهوم النسبية .
يقول عاطف عبد العزيز في قصيدة (مدينة.. رجلان).
ـ الواقع لم يكن واقعياً في أي وقت .
ـ الطبيعة لم تكن أبداً صامتة .
ـ الأمكنة ـ كل الأمكنة التي تركناها هناك ثابتة بفعل الوزن ،
نالت نصيبها من العابرين
.
أو .. سفحتها الخماسين على الأقل .
أي واقع تعنى ، وأنت تلتمس الفرد في التعدد!! .
وعنوان القصيدة (مدينة .. رجلان) يشير إلى ربط مصيري بين الإنسان والمكان ،
بحيث يبدو كل منها مرادفاً للآخر ودالاً
عليه ، وهذا الربط تتأكد علاقاته في القصيدة الجديدة مع المدينة على نحو خاص، إذ
يمكن القول إن القصيدة الجديدة ، هي بنت المجتمع المدني الحديث ، مجتمع ما بعد
الصناعي ، حيث تتماهى الحدود بين الأمكنة في آفاق الميديا التكنولوجية لتجعل من
خصوصيات الأمكنة عرضة للتآكل ، ومن ثم ، تصبح الذات أيضاً عرضة لهذا التآكل ، ومن
ثم ، فإن إعادة ترتيب المدينة في قصيدة ( نحو مرثية جديدة ) هو إعادة ترتيب للذات
، وحمايتها من البدد و الفوضى، فالشاعر الجديد ليس لديه هذا النزوع لبناء مدينته
الخاصة ( اليوتوبيا) التي لا مكان لها على الأرض كما فعل الرومانسيون ، و لا هو
ينظر إليها كآخر مناوئ ، على نحو ما نظر لها الجيل الأول من المجددين في حذوهم
للفرنسي (رامبو) وصورة المدينة العاهرة ، فالمدينة عند الشعراء الجدد واقع ، ولكنه
واقع افتراضي متغير ومربك ومصنوع على نحو يخدم الزمن اللحظي ، ومن ثم فهو لا
يترسخ في الذات إلا بقدر التواصل معها ..
يقول :
يحدث ..(
أن يصحو المرء غير نافع لهذه المدينة
ليري المقاهي ليست علامات ذات مغزى
والصبية الميكانيكيين هؤلاء .. معرضين عن إيذائه
، ويحدث أيضاً
، أن تتصرف الشمس في الأمكنة
على نحو يخلو من الرغبة .
عاطف عبد العزيز فنان تشكيلي أصلاً ،
ثم هجر الرسم بالألوان إلى الرسم بالكلمات، واحتفظ في كلماته بقوة اللون، وبدلاً
من تشكيل مساحات البياض في اللوحات آثر تشكيل مساحات البياض في الزمن ، هذه مهمة
سردية بالدرجة الأولى ، باعتبار السرد فن تشكيل الزمن ، لكن انحرافة أخرى في
تجربته دفعته إلى الشعر، علاقته الوثيقة بالموسيقى ، وإيمانه بأنها ليست مجرد
إيقاع صوتي ، فكل شيء في الوجود له موسيقاه ، فثمة موسيقى تسمعها وأخرى تراها
وثالثة تحسها ، نوع من تراسل الحواس مغلف بحدس صوفي لما هو إبداع وقدر من الزهد ، لكن كل هذه المقومات لم تكن
لتكتمل لولا امتلاكه لدرجة كبيرة من الوعي بذاته الشاعرة ، هذا الوعي الذي يمكنه
من العمل على صقل وتطوير تجربته ، حتى ليبدو كل ديوان جديد يصدر له بمثابة إضافة
هامة ، ليس إلى تجربته فقط ، بل إلى تجربة قصيدة النثر الجديدة في مصر، وعندما
نقول قصيدة النثر الجديدة ، فإنما نميزها عن قصيدة السبعينيات التي اتسمت باتساع
الأفق التقني والرمزي والمجاز اللغوي فشاع فيها الغموض .واستحالت ـ في بعض الأحيان
ـ إلى نوع من الشعوذة اللغوية ، فعلى العكس ، سعت قصيدة النثر الجديدة ( في
التسعينيات ) إلى شفافية اللغة ، وراهنت على المشهد الشعري بدلاً من السموق
البلاغي للغة، وصور الحياة المعاشة بدلاً من المعاني المجردة، وأفادت من آليات
وأساليب السرد التي منها الحدث والمفارقة والامتداد الزمني والحضور المكاني .
في مخيلا الأمكنة ، يحاول عاطف تقديم رؤية إيقاعية للمكان ، نوع من الإدراك الشعري
لأمكنة عاشها أو رآها ، ثم هو يوسع ذلك ليشمل الإدراك الذهني أيضاً ، فثمة أماكن
لم نرها ، ربما قرأنا عنها أو سمعناً بها ، لكن أرواحنا تعلق فيها لسبب ما قد لا يكون
مفهوماً وواضحاً ، فقط فيما يشبه الأخيلة تظهر ، ثم شيئاً فشيئاً تتضح تفاصيلها على
نحو مدهش لتعج بالحياة ، هنا تعمل فكرة المخيال على نحو بازغ
فى الديوان نوعان من الأمكنة ، أمكنة
معاشة تنتمي للواقع كما في قصائد " الكيت كات ـ المقهى ـ على سطح مشمس "
وأخرى تلوح عبر المجاز والمعنى كما في قصائد: التغريبة، ومصحة، والمدينة دون ملك .
قصيدة التغريبة تنطلق من مشهد بصري لخيمة في الليل تقبع على عمق فى الصحراء
، إنها خيمة في معسكر لجيش الفلاحين الذي جمعة محمد على من الحقول لتطمر أرواحهم الرمال ، الفلاحون الذين أجبروا على
ارتداء السراويل العسكرية ودس أقدامهم النحيلة في أحذية ثقيلة وحصد الأرواح بدلاً
من القمح ، كل شيء في الخيمة ( المكان ) يدعو إلى الاغتراب ، هكذا نسمع في خلفية
السرد إيقاعات الاغتراب ، أنات الجرحى الذين لم تندمل جروحهم بعد ،آهات المشتاقين
للأهل ، زفرات الذين تذكروا للتو أن هذا أوان الحصاد .
لنقرأ هذا المقطع الذي ينتقل بنا من المكان / الخيمة، إلى المكان / القرية
بعد انتهاء الحرب :
(كان طبيعياً ـ بمضي الوقت ـ أن تتهرأ أحذيتهم الأميرية ، صاروا يتعثرون إذا مشوا حفاة
في السكك ، لذلك استبدلوا بها لفائف الكتان ، ثم جلسوا مقرفصين على الجسور ،
يرقبون المحاريث الصدئة ، ويحملون فوق أكتافهم عصياً من أغصان غلاظ ، أجل .. كانت
غلاظاً بما يكفى لملء التجاويف التي حفرتها البنادق)
هكذا ، فمع كثافة السرد ، وشفافية
اللغة ، لا نعجز في استبيان الدلالة ، واسكناه المعنى ، عن صناعة القهر التي تمتد
عبر التاريخ ، لنزغ السلام من نفوس الأبرياء ، لتحفر في أجسادهم تجاويف مناسبة
لحمل البنادق المعدة للقتل ، هكذا ـ ببساطة ـ يكون لدينا فضاء لا يتوقف عن
الامتداد المكاني في التاريخ ، فضاء شاسع لحقول الاغتراب. وحيث تسكن هناك ، ذوات
ضلت الطريق إلى أجسادها .
إرسال تعليق