برهان على لا شيء، لعاطف عبد العزيز.
بقلم: سيد الوكيل
عادة، أوجه تأملاتي النقدية لفن السرد الذي
أكتبه، كطريقة لسبر أغواره وفهم أسراره. فيما يظل الشعر واحتي الصغيرة جدًا، لتعكس
مزاجًا خاصًا، لا يرقى إلى معنى النقد. ومع ذلك، فكلما قرأت ديوانًا للشاعر عاطف
عبد العزيز، بحثت عن قلمي.
ربما يرجع هذا لتفاعل تجربتينا الأدبية
الطويلة منذ أواخر الثمانينيات. الثمانينيون حالة خاصة في تاريخ الأدب المصري
الحديث، هم الذين تفتح وعيهم على انكسارات 67، وتحطمت آمالهم بعد انتصارات 73،
ودفعوا ثمن التطرف الديني طوال الثمانينيات، وعانوا تجاهل النخب الثقافية لهم،
باعتبارهم جيل التطرف، وأخيرًا، كانوا ضحايا عولمة الثقافة وتحولها الرأسمالي في
مطلع الألفية الثالثة، فانفجرت مقولة زمن الرواية بوصفها آية من طرف السماء،
فأغلقت دور النشر أبوابها في وجه الشعر والقصة، وفتحت لجان الجوائز أبوابها في
المحيط العربي بنزعة تنافسية فيما بينها.
لدي
مئات البراهين على ذلك لمن يريد. ولدي يقين أيضًا، أن هذا الجيل، كان جسر العبور
لقصيدة النثر في الفصحي والعامية معا، وللرواية الجديدة التي اعتبرت الزمن زمنها. ولدت
قصيدة النثر رغم كل هذا التفكك، وربما كانت استجابة للتفكيكة التي سادت العالم
فيما بعد العولمة، حتى وصلنا إلى ما يطلق عليه (زيجموند باومان) السيولة الثقافية،
فلم نعد نعرف لها رأسا من قدم.
كنت في هذا الوقت، رئيساً لنادي أدب بهتيم، محاطاً
بصحبة رائعة من كتاب السرد، والشعراء، متنوعين بين الفصحي والعامية، وبوازع من
الشاعر القدير (مجدي الجابري) قررنا أن نقيم أول مؤتمر لقصيدة نثر العامية في نادي
أدب بهتيم المنفي في حي عشوائي، وبجهد ذاتي، وعلى مدار ثلاثة أيام، من البحث
والدراسات والجدل الثقافي، انطلقت الشرارة الأولى لقصيدة نثر العامية. أما عن
قصيدة النثر الفصحي، فكان الشاعر (عاطف عبد العزيز) ونخبة من شعراء الفصحي الذين
أصبحوا الآن نجوماً لامعة، يسلكون طريقهم الخاص، لكنهم التزموا بالصحبة النبيلة في
نادي الأدب، ونتيجة لذلك، نشأ تفاعل ثقافي وإنساني بين شعراء الفصحي، وشعراء نثر
العامية أمثال: مسعود شومان، ومحمود الحلواني..الخ. فنجحت قصيدة النثر عموما في
تحقيق هويتها الجديدة.
**************
(برهان
على لا شيء) هو الديوان الذي وضعه عاطف عبد العزيز بين أيدينا، وهو يختتم عامه
الستين. العنوان يعكس نبرة متأسية، شجية، تناسب تاريخًا من النضال العبثي، وإحساس
بالخديعة، والغضب من خطيئة التصورات على حد تعبير فردوس عبد الرحمن في كتابها
الهام (أنا العزير).
إشارات الكثيرين إلى طابع النوستالجيا في ديوان (برهان على لاشيء) لا يمكن إنكارها. لكن عاطف عبد العزيز لم يكتب ديوانه ليقف على أطلال الماضي باكيًا كجده الجاهلي. بل ليفهم: ماذا حدث في الماضي؟ وماذا يحدث الآن؟ وما الذي يمكن أن يحدث؟.
صحيح أن النوستالجيا وجدت مكانًا سَرِيًا في
قصيدة النثر عمومًا، لكن الكثير منها وقف عند المعنى الأولى لها، الرغبة في
استدعاء الماضي كآلية تسمح بتدفق تيارات من المشاعر الحميمة، تجربة جمالية خالصة
كأن تشاهد فيلمًا قديمًا، تستمتع به، ولكنك تعرف أنه مجرد فيلم. وأن كل شيء فيه
بعيد عن الهنا والآن! هذا موقف طللي غنائي، لا يشتبك مع أي شيء خارج الذات. أما
النوستالجيا في هذا الديوان، فهي وسيط رؤيوي لفض التباس الماضي، وليس للتماهي فيه.
مسافة للوعي وليس للشعور، تستهدف فضح جهلنا بما عشناه وعشقناه، عبر لعبة يسميها
كونديرا في روايته الجهل: تزييف الذاكرة. كان الحنين قد غالب (إيرينا) بطلة الجهل،
فعادت إلى موطنها القديم (براغ) لتكتشف أنها عاشت طوال الوقت جاهلة به.
النوستالجيا بهذا المعنى، ستارة مخملية شفافة
نرى العالم من وراءها. الموقف الطللي الغنائي يحتفظ بها، يبقيها على حالها، أما
الموقف الجدلي الدرامي، فيمزق الستارة ليرى أدق وأوضح معًا. هكذا.. جاء برهان على
لا شيء ليطرح معنىً جديدًا وعميقًا للنوستالجيا.
من هنا يبدو الديوان رؤية شعرية للتاريخ منذ
الستينيات حتى ألآن، إنه -في نفس الوقت- التاريخ الشخصي للشاعر، الذي هو طفل
الشرفة، الذي اعتاد أن يقف على أصابعة، ليرى الليل وهو ينام خلف باب حديقة
الجيران، هو نفسه، الذي يقف الآن، في الجانب الآخر من منتصف الليل:
"لا لكي يرى باب حديقة الجيران
بل ليكشف المشهد الذي انبثق في الفضاء فجاءة
بعدما تبدلت أحوال العائدين من الحقول
وطالت سكك الذاهبين إلى المصانع
وتغيرت زاوية الظلال على أسوار البيوت
في مصر الجديدة"
أظن أن الرؤية واضحة لكم الآن، بعد هذا
التعريف بمعنى النوستالجيا في هذا الديوان. إنها ليست مجرد حيلة لإضافة قدر من
الشاعرية على الماضي، بل لتمزيق ستائر الشاعرية التي زيفت وعينا. لفهم دراماتيكية
الحياة، وطبيعة المأزق الوجودي للإنسان المعاصر، لفهم مناطق الالتباس وخفايا
الأمور في وعينا:
" كان ألفيس بريسلي كلمة السر
فبالفتى اليافع هذا
تمكن الأمريكيون من ترتيب أوضاعهم بعد الحرب
في مرابع أوروبا الجريحة"
إن المأزق الوجودي للإنسان لا يكمن –فقط- في
خطيئة تصوراته عن حاضره، بل أيضا في عجزه عن ملاحقة تغيرات مستقبله. هكذا يظل
عالقًا في زمنه القديم، الذي لم يعد موجودًا الآن، لهذا، لا يمكنه أن يفهم أن
ألفيس بريسلي ألان متحفاً. وحليم ألان وسادة خالية. وبهذا المعني التراجيدي، يلفت
(عاطف عبد العزيز) انتباه صديقه كاتب قصة (ننس) المترعة بالنوستالجيا أيضاً فيقول
له:"نادية نبيل سند لم تعد "ننس" يا سيّد، ولن تنفعك في محنتك تلك
"سانت تريز". العروس البيضاء التي تحتفظ بابتسامتها منذ قرن في صندوق من
الزجاج، ربما لأن الأيام تبدلت".
صحيح أن القراءة الموضوعية للشعر ليست كل
شيء، ولا ننكر أن الديوان يحتوى مستويات من التركيب الشعري، سواء من حيث اللغة أو
الخيال، لكن وقفتي الطويلة أمام الموضوع الشعري ليست شغفًا يليق بكاتب للسرد مثلي،
بقدر ما هو رغبة في استبصار ما وراء النص من وعي بالذات والعالم. هذا حري بمن تجاوزوا
الستين معًا، عندما تلح الذاكرة على استحضار الزمن وتجلياته لا لنجهش بالبكاء، بل
لنفهم ما الذي التبس علينا من قبل:
" على أي أرض تتأسس الذاكرة؟ قالها سعدي
يوسف في منفاه، بعد أن رأي أسباب الذكرى منبتة من جذورها"
هكذا يبدو الأمر مربكًا، كأنما هو برهان على
لا شيء، وفي قصيدة (وقت في حراسة الخذلان) نجد:
التاريخ
بعض من وقع حافري على خد التراب
لكن النسيان، يظل هو النسيان
الصاحب حلاً وترحالاً
تمامًا، مثلما يجرف السيل قبعة.
ذاكرة الظل، سياسة النسيان، حيطان بيضاء،
مخيال الأمكنة، ترجمان الروائح: عناوين لدواوين سابقة قدمها عاطف عبد العزيز منذ
بداية التسعينيات، تومض بحواس يقظة، حول ثنائيات مثل: الذكرى والنسيان، النور
والظل، الخيال والحقيقة، المكان والزمان. فيما (برهان على شيء) عنوان غير منتمٍ لأي
من قصائد الديوان، إلا أن تكون حالات النوستالجيا التي تعترينا، هي محاولة منا،
للبرهان على شيء لم يعد موجودا. حتى ولو كان نوعاً من تزييف الذاكرة كما يسميه
ميلان كونديرا:
هكذا
كلما فات بحارة وسألتهم أن يأخذوني معهم
ضحكوا
ومازجني بكاء..
ثم ضحكوا.. ومازجني بكاء
بعدها،
أسلمت روحي للضحى وهو يعلو،
حتى لمحت وجهي،
بين مغادرين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
برهان على لا شيء، من إصدارات روافد للنشر
والتوزيع – أكتوبر 2016م
إرسال تعليق