مقام الشوق:
كلُّ شيءٍ هالكٌ إلا الكلمة
عاطف محمد عبد المجيد
في مفتتحه لكتابه "مقام الشوق.. تجليات صوفية" الصادر عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة، يقر عمار علي حسن أن بيننا الآن أناس لا يقلون ولاية وهداية وتزكية وتقوى عن الذين راحوا، رغم تقديس الكثيرين لمن راحوا، داعيًا إيانا لأن ننصت إلى هؤلاء الذين بيننا وأن ننظر إليهم، وليس معنى هذا أن نعطي ظهورنا للذين مضوا وذهبوا وسكنوا الزمن الغابر، وإنما لننتبه إلى مَن هم بين أيدينا ولا نراهم، وهم يطيرون في الملكوت الفسيح، بينما يحطون على الأرض يكافحون في سبيل تحسين شروط الحياة. هنا وفي مقام شوقه، ومتنقلًا من مقام إلى آخر، يؤكد الكاتب أن أهل الولاية الذين يعيشون معنا الآن لا يقلون أبدًا عمن نُجلّهم لا لشيء إلا لأنهم راحوا. في مقاماته الصوفية التي دخل فيها محراب التقرب من الخالق، متأملًا خلقه وصنيعه، مصليًّا له، ساجدًا يشكره على هدايته ومنحه لمحبته، وبسلاسة العابد العاشق يتحرك عمار علي حسن في عالم مقاماته حاملًا قلبه المتعلق بخالقه بين يديه، معلنًا حبه له وتقربه منه. في مقام الكلمة يكتب عمار قائلًا إن كل شيء هالك إلا الكلمة وحدها تبقى، لأنها الله، وهي الروح، والمساحات غير المأهولة بين ما نريد وما نستطيع، لهذا نحن منجذبون إليها دائمًا، مقرًّا أن كل شيء يزول إلا الكلام، وحده يصمد في وجه الفناء محمولًا في ألواح محفوظة وذاكرة لا يأكلها الدود.
الروح جوهر كامن
في مقام الوجود يكتب عمار فيقول إن في كلٍّ هناك جوهرًا كامنًا، إنه الروح التي تعطي الأشياء وجودها، وإن راحت مات كل شيء، مضيفًا أن الروح أمر واحد توزعت على الكل دون تفرقة، إنها واحدة لأن من أطلقها واحد، هو من خلق وسوى وعدل في أبهى صورة، بينما يقول في مقام الناس إن أي إنسان يعاني على سطح هذه الأرض، يحلم بمن يأخذ بيده دومًا، ويريد منه ألا يشرد به كل الوقت في ما فوق استطاعة الأذهان أن تبلغ هيئته فهو "ليس كمثله شيء"، إنما أيضًا تقترب به من هذا الذي يعمل معه وهو يدب على التراب مثله، في سبيل أن ينتشله مما يعاني منه، الفقر والحرمان والتيه والخوف والحاجة والرغبة المستعرة في التحليق ساعة من نهار في أحلام يقظة، وساعة من ليل في رؤية قد تتبخر أو يسافر بعضها في الذهن. عمار علي حسن الذي كتب القصة والرواية والشعر والمقال، وتجوّل في عوالم الفكر والثقافة يعطي نفسه هنا استراحة ليخلو بنفسه إلى الله كي يُريح روحه وعقله مما علق بهما من هموم، وحده يجلس هنا إلى ربه الذي لا أمان ولا طمأنينة بعيدًا عنه، وهنا يُحلّق وحده عاليًا في عالم لا يدخله إلا الأنقياء الذين اصطفتهم السماء ليكونوا أهلها وعشيرتها مانحة إياهم راحة ومذاقًا لا يستطعمه سواهم، ولا يجد ريحها مَن تمرد وخرج صافقًا الباب وراء ظهره. في مقام الحيرة ينهينا الكاتب عن التردد، داعيًا إيانا إلى تحديد الهدف، ووضع الاختيارات ودرس المزايا والعيوب، الحلو والمر، وأن نؤمن بأن القرار الخاطيء الذي نصححه ونصوبه ونعززه أفضل كثيرًا من العيش بلا قرار، داعيًا إلى أن نكون مع المطر لا مع العاصفة، مانعًا إيانا من التهور فهو آفة، كما ينهينا عن عدم البوح بما نحب لمن نحب، فالبوح يريح النفس. هنا كذلك وفي محراب ولايته، يكتب المؤلف قائلًا إن الولي لا يهزأ ولا يخطف ما ليس له، ولا يقرب منه السفهاء والجهلاء وعابري الدروب والآكلين على كل الموائد، فمائدة الولي لا يدخل طعامها إلا إلى جوف الطيبين الصابرين الذين يأكلون ليعيشوا، ولا يعيشون ليأكلوا. والولي كما يراه الكاتب هو المشغول بالمعنى، ولا يقف عند الصورة.
في حضرة مقاماته
وهو في مقام صوفيته لحظة ارتقائه إلى أعلى منغمسًا في انشغاله بمن هو هناك، تائقًا إلى الخلاص من دناءة الدنيا إلى سمو العالم الآخر، يكتب عمار قائلًا إن كل شيخ ينظر بعين الرأفة إلى مريديه، وكل مريد يتوق إلى خلاص على درب سيده الذي يدركه، وهو في حضرة مقاماته هذه يريد الكاتب من قارئه ومصاحبه، خلال صوفية رحلته، أو رحلته الصوفية هذه، ألا يخدع نفسه بأن ينطلق بعيدًا، وأن يبدأ من النهاية، فالبدايات أبواب الساعين باجتهاد إلى النهايات، والنهايات تتجدد لمن يستطيعون أن يوسعوا غرف الحياة المظلمة، ويؤمنوا بأن ما لا يميتنا يقوينا، وأن كثرة السقوط تعلم الوقوف، وخير الخطائين التوابون. عمار علي حسن الذي ارتدى هنا زي المتصوفة، وتدثر بكساء الهائمين الطامحين إلى الحبيب الأعظم، الذي غمرهم بنعمه التي لا تحصى، يحاول الوصول إلى صفاء نفسي لا يشعر به كثيرون، ولا يستسيغ مذاقه إلا كل مريد، يقول إن أهل الطريق لا يرون الله في الأدعية والتسابيح والصلاة والتلاوة فقط، بل في كل قول وفعل يشد الناس إلى الأمام، مؤكدًا أن أهل الطريق ليسوا دراويش مستسلمين لدعيٍّ، ولا بهاليل سادرين في طاعةٍ خلف شيخ كذوب مكشوف لهم ويشاطرونه ألاعيبه وأكاذيبه، بل هم الذين يلتقطون الصادقين في الزحام. هنا يشير الكاتب إلى أنه لا يوجد في هذه الحياة أقسى من سؤال الذين يؤمنون بأنهم على حق وصواب عن جدوى ما يفعلون، وأن أي أمة لا تعيش بلا العدل الذي تضطرب أحوال الناس في غيابه، وإذا استطاع الناس في مكان ما أن يتحملوا ظلم الحاكم، فليس بوسعهم أن يتحملوا غياب عدل القاضي في أي وقت، وأن الخوف يخاف ممن لا يخافه، والخائف هو من لا يدرك خوف من يُخيفه، فمن خاف يخيف ومن لا يخاف لا يُخيف أبدًا.
قتل الخوف
في مقاماته التي تجاوزت الثلاثين مقامًا، ويطلب منا في بعضها ألا نخاف وألا نتردد وألا نيأس وألا نتخاذل، ويجعلنا نعيش حالة الحضرة الصوفية خلال الوقت الذي نقضيه في قراءتها ومعايشتها، يحاول الكاتب أن يصل بقارئه إلى بر الصفاء والهدوء النفسي، مستندًا على قوة عظمى لا يقدر أحد على هزيمتها، وهي قوة اللجوء إلى الله والسباحة في ملكوته وفضائه الرحب الوسيع والمكوث بجواره. هنا يدعونا الكاتب إلى قتل الخوف وصناعة المصير، فالذئب لا يأكل إلا من الغنم القاصية، وحزمة من حطب هش أقوى من عود خيزران واحد، وقطرات من ماء تدوم بوسعها أن تفلق الصخر، ودفقة نور واحدة من شمس الصباح تبدد الغيوم. كما يريد منا ألا نعتقد أن الرصاصة أقوى من الكلمة، داعيًا إيانا إلى أن نرفع حروفنا في وجوه أصحاب السطوة والسوط، وأن نرفع أصواتنا عالية في وجه الجبارين، نافضين عن أنفسنا كل خمول وخمود وركوع وخضوع. ومما يراه هنا ويقره عمار على حسن بعد ترحاله الصوفي هذا، أن الأمر لا يستقيم لولي أو تقي إلا إذا كان قلبه يسع العالم، فما في نفسه من ورع، وما في عقله من فهم، يجعله ينظر إلى كل أمر من علٍ، مترفعًا عن صغائر تهلك غيره وتجعله حانقًا قانطًا، كأن الدنيا كلها محشورة في سم الخياط.
إرسال تعليق