عصر تحت المجهر
قراءة انطباعية لرواية "بيت السيدة"
للروائية والإعلامية أ. نهى الرميسي
بقلم: د. محمد أبو الفتوح غنيم
بعض الروايات تغنيك عن فنون الأدب الأخرى، أو تأخذك منها؛ لتصبح أسيراً لها، مأخوذاً بها، مجذوباً إليها، وذلك عندما تحمل في طياتها سمات هذه الفنون، فالحدث، أو الموقف، الذي تقوم عليه القصة تجده فيها يرفع رأسه كل حين، والدراما والحوار قواما الفن المسرحي يتجولان في أروقتها وعليهما تقوم، والخيال الشعري والتعبير المجازي والايقاع الموسيقي، وهما أدوات الشعر ومفرداته، قد تجد أماكن لها في رحاب الرواية الواسع، كما يستع رداؤها لاستيعاب المقال النقدي والتحليلي، بل قد تمتد مظلة الرواية لتشمل فنون حديثة كفن السينما كما في مشاهد استدعاء الذكريات من الماضي "الفلاش باك"، جميعها قد يستوعبها رداء الرواية الفضفاض وعالمها الرحب.
ورواية "بيت السيدة" للأستاذة الأديبة والإعلامية نهى الرميسي من هذه النوعية من الروايات الفسيفسائية، ولوحة فنية تأثيرية الطابع تجمع ألواناً من الفنون.
ولأن للعناوين دلالاتها، فعنوان الرواية "بيت السيّدة"، قد لا يشي بدلالته إلا إذا تعمقت في الرواية وأبحرت فيها، لتصل في النهاية إلى تساؤل يرفع رأسه في وجهك، هل المقصود ببيت السيدة ذلك البيت الأنيق الذي يقع في حي السيدة، والذي صاحب أجيالاً من الأشخاص بداية من والد سالم، مروراً بسالم، ثم ابنه فتحي، وانتهاءً بأخت فتحي وأبناء فتحي، وعاصر أحداثاً وتعرض لتحولات بداية من تطفلات، ثم تدخلات، ثم توغلات وانتهاءً بالإزالة والهدم لتقم مقامة عمارة حديثة شاهقة بها محلات تجارية وتعلوها لافتات ولوحات اعلانية، أم أن المقصود أبعد من أن يتجسد في تلك البناية وهذا الموطن الصغير، ليشمل الوطن الكبير ، بيت مصر، أو بيت المصريين جميعاً، وما شاهده من تحولات وتغيرات تاريخية وسياسية واجتماعية، وما مرَّت به من أحداث وشخصيات. ولن يستغرق القارئ الواعي وقتاً طويلاً حتى يدرك ما تقصده الكاتبة من وراء هذا العنوان ومدلوله.
وان كان بيت السيدة هو محور الرواية وعنوانها، فقد زاحمته ولازمته على فترات لوحة فنية معبرة عن حال صاحب البيت، وربما عن حال أجيال، أو عن حال شعب بأكمله، وموضوعها "موضوع السطو بالغش والخداع الذي يُمارس على ابن العائلة الثرية، الذي يبدد ثروتها على ملذاته"، كانت هذه اللوحة بؤرة الرواية وعمود خيمتها، وقامت عليها التقنية الفنية للرواية، والتي اتبعت الاسلوب الدائري، الذي ينتهي آخره بما بدأ به أوله، وكانت البداية من انتقال هذه اللوحة من بيت عبد الحميد بك فتحي إلى بيت سالم الخطابي "بيت السيدة"، وفي النهاية انتقال اللوحة من بيت السيدة على يد فتحي الخطابي إلى بيت زوجته نادية، ومن ثم محاولة بيعها في باريس للاستفادة من ثمنها في استعادة مجدهما القديم وكيف شكّك خبراء في أصالتها، وكيف أكدّ خبراء آخرون على أصالتها؛ لتنتهي قصة اللوحة مع "انتحار" نادية زوجة فتحي في باريس أو هكذا قيل. وكلاهما، بيت السيدة واللوحة يصلح أن يكون عنواناً للرواية كما كان كلاهما محورًا الرواية، وكلاهما له دلالته الرمزية والفنية، ولكن تفضيل الكاتبة لعنوان "بيت السيدة كان أكثر توفيقاً وأكثر تعبيراً ودلالة على المقصود الكامن في الرواية.
والرواية كما أنها فسيفسائية فنية، فهي فسيفسائية في موضوعها، فهي تاريخية، وسياسية، وإنسانية، واجتماعية، وجغرافية (الحضر والريف)، كل هذا يمكن إدراكه من خلال الأحداث وبنائها وتسلسلها، والمواقف وتعددها، والأشخاص وتنوعهم الاجتماعي والطبقي والنفسي والسلوكي.
الرواية تغطي فترة تاريخية من أهم فترات تاريخ مصر الحديث، وهي الممتدة منذ عام 1923 وتنتهي في نهاية السبعينات من القرن العشرين، لتمر بأحداث تاريخية مهمة، مثل: دستور 1923، ودستور 1936، و "حركة الضباط" أو ثورة 1952، مرورًا بأحداث وسياسات ما بعد ثورة يوليو، وتوابعها على المجتمع المصري بشرائحه المختلفة، ثم هزيمة 1967م، وعودة الروح بانتصار أكتوبر 1973م.
فهل يمكن تصنيفها بناءً على ذلك بأنها رواية تاريخية؟ الجواب في اعتقادي أنها تتناول التاريخ وأحداثه خلال هذه الفترة، بموضعية، وحيادية، وانصاف، ليس بقلم المؤرخ بل بمبضع جراح وبقلم أديب، وبألسنة البشر، من وراء ستار شخصيات خيالية تتباين آراؤهم، وثقافاتهم، وتشكيلاتهم الاجتماعية، وكانت البداية من دستور 1923، ثم دستور 1936م، ومروراً بحركة الضباط الأحرار، أو ثورة يوليو 1952، وما صاحبها من سلبيات، ومنها التدخل في تعيين شيخ الأزهر، وتجاوزات بعض ضباط ثورة يوليو في تطبيق قوانيين الإصلاح الزراعي والتنفيذ العشوائي لها، وآثارها السلبية على الناس والأرض، كانتزاع أراض من سالم و"هي ميراثه الشرعي من أجداده الذين نموها من حر مالهم وفلَاحهم، ولم يحصل عليها عن طريق السّطو أو الهبة كحال البعض"، فكان أن مرض بالقلب حزناً عليها وتوفي بسبب مرضه، وتجاوزات لجنة مصادرة الأموال والاستغلال الفاسد للسلطة، فيتغاضى "سمير شعلان" اليوزباشي في لجنة المصادرات عن تنفيذ بعض القرارات مقابل طمعه في الزواج من "ملَك"، هانم إحدى هوانم ما قبل الثورة، الذي كان إصراره على الزواج منها، رغم أنه متزوج، بمثابة أمر رسمي لابد من تنفيذه، حتى إذا رفضت طلبه قبض البوليس الحربي على ابنها "أشرف" ضمن حملة الاعتقالات ضد الشيوعيين والاخوان المسلمين عام 1959، مما اضطرها أن ترضخ لطلبه إنقاذاً لفلذة كبدها، ثم زواجه السري من "نادية" زوجة فتحي السابقة، واستغلاله لها، تحت وطأة الظلم والقهر، في تهريب المجوهرات والتحف واللوحات الفنية والمقتنيات الثمينة، التي كان يتم مصادرتها من قصور الأثرياء وأمراء الأسرة العلوية إلى الخارج.
وعلى الرغم من تطابق بعض الشخصيات في الرواية تطابقاً سيميترياً مع بعض الشخصيات التاريخية، كما في شخصية "سمير شعلان" ، وكذلك شخصية "نادية" التي انتشر خبر انتحارها قفزاً من فوق بناية عالية في باريس، وهو يذكرنا بحالة الفنانة الشهيرة "س.ح" وملابسات نهايتها في لندن.
وتستمر الكاتبة بقلمها، أو بالأحرى مبضعها، في تتبع وتشريح الأحداث التاريخية وكشف المستور منها، وتحليلها، كما في موقف الإعلام المصري الرسمي قبل الحرب وفي بدايتها، من قبيل: "في اجتياز العقبة .. قطع رقبة"، "المعركة محسومة وستكون نزهة لجيشنا أمام عصابات الصهاينة" و "ننتظر المعركة على أحر من الجمر" و "طلائع جيشنا على أبواب تل ابيب" !. ثم ما حدث لجنود الجيش المصري في سيناء خلال الحرب. كل هذا مغزولاً ومنسوجاً في إطاره الدرامي، ومضفوراً بأبعاده الاجتماعية، وتصرفات شخصيات الرواية، أحسنت الكاتبة في غزلها، ونسجها وتضفيرها بسلاسة وانسيابية. واستعانت الكاتبة بأدوات استعملتها بحرفية بالغة، ومهارة كبيرة، فكان أبرزها اللغة، والحوار، والتعبير البلاغي والتصوير الفني للأشياء وللشخصيات، والولوج إلى طبائعهم النفسية، والتحليل النفسي لسلوكياتهم وتشخيص حالاتهم.
وقد جاءت لغة الرواية، لغة عربية فصيحة، حافظت على هيبتها، وهيئتها، طوال الرواية. وهي لغة تذكرنا بلغة رواد القصة والرواية العربية، أمثال: محمد عبد الحليم عبد الله، وعلى أحمد باكثير، ومحمد كامل حسين وغيرهم. ارتقت في بعض الأحيان إلى لغة شاعرة في صورة دفقات ذات ايقاع وجرس، أو في صورة تصوير فني شاعري،
التراث رافد من روافد ثقافة الكاتب، وجزء لا يتجزأ من تكوينه، وأداة من أدواته يوظفها لتوصيل أفكاره ورؤاه، وما تحمله الاستدلالات والإحالات التراثية من دلالات ومعان. ويتسع المكون التراثي عند الكاتبة ليشمل الشعر العربي القديم، والقرآن الكريم، والثقافة الدينية، وقد وظفتها جميعا توظيفاً يخدم الفكرة ويقويها، ويحمل دلالات تعطي المعنى بعداً وعمقًا.
أما عن الحوار، فهو يزاحم السرد وينافسه، ويمكن القول إنه حوار مشع، ومضيء، جاء على ألسنة الشخصيات ناقلاً آراءهم ومعبراً عن طبيعتهم وثقافتهم، محللاً للأوضاع السياسية والاجتماعية، وحاملاً وجهات النظر الأخرى والآراء غير سابقة التجهيز والاستهلاك، وتجلى ذلك خاصة حوارات ابراهيم مع سالم، وابراهيم مع الشيخ حسين، وسالم مع الشيخ حسين. إضافة إلى الحوار التخيلي بين فتحي وبيت السيدة أو بين فتحي وذاته الباطنة.
ولقد أجادت الكاتبة في رسم شخصيات الرواية ظاهرياً وباطنياً، إجادة كبيرة، وخاصة شخصية سالم، وفتحي، والكومي، الذي أعتبره من أكثر الشخصيات المرسومة بعناية فائقة، إن لم يكن أكثرها.
كما برعت الكاتبة في تصوير، وتشريح، المجتمع وطبقاته، مجتمع ما قبل ثورة يوليو 52 بشخصياته مثل: ابراهيم، وعبد الحميد بك فتحي، والشربتلي باشا، ودولت هانم، وسالم وغيرهم"، وما فيه من مميزات وعيوب وايجابيات وسلبيات، وما صاحبه من عادات وسلوكيات، مثل: الاحترام المتبادل، والذوق العام، ووضع المرأة الاجتماعي بما فيه من تحشم وتستر وحياء، وعدم مخالطة الرجال إلا بشكل وهيئة مناسبة، والحديث إليهم بشكل وقور ومترفع، والتزام السيدات بيوتهن والخروج محتشمات وللضرورة القصوى، مع ما فيه من جور على حقوقها في ميراثها، وشعورها بالحبسة وتوقها للتحرر.
وزمن ما بعد الثورة، وما أفرزه من أوضاع مغايرة، وفساد استشرى بداية من استغلال النفوذ ومراكز القوى وانتهاءً بفساد الموظفين الصغار في الجمعيات التعاونية، ومن طَفْو نوعيات من البشر على سطح الحياة الاجتماعية من المتسلقين الطفيليين، والمستغلين الوصوليين، والمتملقين الراكبين كل الأمواج، وعبّرت عنهم بعض شخصيات الرواية، مثل: الكومي، وأسرته، وشوقي، وسعاد أم نادية.
واتضح التباين الحاد بين مجتمع ما قبل الثورة وما بعدها، بصورة جلية في تلاقي "سنية هانم" والدة فتحي وزوجته "حسنية" ابنة الكومي، فكان لقاؤهما معاً صداماً بين زمنين، وطبيعتين، وثقافتين، ثم بدأت حدة الصدام تخفت شيئًا فشيئًا حتى وصل لمرحلة القبول بالأمر الواقع، ثم الدخول في مرحلة جديدة، وهي مرحلة انتصار مجتمع ما بعد الثورة ومجتمع الانفتاح على مجتمع ما قبل الثورة. تماماً كما حدث بين فتحي والكومي وأبناء الكومي، وان اختلفت البدايات، وكيف توطدت العلاقة بينه وبينهم حتى صاهرهم، وأنجب من ابنتهم، هكذا تسير العلاقات حتى تصل إلى قبول الأمر الواقع، ثم ارتقائهم ظهر بيته وعلوهم عليه.
من مميزات هذه الرواية، وأسلوب الكاتبة، أنها تنتمي إلى ما يمكن وصفه بالأدب النظيف، الخالي من التلوث الخلقي، والإسفاف، والعري الجسدي، أو اللهث وراء اشباع غريزة القارئ، بل على العكس فإن الرواية ترسّخ لأخلاق وقيم قد افتقدناها، ويكفي أن ندلل على ذلك في مشهد اكتشاف نادية لخيانة زوجها فتحي، أن تشير الكاتبة في اقتضاب مغنٍ "فاتجهت مسرعةً صوب باب الحجرة لتجد سريرًا يضم عناقاً حارًّا بين فتحي وحسنية"، وهو تلميح يغني عن التصريح.
أننا أمام رواية تجسّد حال وطن، وشعب، وتاريخ، وأخلاق وقيم، وسياسة، ومجتمع، وقيم، طوال قرن من الزمن تقريباً، كيف كانوا وكيف أصبحوا، أو بالأحرى كيف كنّا وماذا صرنا إليه. إنها رواية غير عادية، لكاتبة قلمها المبضع وعيناها المرصد والمجهر.
إرسال تعليق