كعب قدم
تيسير النجار
قاصة وروائية مصرية
كعب قدم
سقطت علينا الأضواء ذات مساء لكننا لم نعكسها ابتلعناها بصمت كتل معتمة مغطاة بالطين والرمل على الجانب الشرقي من المنزل، على بعد أمتار قليلة تجد الشقة بجدرانها الأسمنتية والطلاء الزيتي والرسومات الزاهية مغلقة. ولا يدخلها إلا بعض الفتيات في جلبة وضحك وبثياب جميلة هناك في الواجهة المقابلة لنا مسرح صغير عليه رجل وامرأة يرقصان قليلا ويجلسان مرة أخرى. الموسيقى عالية والكثير من الناس يرقصون ويشربون العصائر لكن لم يلتفت إلينا أحد. انسحب الأفراد وراء بعضهم حتى خلا المنزل إلا من رجل وامرأة دخلا الشقة، انطفأت الأضواء لكن الشمس لم تتركنا في الظلام أثارت الكون بجودها.
بعد زمن لم أتمكن من حسابه، أخرجت بيديها علبة صغيرة مشت بجوارنا وهي تدندن بلحن سقطت منه بعض الكلمات لكن صوتها جميل دلفت نحو عشة الدجاج ثم اتجهت نحو الصنبور المنتصب تحت النخلة الوحيدة أيضًا في الفناء وملأت الدلو بالماء. لم تعبأ لوجودنا، على العكس نظرت نحونا بضيق وتعالٍ يليق بجمالها، اصطدم أصبع رجلها المثيرة بأحد الحجارة التي في المقدمة تأوهت ودلكته بيدها ذات الأصابع الرفيعة المخضبة بالحناء والأظافر المطلية عرجت نحو شقتها وتركتنا تلقي علينا الرياح الأتربة.
كنت أنتظر خروجها لتطعم دجاجها أو تودع زوجها، أو يشرق وجهها من النافذة فينير قلبي، ذات صباح خرجت بمكنستها وراحت تنظف الأتربة، لا يليق بها العمل، علقت ذرات التراب برموشها، وتغبر شعرها وبهت سواده، اقتربت منا أزالت الطين مستعينة بالجاروف والمكنسة، مررت يدها الناعمة علينا تحسستني حاولت اقتلاعي؛ عافرت حتى نجحت، مسدتني قليلًا، امتزج القلق بالفرح داخل قلبي هل ستطردني ضمن حملة نظافتها؟!
لاحظت تناقص الحجارة من حولي دق قلبي بعنف لم ولن تسمعه وإن وصل صداه لسابع سماء، وضعتني في أحد الأركان أما بقية الأحجار ففي جانب أخر تجهيزًا لرحيلهم الأبدي، جذبت خرطوم الماء ونظفتني داعبت عريي بأناملها استخرجت الطين من نتوءاتي، كان عيدًا لم يحتفل أحد به سواي.. إنه عيدي، أغلقت الصنبور بعد أن رشت التراب حتى خمد تركتني ثم عادت بصابونة وكرسي صغير وليف من النخلة المجاورة لنا، تأخرت قليلًا وجاءت شعرها يلمع ويسيل الماء على جبينها جلست أمامي وضعت الدلو بجواري، ألصقت قطعة من الصابون بي؛ خلعت أغلقت شبشبها وراحت تفرك باطن قدمها بي توهجت وأحمر كعبها الطري لم تكن بحاجة إليّ، لكنها منحة من القدر مكافأة بعد تشردي وتبول الكلاب الضالة على؛ قبل بناء المنزل كنت مهملًا ومسكنا للتراب وملجًا للحشرات بدلت قدمها بالأخرى خالية من الشقوق، احتكاكها بي يجعلني من بني البشر، ليتني كنت رجلًا لتركها تفعل بي ما تشاء، انتهت سريعًا وذهبت، ظللت أنظر إليها حتى أغلقت الباب، لعقت بعض الزوائد التي بقيت بمسامي يومي..
كل صباح أحتضن كعب قدمها وأدغدغها بخشونتي وتحييني بنعومتها، ذات صباح لم تعبأ بي. كانت تتحدث مع زوجها حرمتني من ملامسة جسدها مثيرة باللون الأسود ووجهها لم يفقد بريقه حقيبة تلو الأخرى تمر أمامي ثم تبعت زوجها صامتة انتظرت حتى المساء لم تأتِ مرت الأيام والليالي كدت أفقد الأمل؛ أحاول الاعتياد على الوحدة، ويا لقسوتها بعد الونس ضجة بالخارج فتح الباب رجال بصحبة زوجها توجهوا نحو الشقة خرجوا بالأثاث ومضوا لم يطمئنوني بشأنها أغلقوا الباب دوني أريد أن أصرخ أنا ضمن أثاثها إن لم تفتقدني سيتذكرني كعب قدمها، لكني أفقت على خطوات عنكبوت على مسامي ولم أصرخ.
إرسال تعليق