الحياة
والشاعر
- بقلم :سيد الوكيل
يقول
الشاعر الإنجليزي ستيفن سبندر (إن الفتى والفتاة اللذان يتبادلان الغرام على مقعد
في حديقة عامة أو في إحدى أزقة الريف لا يعلمان أن برقيات تشق طريقها من لندن في
هذه اللحظة وتمر خلال جسديهما لكي تقرر أن مصير الفتى هو أن ينزع من بين أحضان
فتاته ويلقى به على رمال الصحراء وفى رأسه رصاصة،بينما تساهم الفتاة في إنتاج
الطلقات النارية في مصنع من المصانع الحربية)
العبارة
تقول إن السياسيين يعبثون بمصائر الناس دونما اعتداد بمشاعرهم، وهنا نجد ثنائية
ضدية، تباين في موقفين من مواقف الحياة الإنسانية، موقف الحب وموقف الحرب ،
والموقف الأول هو موقف شعري، والموقف الثاني موقف سياسي، فإذا كان موضوع الشاعر هو
العلاقة بين حبيبين، فإن موضوع السياسي هو اختراق هذه العلاقة.
ومن
ناحية أخرى لا يمكن الفصل بين الموقفين، حيث لا يمكن تصور الحياة إلا وهى في حالة
من التداخل بين المتناقضات،كأن تمر برقيات القتل داخل الأجساد العاشقة.
هناك
إذن عالم داخلي يخصنا وعالم خارجي يفرض أو يقحم نفسه علينا، ومن ثم فوظيفة الشعر ـ
على حد تعبير سبندر ـ هى ألا يبتلع العالم الخارجي عالمنا الداخلي.
كان
(ستيفن سبندر) عضوا بارزاً في اليسار الإنجليزي، وله مواقفه السياسية التي دفعته
إلى العمل النضالي سواء ضد النازية والفاشية أو ضد الديكتاتوريات المستبدة، فمن
المعروف أن سبندر شارك في الحرب الأهلية الأسبانية، ولكن الحرب كانت التجربة
الحقيقية التي صهرت مواقفه السياسية، وكشفت الكثير من حمق التصورات الأيدلوجية عن
طبيعة الحياة التي تقوم على رفع شعارات نبيلة لايمكن تحقيقها إلا على أجساد
الآخرين .
كانت
الحرب بالنسبة إلى سبندر فرصة ليكتشف بشاعة الوعي السياسي الذى يحكم العالم، ومن
ثم يكتشف ذاته الشاعرة وهى تقف مرتبكة بين طموحها الشعري وواقعها السياسي، وبعد
فترة من التأمل ينتهى إلى حكمة بسيطة: (لا يستطيع الشعر أن ينتمي إلى أى حزب من
الأحزاب إلا حزب الحياة).
تعرض
سبندر لنقد حاد من زملاء الحزب، فرد عليهم بكتاب (الشاعر والحياة) عام 1942 أى في
معمعة الحرب العالمية الثانية، وفى ضجيج الهوس العسكري الذي اجتاح العالم وقتها،
ردد المثقفون مقولة: "كل شيء في الحياة، بل الحياة نفسها سياسة" لكن
سبندر يرى أنه متى تحول كل فرد وكل شيء إلى السياسة. فقد هدمت الغايات التي وجدت
من أجلها السياسة، فليست السياسة آلة اجتماعية، وإنما هي مجرد نمط يستطيع كل فرد
أن ينمي إحساسه بالحياة في حدوده، ولا يستطيع الشاعر تقرير موقف الحياة الإنسانية
على وجه واحد وبصورة يقينية مهما كانت الغايات نبيلة، فلا يستطيع الشعر أن يفعل
أكثر من أن يؤكد لنا أن كل من يجور على الحياة يدفع ثمن ذلك غالياً، ومن ثم فالدور
الذي يقوم به الشعر هو دور جمالي بالدرجة الأولى،لأنه ينمى إحساسنا بالحياة التي
نود، دون أن يقدم لنا تصوراً عما يجب أن تكون عليه الحياة.
(والشاعر
الذي يتخذ مبدأً (أيدلوجياَ) أو سياسة تحول بينه وبين تقبله الحياة كما هي، إنما
يفرض حدوداً على نفسه، ويخلق صورة زائفة للحياة، ومهما بلغت رؤيته من الصدق والخير
والجمال، فإنها لن تعيننا على فهم الحياة أو تعديلها، لأنها لم تصدر عن الظروف
الحقيقية التي تعاش فيها الحياة)
بدا
رأى سبندر متواضعاً جداً في تصوره عن وظيفة الشعر، فقوبل بنقد لاذع من هؤلاء الذين
لديهم قناعة بدور نبوي، وقيادي للشاعر من حيث قدرته على تغيير الحياة إلى الأفضل، أولئك
الذين لا يمكنهم الآن أن يفسروا كيف أصبح الشعر في عزلة عن الجماهير التي قام من
أجلها، ولا كيف دخل الشاعر المعاصر رحلة اغتراب مريرة عن العالم؟
ويرى
سبندر أن موقف الشعر لا يختلف كثيراً عن موقف الدين، فالدين إذا قام عليه رجال
تصوروا أنهم يملكون الحقيقة وحدهم، أو أن باستطاعتهم تخليص العالم من الشر، فإنهم
يقعون في نفس الفخ الذى يقع فيه السياسي. أما الشاعر فلا يمكنه أن يمثل سلطة ما
على الوعي، ولا يمتلك يقينا معرفياً، ولكنه رغم ذلك قادر على جعل العالم أكثر
إنسانية.
ولا
يعني هذا أن سبندر يتنكر لدور الدين، بل هو يعترف بأن الدين هو أقوى وسيلة لتنمية
الإحساس بالحياة، ولكنه يرفض بأن يكون الدين مجرد أداة، تمنح للبعض الحق في تميز
مطلق، لقد انتقد سبندر المشروع التنويري الأوربي كله، الذي عمل على خنق الروح
الدينية ولم يأت بالبديل، فكانت النتيجة أنه ترك الناس في حالة من الخواء الروحي،
أما والشاعر ورجل الدين قد تحولا إلى سياسيين، فإن ذلك لن يؤسس لشيء سوى الموت.
إرسال تعليق