حركية الوعي الجمالي


حركية الوعي الجمالي. بقلم سيد الوكيل
حركية الوعي الجمالي. بقلم سيد الوكيل

بقلم: سيد الوكيل

الصراع بين الذهني والحسي شهد حالات توتر في ثقافة البشر عبر التاريخ، وهو في حقيقته صراع بين نمطين من الإدراك يمثل أحدهما- الذهني ـ نمط السلطة في كل أشكالها المركزية، ويمثل الآخر- الحسي- الهامش أيضاً في كل صوره، ولم يعرف التاريخ فضاء يمزج بينهما بنفس قدر الأسطورة، فالتفكير الأسطوري في أحد وجوهه طريقة لإدراك العالم وفهمه عبر مجموعة من القيم المختلفة إلى حد التناقض، فالحقيقة والخيال والذهن والحس والذكورة والأنوثة والخير والشر.. الخ، كل هذا يتشكل في فضاء الأسطورة. لكن العلم انحاز للعقل البشرى ورفض التفسير الميتافيزيقي للحياة، وقد مثلت الحداثة الأوروبية، أو ما يسمونه بعصر الأنوار ذروة انتصار العقل العلمي.

والعقل العلمي بطبيعته تطبيقي وترتيبي ونفعي، يرى الواقع عبر مجموعة من الثوابت تكتسب قيمتها من قدرتها على الإنتاج والعمل وتحقيق رفاهية الإنسان، ومن ثم قامت عمليات من العزل والتصنيف وإنتاج تخصصات دقيقة في كافة مجالات العلوم البحتة، ففي الأدب ـ مثلاً ـ ينهمك النقاد في تحديد قيم الفصل بين الأنواع، وكل قيمة تصبح في حد ذاتها منهجاً يمكن

 دراسة النوع على أساسه، كأن تفصل في الفنون اللغوية بين النثر والشعر، ثم يقسم النثر إلى أنواع منها السرد، وينقسم السرد إلى أنواع منها القصة والرواية والمقال..الخ.

 وهكذا حتى نصل إلى تقسيمات داخل النوع الواحد كأن نقول رواية الريف ـ الرواية الاجتماعية ـ رواية الخيال العلمي، وهذه التقسيمات تتم بالتجاور مع تقسيمات أخرى، مثل الرواية الواقعية والرومانسية، والواقعية نفسها تصبح نقدية أو اشتراكية أو اجتماعية الخ حتى لتصبح سحرية ورقمية ومستقبلية أخيراً.

إن هذه الذهنية المغرمة بعمليات الاشتقاق والتوليد والتفكيك، هي ذهنية الحداثة الأوروبية التي نجحت في إبهار العالم بإنتاج معطيات جديدة وصلت إلى حد التخمة المرهقة للذهن نفسه فلم  يعد قادراً على احتمال هذه الآلية التوليدية التي لا تنتهي، بل ولم يعد قادراً على فهم العالم من حوله.

 لكن أخطر ما أنتجته هذه الآلية هي التكنولوجيا التي يمكنها التعامل مع الجزيئات والفوتونات والأجسام متناهية الصغر، وأصبح من الممكن رؤيتها في لحظات انتقالها أو انشطارها أو تولدها. بمعنى أنه أمكن التحكم في صور الطاقة والصورة التلفزيونية تمثيلاً لذلك، يمكنها أن تنقل صورة الأجسام وحركتها بل وتنقل الصوت والضوء بوصفها صوراً للطاقة تم تحولها إلى صور أخرى يمكن التحكم فيها ونقلها في اختراق مثير لقوانين الزمان والمكان.

لهذا فإن تكنولوجيا الصورة ليست مجرد نقلة نوعية في سلسة التطور العلمي، بل هي ثورة حقيقية في تاريخ البشرية مماثلة إن لم تكن أخطر ـ لاختراع الكتابة، وعلينا ملاحظة أن تاريخ الجنس البشرى كله ارتهن بالكتابة، التي بدأت كوسيط لنقل المعلومات أو بمعنى أصح حفظها في صور ورموز تعيش مع الزمن ويمكن نقلها بين الأماكن ليفيد منها آخرون في أماكن وأزمنة أخرى، ثم تحولت الكتابة إلى أداة للتفكير، فلم يعد ممكنا أن يتطور الفكر البشرى بدون الكتابة والكتب والمعلومات التي تنقلها الكتابة لنا، ومن ثم يمكن تثبيتها واسترجاعها وعزلها وترتيبها وتصنيفها، إن أسطورة العقل ( الذي لا نعرف ما هو ولا أين هو) نهضت أساساً على وثائقية الكتابة.

الصورة لا تنقل المعلومات في صورتها المجردة، بل في صورتها المجسدة، والفرق بين الاثنتين تماماً كالفرق بين وصف الجبرتي للحملة الفرنسية على مصر، ومشاهداتنا للحملة الأمريكية على العراق، فأنت في الأولى تعيش متعة ذهنية تخيلية في التاريخ، وفى الثانية ترى وتحس وتعيش الأجساد والغضب واللهب والدم والحديد لأنه يأتيك في التو واللحظة متجاوزاً الزمان والمكان، بل ومتجاوزاً قدرات الخيال ومعطلاً له، فالخيال هنا لا محل له من الإعراب.

هل يمكن تصور أن البشرية سوف تبدأ تاريخاً جديداً مع الصورة، تاريخ محتشد بالحسية وبلا خيال ؟! هذا وارد طبعاً، لكن الأمر قد لا يتوقف عند هذا.


Post a Comment

أحدث أقدم