جميل عطية إبراهيم، بين الشرق والغرب






بقلم: سيد الوكيل

 

كان اسم جميل عطية إبراهيم ومازال، واحداً من أبرز كتاب الحساسية الجدية، تلك التي تشير إلى نفسها بين نخبة من كتاب الستينيات، وعبرت عن نفسها عبر جماعة ( جاليري 68). وقدمت كتّاباً مازالوا يشكلون صلب المشهد الأدبي لمصر حتى الآن.


 غير أن تجربة جميل عطية إبراهيم خاضت منعطفاً خاصاً، جعلها في كثير من الأحيان بعيدة عن مظاهر الاحتفال الإعلامي التي صاحبت كتّاب هذا الجيل، إذ يبدو أن سنوات الاغتراب التي عاشها بعيداً عن مصر، في المغرب أولاً، ثم في سويسرا حتى وافته المنية هناك عام 2020م. كانت سفرياته قد نالت -بعض الشيء - من حضوره داخل المشهد الأدبي، ولكنه حتى الآن، يظل حاضراً في ذاكرة السرد المصري، منذ أن قدم روايته الأولى ( أصيلا) فحظيت بأصداء نقدية لافتة، تلك التي كتبها في دولة (المغرب) متأثراً بطبيعة الحياة فيها. ثم تواترت بعد ذلك مجموعاته القصصية ورواياته التي كان أبرزها رواية (1952م) وقد بدأ بها ثلاثية تناولت تجربة ثورة يوليو، وتأثيراتها وتفاعلات المثقفين معها، كما اشتهر جميل عطية إبراهيم بتناوله لحيوات الطبقات المهمشة.. وكان أول من لفت الانتباه إلى ظاهرة سكني المقابر، وتناولها أدبيا كاشفاً عن مجموعة من المفارقات المدهشة لموقف الإنسان بين الحياة والموت، ثم كتب (خزانة الكلام ، ونخلة على حافة المسألة الهمجية) وقد عرفت هذه الروايات بثلاثية العولمة، حيث تناولت تجربة السفر إلى الخارج الأوربي، وركزت على قلق المثقف العربي، أمام تحديات عصر جديد للغرب.


عّبر جميل عطية إبراهيم عن تجربة الاغتراب داخل الوطن في كثير من أعماله، لكن الطريف أن تجربة السفر والإقامة الطويلة خارج الوطن، لم تضع آثارها في أعماله كمرادف للاغتراب على نحو ما نجد عند رفيق تجربته (بهاء طاهر) وكذا عند كتّاب آخرين عاشوا نفس تجربة الحياة في أوروبا لسنوات بعيداً عن الوطن، فتناولوا موضوع العلاقة بين الشرق والغرب في أعمالهم مشيرين إلى دواعي الاغتراب والعزلة فيها.


يبدو أن جميل عطية إبراهيم، هذا المسيحي المصري، فرعوني الملامح، قليل الكلام كأنه أحد كهنة آمون، كان يعالج مشاعر الاغتراب وكأنما الكتابة هي وطنه، يقيم فيها طوال الوقت. الطريف أنه كان يختزن الكتابة طوال إقامته في الخارج حتى إذا عاد إلى وطنه يفرغها، فكتب جل رواياته في مصر خلال زياراته القصيرة لها، وهي زيارات موسمية، حرص عليها بانتظام، وأثناء ذلك يظهر على مقهى (زهرة البستان) يدخن الشيشة، ويلعب النرد، ويتابع كتابات الشباب بحرارة نفتقدها عند الكثيرين من كتاب جيله الذين عاشوا أزمة المثقف العربي بكل جوارحهم، حتى استغرقوا في اغترابهم الداخلي، فتجربة جميل عطية إبراهيم الأدبية ظلت مخلصة لمصريتها منفتحة على الحياة بكل متغيراتها.


 جاءت روايته الأخيرة ( شهر زاد على بحيرة جنيف) التي صدرت عن دار الهلال متزامنة مع بلوغه سن السبعين، تتويجاً لرحلة طويلة من الإبداع المتميز، والعمل الثقافي الخلاق المنفتح على آفاق معرفية تميزت بالتعدد والتنوع، إذا أنه آمن منذ البداية بوحدة الفنون، لهذا أكب على دراسة الموسيقى والفنون التشكيلية والمسرح، وعدد من اللغات الأجنبية وآدابها، ثم جاءت تجربة سفره إلى جنيف واتصاله بثقافة الغرب عن قرب، وعمله بالمكتب الإعلامي لمنظمة الأمم المتحدة، لينفتح أمامه العالم على مصراعيه، فتزداد تجربته الثقافية ثراء واتساعاً، لهذا كان من المتوقع أن تأتى رواية (شهرزاد على بحيرة جنيف) تمثيلاً لهذا التاريخ الثرى بآفاقه الثقافية والمعرفية. ولا غرابة في ذلك، فهو يمتلك هذه الرؤية الموسوعية التي مكنته من الجمع بين أطراف ثقافية ومعرفية، متقاطعة تارة ومتشابكة أخرى وهو يخوض موضوع العلاقة بين الشرق والغرب غير أنه من التسرع والتبسيط  قراءة العنوان ( شهرزاد على بحيرة جينيف) كما لو كان ثنائية ضدية، تنهض على التناقض بين الشرق ممثلا في شهرزاد، والغرب ممثلا في جينيف.


 وعلى العكس، نحن بإزاء رواية تضع الشرق في قلب الغرب، لتختبر العلاقة بينهما عبر عمليات التفاعل، كاشفة عن حالات من سوء الفهم، والالتباس بين المفاهيم، لهذا فالرواية تطرح رؤية تحليلية، لتبدو أكثر تفاعلاً وديناميكية، ربما لأن معاني العزلة والاغتراب التي نراها كبكائيات سردية في كثير من روايات السفر، لا مبرر لها هنا، بقدر ما نحن في حاجة لكي نفهم تاريخية هذه العلاقة المعقدة بين الشرق والغرب. فهي الآن لم تعد مبررة، في عالم تتماهى فيه الحدود الزمانية والمكانية.


صحيح أن علاقة الشرق بالغرب كانت طوال الوقت مفعمة بسوء الفهم و الهواجس الغامضة التي تفضي إلى العدوانية، ولكنها الآن أكثر تركيباً وتعقيداً،  ولم تعد بالبساطة التي عولجت بها في الأدب العربي عند كتاب الجيل الأول من أمثال (توفيق الحكيم، ويحي حقي) فعبرت عن نفسها بموقف وسطي وكأن ثم أمكانية للتوافق بين الشرق والغرب.  


وربما تكون قد تجاوزت - أيضاً - الموقف المبني على أساس سیاسی معبق بملامح امبريالية وعنصرية، كتلك التي نجدها عند الطيب صالح في رائعته ( موسم الهجرة إلى الشمال) أو عند وبهاء طاهر في ( الحب في المنفى). أما رواية (شهرزاد على بحيرة جنيف) فهي تضع في اعتبارها الوضعية الجديدة والأكثر تعقيداً للعلاقة بين الشرق والغرب، والتي تتمثل في الموقف بعد الكولونيالي (بعد لاستعماري) من حيث قدرة الثقافة الشرقية على التأثير في ثقافة الغرب بدرجة ما. فتحريك الموقف الثقافي بصورة إيجابية، نتيجة لتغير الوضعية الاجتماعية المتمثلة في المجتمع المدني، ونضوج تجربة التعايش التي تمارسها الأقليات الشرقية في أوروبا، تلك التي تتجلى في مظاهر ثقافية تمنح هذه الأقليات درجة من المشاركة والتعبير عن نفسها، وانكشاف العالم بتماهي الحدود الزمكانية التي أحدثتها تكنولوجيا الاتصال، بحيث أصبح العالم قريةٍ صغيرة. هذا فضلا عن تواتر الهجرات إلى الغرب الذي غذى، وغير أنماط التفاعل الثقافي، وخلق أوضاعاً جديدة صارت مقلقة للغرب نفسه حتى استنفرت هواجسه من غزو شرقي مضاد ومؤثر على أنماط الحياة الثقافية فيه. فعندما انبهر الطهطاوي بثقافة الغرب ظل شاغله هو نقل هذه الثقافة إلى مجتمعاتنا من طرف واحد، واستجابة لنظرة دونية تسلم بأوروبا مركزاً حضارياً للعالم، ولم يخطر بباله يوما أن مشكلة الحجاب ستكون موضوعا ثقافياً مؤرقا في فرنسا على نفس مستوى مشكلة سكان الضواحي، الذين عبروا عن دورهم المؤثر في انتخابات الرئاسة الفرنسية خلال السنوات السابقة.


 كل هذا يقابله نكوص كبير في الموقف السياسي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية كصورة للإمبريالية الجديدة، وسياسة القطب الواحد التي تفرض شروطها على أوروبا نفسها، وتحيلها إلى هامش بعد أن ظلت لقرون عديدة هي مركز العالم، فضلاً عن اتساع الهوات الاقتصادية نتيجة لسياسات العولمة، التي تعيد تقسيم العالم على أساس اقتصادي، بما يضيف بعداً جديداً من الغضب على طبيعة العلاقة بين الشرق والغرب ويجعلها أكثر تعقيداً، ومن ثم تلتفت الرواية (شهرزاد على بحيرة جنيف) إلى هذه الوضعية المركبة، فالشرق لم يعد كتلة صماء ومعنى كلى في مقابل الغرب كطرفي نقيض، والغرب نفسه لم يعد فضاء متعددا، بل يكاد يختزل في أمريكا وحدها، بما يحيل دولة كبرى مثل فرنسا، كانت طوال الوقت ماثلة في وعينا صورةً مثالية عن الغرب الأوروبي ومركزه - إلى هامش، وصورة مهتزة لأوروبا القديمة، فيما تكتفي بريطانيا العظمى بدور الظل الأمريكي، حتى توصف أوروبا بالقارة العجوز.


 إن قواعد اللعبة كلها قد تغيرت ولم يعد من الممكن معالجة العلاقة بين الشرق والغرب على مقومات بسيطة تحيلها إلى ثنائية ضدية، ولعل جميل عطية إبراهيم بوجوده داخل المطبخ السياسي بالأمم المتحدة، وحياته في جنيف مركز القرارات الاقتصادية الكبرى، وخزانة أموال العالم، حيث تستثمر ثروات الشرق وعوائد البترول في صناعة صورة جديدة للغرب والشرق معا، كل هذه الممكنات التي تحصّل عليها جميل عطية إبراهيم تظهر في روايته، وفي صيغة جدلية يتداخل فيها الثقافي والسياسي والاقتصادي، عبر مواقف ومفارقات يشيع فيها طابع الباروديا (المحاكاة الساخرة) التي هي أحد مظاهر كتابة ما بعد الحداثة، إذ تصبح مهمتها فضح الصور الكلية والكبرى وتعريتها بالكشف عما تنطوي عليه من مفارقة وخواء، عندما تنتقل شهرزاد بعالمها التقليدي المترع بالسحر والخرافة وقماقم الجان وأبسطة الريح، لتدخل في مفارقات مثيرة مع ثقافة مؤسسة على العقل العلمي. لكن عالم شهر زاد يمكنه فضح ما تنطوي عليه ثقافة الغرب من مسلمات وفوضى تصل إلى حد العبث.


 إن العبث واللامعنى، يظهر في مفتتح الرواية، في حكاية مصرية عن حمار يطير، ويعلق بساري المحافظة، ويظل ينهق دون أن يلتفت إليه أحد. وثم حكاية أخرى تأتي في نهاية الرواية، لا تقل في دلالتها عن حكاية الحمار، إنها قطة سقطت من شرفة سويسرية فأقيمت لها طقوس العزاء ودفنت في مراسم أبهة، لا ينالها كثير من البشر في مكان آخر من العالم. هكذا.. الرواية تفضح منظومة القيم الغربية وتسقط كثيراً من مسلماتها.

 


Post a Comment

أحدث أقدم