مَلكْ والجدة المَلِكة
بقلم: عاطف محمد عبد المجيد
في هذه الصورة تحمل جدتي، عفوًا سِتي كما تُنادى الجدة في الصعيد، " أماثل عبد الجليل " مَلَكْ ابنة حفيدها إبراهيم أبو العيون عبد المجيد. كانت ستي تكره الإناث، ولا أدري لماذا، رغم كونها أنثى هي أيضًا. العجيب أنها كانت تحب بنتيّ " رؤى وجمان " وتفرح حينما كانتا تذهبان للسلام عليها، كانت تعاملهما بعطف، وكثيرًا ما كانت تعطيهما نقودًا ليشتريا ما تريدان، كما كانت تحب ملك.
يبدو أنها أحبت رؤى وجمان لأنها تحبني أنا، وأحبت ملك لأنها أحبـت إبراهيم. كانت تحبني، وتنتقد تصرفات أبي معي حين كان يضايقني، أو يتشاجر معي، رغم كونه هو ابنها، وأنا ابن ابنها. رحلت ستي بعد أن أوشكت على الاقتراب من المائة عام، وظلت حتى قبل وفاتها بأعوام قليلة تصنع أشياءها بنفسها، كانت تطبخ وتعدُّ ما تريد أن تشربه، وتنظف بيتها، رغم وجود زوجات أبنائها وبناتهم بالقرب منها، لكنها كانت تفضّل أن تفعل كل هذا بيدها، كانت يرحمها الله لا تحب الكسل، ولا تريد أن تخلد إلى الراحة إلا بعد أن تُنهي كل ما هو مطلوب منها. غير أن ألم المفاصل أقعدها على كرسي متحرك في أواخر شهورها، مما سبب لها أزمة نفسية كبيرة، خاصة وهي التي كانت تحب الحركة والنشاط، وتصحو كل يوم مبكرًا، وتذهب إلى هنا وهناك، لقد صعُبت عليها نفسها، وهي النشيطة، أن ترى نفسها قعيدة على كرسي لن تتحرك إلا به.
هنا كانت ستي تجلس أمام بيتها، وكنت أنا وبقية أحفادها وجيرانها نأتي، معًا أو كل بمفرده، لنجلس معها تحكي لنا عن ذكرياتها، وعن الماضي الذي عاشته، وكان الناس فيه متحابين ولا مكان فيه لأحد يكره أحد. كانت تحكي لنا عن قلة النقود وقتها وماذا كانوا يأكلون ويشربون، وكيف كانوا يعيشون، وكيف كانت هي تدير بيتها وتربي أبناءها الأربعة الذين تركهم الله لها أحياءً بعد أن مات لها أولاد كثيرون، وكان أبي هو أول من عاش لها، ثم عمي محمود الذي غادر القرية وأقام بالقاهرة بعد أن تزوج بقليل، وعمي أبو العيون جد ملك، وعمتي الوحيدة حميدة، التي كانت تحكي لي أنني كنت أحبها كثيرًا وأنا طفل وكنت أذهب إليها حبوًا لتطعمني وتجعلني أنام في حِجرها.
كانت ستي، يرحمها الله، قوية وحكيمة ويؤخذ رأيها في أشياء كثيرة، كما كانت صارمة وحازمة في مواقف كثيرة، مثلما احتفظت بخفة دمها حتى وفاتها. لقد امتازت ستي بأنها لا تخاف من أحد، ولا تخجل حين تنتقد وضعًا خطأ. لقد سكنت في منطقة زراعية غير مأهولة بالسكان، وتحيط بها الجنائن المليئة بالوحوش والضباع، ورغم ذلك لم تكن تخاف لا من بشر ولا من حيوان. في هذا المكان كانت ستي أماثل عبد الجليل تجلس، وكنت أجلس معها فيه، نحكي ونتحدث عن أشياء كثيرة حاضرة وماضية، عابرين على شئون الأقارب وما يحدث في حياتهم وأخبارهم.
كانت يرحمها الله رحمة واسعة تحبني وكنتُ أحبها كثيرًا درجة أني حتى الآن، وحين أكون هناك في مسقط رأسي أفكر في الذهاب إلى بيتها لأجلس معها لنتسامر، لكني أكتشف بعد أن أكون قد عزمت على الذهاب إليها أنها رحلت، وأنني إن ذهبت إلى بيتها فلن أجدها هناك تنتظرني ببسمتها الصافية، مادةً يدها المنقوش عليها الوشم لتسلّم عليّ، وتدعوني للجلوس بجوارها على الدكة الخشبية، سائلة إياي ماذا أريد أن أشرب.
نعم رحل جسد أماثل عبد الجليل منذ بضع سنوات، لكن روحها ما زالت تحلّق حولي، وما زالت جلساتي وأحاديثي معها حية في ذاكرتي التي ستظل أماثل عبد الجليل تسكنها حتى رحيلي. أما ملك إبراهيم فقد كبرت وهي تملأ الآن المكان لعبًا وحضورًا، محافظة على امتداد إناث العائلة التي كانت جدتها تكرههن إلا قليلا.
إرسال تعليق